عدد رقم 4 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الصبي صموئيل  

هناك ثلاثة أسئلة هامة تُطرح أمامنا، ولا سيَّما في أزمنة الضعف والخراب:

   أولاً: “بيت الله وتقديره”، كيف يمكننا أن نتعامل مع بيت الله رغم وجود ما يُحبط ويُفشِّل؟

   ثانيًا: “حياة القداسة ونتيجتها”، إلى أي مدى هناك ضرورة لحياة القداسة والنقاء أمام الله والناس؟

   ثالثًا: “مصداقية الخدمة وتأثيرها”، ما أهمية أن ينطبق ما أقوله على ما أعيشه عمليًا؟

نجد إجابات هذه الأسئلة الثلاثة في ثلاث عبارات قيلت عن صموئيل:

العبارة الأولى: “بيت الله وتقديره”
   «وَكَانَ الصَّبِيُّ يَخْدِمُ الرَّبَّ أَمَامَ عَالِي الْكَاهِنِ. وَكَانَ بَنُو عَالِي بَنِي بَلِيَّعَالَ لَمْ يَعْرِفُوا الرَّبَّ» (1صم2: 11، 12).
إننا هنا أمام صبي حديث السن، فهو بالكاد عَبَر سن الفطام من أمه، وبدأ يخطو عتبات الصبا، ويتعلم كيف يعتمد على نفسه في تدبير شؤونه الخاصة.  وأيضًا حديث الإيمان، فخبرته الروحية ضعيفة، وإدراكه في أمور الله قليل، فعندما ناداه الرب أكثر من مرة لم يستطع تمييز صوته، ولا عرف أن الرب يريد أن يتكلم معه.  إلا أنه اختبر قول إرميا: «جَيِّدٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يَحْمِلَ النِّيرَ فِي صِبَاهُ» (مرا 3: 27). والذي في يومه أيضًا استصغر نفسه أمام إرسالية الرب له قائلاً: «آهِ يَا سَيِّدُ الرَّبُّ إِنِّي لاَ أَعْرِفُ أَنْ أَتَكَلَّمَ لأَنِّي وَلَدٌ»، وكان تشجيع الرب له واضحًا وصريحًا إذ قال له: «لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ، لأَنَّكَ إِلَى كُلِّ مَنْ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِ تَذْهَبُ وَتَتَكَلَّمُ بِكُلِّ مَا آمُرُكَ بِهِ» (إر1: 6، 7).  لقد أدرك إرميا روعة حمل المسؤولية في السن المبكرة، الأمر الذي أدركه أيضًا الرسول بولس، وشجَّع به ابنه تيموثاوس بعد ذلك قائلاً له: «لاَ يَسْتَهِنْ أَحَدٌ بِحَدَاثَتِكَ، بَلْ كُنْ قُدْوَةً لِلْمُؤْمِنِينَ فِي الْكَلاَمِ، فِي التَّصَرُّفِ، فِي الْمَحَبَّةِ، فِي الرُّوحِ، فِي الإِيمَانِ، فِي الطَّهَارَةِ» (1تي4: 12).

وإن كان صموئيل صغير السن، فإن أجواء الخدمة كانت رديئة جدًّا، فشركاء الخدمة هم أولاد عالي، والذي يقول الوحي عنهم صراحة: «لم يعرفوا الرب»، لقد كان صيتهم رديء للغاية ليس فقط فيما يختص بأمور الله، واستهانتهم بما يُقدِّمه الشعب من تقدمات، حتى أن غلمانهم كانوا يأخذون من التقدمات ما يحلو لهم بكل تبجح وجرأة (1صم2: 12-17)، لكن أيضًا ممارستهم الشر والرذيلة علنًا في أقدس مكان؛ أمام باب خيمة الاجتماع دون خجل أو حياء (1صم2: 22)! كما أن الشعب نفسه لم يكن أحسن حالاً فإزاء تعدي أولاد عالي على التقدمات، “استهان الشعب تقدمة الرب” (1صم2: 17).  نعم لم تكن ظروف الخدمة لصموئيل سهلة على الإطلاق.

لكن إن تساءلنا: كيف لم تؤثر هذه الأمور على صموئيل؟ كيف استطاع أن يواجه هذه التحديات؟ نجد الإجابة فيما تركه أباه من مثال رائع في تقدير بيت الرب، واهتمامه في تقديم العبادة والسجود فيه رغم ما كان يواجهه من محبطات ومفشلات أيضًا، فنقرأ عنه: «وَكَانَ هَذَا الرَّجُلُ (ألقانه) يَصْعَدُ مِنْ مَدِينَتِهِ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ لِيَسْجُدَ وَيَذْبَحَ لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي شِيلُوهَ. وَكَانَ هُنَاكَ ابْنَا عَالِي: حُفْنِي وَفِينَحَاسُ، كَاهِنَا الرَّبِّ» (1صم1: 3).  وكما رأينا في الحديث عن خدمة صموئيل في بيت الرب جملة اعتراضية عن أولاد عالي، نجد هنا في الحديث عن عبادة وسجود ألقانة في بيت الرب جملة اعتراضية أيضًا عن أولاد عالي!

وكأن الروح القدس أراد أن يُسلط الضوء على التحديات التي كانت تواجه ألقانه في ذهابه السنوي إلى بيت الرب ليُعيِّد ويسجد للرب.  نعم إنه كان يذهب إلى شيلوه وهو يعلم ما يحدث هناك، وأن ما يُقدِّمه من ذبائح قد يُنهب ويُسرق ويُؤخذ غصبًا من غلمان أولاد عالي، إلا أنه لم يكف عن الصعود إلى بيت الرب.  بل إنه لم يجعل المعطلات الطبيعية تحول دون صعوده كل سنة إلى بيت الرب، فعندما رفضت حنة الصعود معه إذ كان صموئيل صغيرًا ولم يُفطم بعد، قال لها: «اعْمَلِي مَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْكِ. امْكُثِي حَتَّى تَفْطِمِيهِ. إِنَّمَا الرَّبُّ يُقِيمُ كَلاَمَهُ» (1صم1: 21-23).
وهكذا تعلَّم صموئيل من طفولته من أبيه تقدير بيت الرب، والحرص في أن يعيد ويذبح في بيت الرب، رغم التحديات والمفشلات.  وها نحن نراه يخدم في بيت الرب رغم ما يوجد أيضًا من تحديات ومفشلات.

وهذا يُذكرنا بامرأة أرملة عاشت في زمن وجود الرب يسوع بالجسد على الأرض، وحال بيت الرب آنذاك لم يكن أفضل حالاً مما كان في أيام صموئيل، ففي بداية خدمة الرب صار البيت “بيت تجارة” (يو2: 16)، غير أنه لم يقف عند هذا الحد، بل نجده قد وصل في نهاية خدمة الرب إلى حالٍ أردأ إذ أصبح “مغارة لصوص” (مت21: 13)! لكن في وسط هذا الجو الكئيب تبرز هذه الأرملة الفقيرة المسكينة، ونراها تذهب إلى ذات البيت لتُقدم عطاياها فيه، بل نراها لا تُقدم من فضلاتها بل من أعوازها، وبتعبير الرب كل معيشتها!! ونجد الرب نفسه يمدحها ولا يعتبر تصرفها هذا غير حكيم أن تضع كل ما تملك في هذا البيت، رغم علمه ما كان يدور فيه من سرقة واختلاس (لو21: 1-4).  فطالما هذا البيت هو بيت الرب، فمكاني هو أن أسجد فيه، وأخدم فيه، وأقدم عطاياي فيه.

ولكن ما أجمل أن نجد وسط هذه التحديات مشجعات أيضًا إذ نقرأ عن صموئيل أنه كان يخدم الرب أمام عالي الكاهن، فيبدو أن عالي الذي أخفق في تربية أولاده وضع كل اهتمامه وتركيزه في صموئيل واعتبره ليس فقط صبيًا يخدم بل ابنًا له يخدم، وهكذا كان يناديه (1صم3: 6).  لقد وضع عالي كل خبرته وإمكانياته في هذا الصبي والذي لا شك كان محبوبًا لديه، بل أستطيع أن أقول كان مفضلاً عنده.  وما من شك أن صموئيل استفاد كثيرًا من هذا المعلم الشيخ، واستقى منه الكثير عن كيفية التعامل في بيت الرب، بل ومع صاحب البيت؛ الرب نفسه.  ولا ينبغي أن ننكر النواحي الإيجابية في عالي بسبب تهاونه مع أولاده.

العبارة الثانية: “حياة القداسة ونتيجتها”
   «وَكَانَ صَمُوئِيلُ يَخْدِمُ أَمَامَ الرَّبِّ وَهُوَ صَبِيٌّ مُتَمَنْطِقٌ بِأَفُودٍ مِنْ كَتَّانٍ. وَعَمِلَتْ لَهُ أُمُّهُ جُبَّةً صَغِيرَةً وَأَصْعَدَتْهَا لَهُ مِنْ سَنَةٍ إِلَى سَنَةٍ عِنْدَ صُعُودِهَا مَعَ رَجُلِهَا لِذَبْحِ الذَّبِيحَةِ السَّنَوِيَّةِ» (1صم2: 18: 19).
في العبارة الثانية نرى صموئيل ما زال صبيًّا يخدم الرب، وإن كان منظره تغيَّر عما كان عليه في طفولته، فها نحن نراه من الآن فصاعدًا لا يُرى إلا وهو متمنطق بأفود من كتان.  تلك الثياب المميزة ببياضها الناصع! فإن كان صموئيل في العبارة الأولى تعلم أن يحمل النير في صباه، فها هو هنا يتعلم كيفية ارتداء تلك الثياب البيضاء، والتي تحتاج منه كصبي إلى كثير من الحرص والاعتناء.  فلا يجوز له أن يمارس أي أمور حتى وإن بدت أنها شرعية لا شر فيها طالما يمكن أن تعرض ثيابه للاتساخ.  لقد تعلم ما أشار إليه الرسول بولس لاحقًا: «كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي لَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تُوافِقُ. كُلُّ الأَشْيَاءِ تَحِلُّ لِي وَلَكِنْ لَيْسَ كُلُّ الأَشْيَاءِ تَبْنِي» (1كو10: 23).

وجميل أن نرى أن ما علَّم به الرسول بولس مؤمني كورنثوس طبَّقه هو على نفسه، ومارسه في حياته، فنسمعه يقول: «أُدَرِّبُ نَفْسِي لِيَكُونَ لِي دَائِمًا ضَمِيرٌ بِلاَ عَثْرَةٍ مِنْ نَحْوِ اللهِ وَالنَّاسِ» (أع24: 16).  وهكذا نسمعه يقول لمؤمني تسالونيكي: «فَإِنَّنَا لَمْ نَكُنْ قَطُّ فِي كَلاَمِ تَمَلُّقٍ كَمَا تَعْلَمُونَ، وَلاَ فِي عِلَّةِ طَمَعٍ. اللهُ شَاهِدٌ ... أَنْتُمْ شُهُودٌ، وَاللهُ، كَيْفَ بِطَهَارَةٍ وَبِبِرٍّ وَبِلاَ لَوْمٍ كُنَّا بَيْنَكُمْ أَنْتُمُ الْمُؤْمِنِينَ... كَيْفَ كُنَّا نَعِظُ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْكُمْ كَالأَبِ لأَوْلاَدِهِ، وَنُشَجِّعُكُمْ» (1تس2: 5،10، 11). 

وجدير بالملاحظة أن الرسول عندما أشار إلى “كلام التملق”، والذي يمكن للناس أن يُميزوه، قال «كما تعلمون»، وعندما أشار إلى “الطمع”، وهو أمر خفي داخلي قد لا يستطيع الناس أن يميزوه، قال: «الله شاهد»، وعندما تكلم عن كيف كان يسلك “بطهارة وببر وبلا لوم”، وهي أمور يمكن أن تكون ظاهرة أو مخفية قال «أنتم شهود والله».

وجميل أن صموئيل من نعومة أظفاره تعلم أن يعيش طاهرًا نقيًّا أمام الله والناس، فكان له بعد أن شاخ أن يقف بجسارة أمام الشعب ويقول لهم: «أَنَا قَدْ سِرْتُ أَمَامَكُمْ مُنْذُ صِبَايَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ. هَأنَذَا فَاشْهَدُوا عَلَيَّ قُدَّامَ الرَّبِّ وَقُدَّامَ مَسِيحِهِ: ثَوْرَ مَنْ أَخَذْتُ، وَحِمَارَ مَنْ أَخَذْتُ، وَمَنْ ظَلَمْتُ، وَمَنْ سَحَقْتُ، وَمِنْ يَدِ مَنْ أَخَذْتُ فِدْيَةً لأُغْضِيَ عَيْنَيَّ عَنْهُ، فَأَرُدَّ لَكُمْ؟ فَقَالُوا: لَمْ تَظْلِمْنَا وَلاَ سَحَقْتَنَا وَلاَ أَخَذْتَ مِنْ يَدِ أَحَدٍ شَيْئًا. فَقَالَ لَهُمْ: شَاهِدٌ الرَّبُّ عَلَيْكُمْ وَشَاهِدٌ مَسِيحُهُ الْيَوْمَ هَذَا، أَنَّكُمْ لَمْ تَجِدُوا بِيَدِي شَيْئًا. فَقَالُوا: شَاهِدٌ» (1صم12: 2-5).  وهكذا استطاع صموئيل أن يستمع إلى نصيحة الجامعة: «لِتَكُنْ ثِيَابُكَ فِي كُلِّ حِينٍ بَيْضَاءَ وَلاَ يُعْوِزْ رَأْسَكَ الدُّهْنُ» (جا9: 8)، فانطبق عليه كلمات داود: «كَهَنَتُكَ يَلْبِسُونَ الْبِرَّ، وَأَتْقِيَاؤُكَ يَهْتِفُونَ» (مز132: 9).

وما أجمل أن يُذكر بالارتباط بذلك ما كانت تفعله أمه حنة، إذ كانت تعمل له جبَّه جديدة من سنة إلى سنَّة، لأنه ببساطة كان ينمو ويكبر.  وكانت هناك حتمية أن يغير الجبة لتتناسب مع نموه، وهو أمر جدير بالاعتبار.  فعلينا أن ندرك أن هناك ارتباطًا وثيقًا بين حياة الطهارة والقداسة “أفود من كتان”، وبين حالة النمو.  وهذا يُفسِّر لنا السبب في أن هناك بالأسف بعض المؤمنين لا نلحظ نموهم الروحي من سنة إلى سنة، بل ترى أن نموهم يكاد يكون متوقفًا رغم السنين! وقد يكون أحد الأسباب الرئيسية هو عدم اهتمامهم بحياة القداسة، وما أروع ما قيل عن صبي آخر بهذا الصدد، هو بحق مثال الكمال؛ شخص الرب تبارك اسمه: «وَأَمَّا يَسُوعُ فَكَانَ يَتَقَدَّمُ فِي الْحِكْمَةِ وَالْقَامَةِ وَالنِّعْمَةِ عِنْدَ اللهِ وَالنَّاسِ» (لو2: 52).
                                                                 
                                                                             (يتبع)



© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com