رابعًا: بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ ...
(مر4: 24؛ مت7: 2؛ لو6: 38)
إن القراءة المتأنية للأصحاح الحادي عشر من سفر صموئيل الثاني تُمكننا مِنْ ملاحظة أنه لم تُذكر فيه كلمة واحدة عن الرب. بينما نلاحظ تكرار كلمة “أَرْسَلَ” سبع مرات بالارتباط بداود (ع1، 3، 4، 6 (مرتين)، 14، 27). وثلاث مرات بالارتباط بيوآب (ع6، 18، 22). ومرة بالارتباط ببَثْشَبَع (ع5). كما أن كلمة “رُسُلاً” و“الرَّسُول” تُذكر خمس مرات (ع4، 19، 22، 23، 25).
«وَكَانَ ... فِي وَقْتِ خُرُوجِ الْمُلُوكِ، أَنَّ دَاوُدَ أَرْسَلَ يُوآبَ وَعَبِيدَهُ مَعَهُ ... فَأَخْرَبُوا بَنِي عَمُّونَ وَحَاصَرُوا رَبَّةَ ... وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ ... وَتَمَشَّى عَلَى سَطْحِ بَيْتِ الْمَلِكِ، فَرَأَى ... امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ ... فَأَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ ... فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا ... فَاضْطَجَعَ مَعَهَا ... وَحَبِلَتِ الْمَرْأَةُ، فَأَرْسَلَتْ وَأَخْبَرَتْ دَاوُدَ ... فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى يُوآبَ يَقُولُ: أَرْسِلْ إِلَيَّ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ. فَأَرْسَلَ يُوآبُ أُورِيَّا إِلَى دَاوُدَ ... وَفِي الصَّبَاحِ كَتَبَ دَاوُدُ مَكْتُوبًا إِلَى يُوآبَ وَأَرْسَلَهُ بِيَدِ أُورِيَّا. وَكَتَبَ فِي الْمَكْتُوبِ يَقُولُ: «اجْعَلُوا أُورِيَّا فِي وَجْهِ الْحَرْبِ الشَّدِيدَةِ ... فَيُضْرَبَ وَيَمُوتَ ... وَمَاتَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ ... فَأَرْسَلَ يُوآبُ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ ... وَأَوْصَى الرَّسُولَ ... فَذَهَبَ الرَّسُولُ وَدَخَلَ وَأَخْبَرَ دَاوُدَ بِكُلِّ مَا أَرْسَلَهُ فِيهِ يُوآبُ. وَقَالَ الرَّسُولُ لِدَاوُدَ ... مَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ ... فَقَالَ دَاوُدُ لِلرَّسُولِ: هَكَذَا تَقُولُ لِيُوآبَ: لاَ يَسُؤْ فِي عَيْنَيْكَ هَذَا الأَمْرُ ... فَلَمَّا سَمِعَتِ امْرَأَةُ أُورِيَّا أَنَّهُ قَدْ مَاتَ أُورِيَّا رَجُلُهَا نَدَبَتْ بَعْلَهَا. وَلَمَّا مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا. وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ».
لقد سقط داود حينما كان قابعًا في عقر داره، بينما الشعب يواجه خط النار في الحرب مع الأعداء. ويالشناعة القسوة والغدر الذي حاول داود أن يُغطي بهما فعلته المُنكرة. لقد كان ملكًا مُطلَّق التصرف، فاستخدم سلطانه وسلطاته، ليُرسل وليأمر، وليُتمِّم أغراضه الشخصية، مُنقادًا بإرادته الذاتية؛ فكان هناك التخطيط الممتزج بالتمويه والخداع. وكانت هناك أيضًا القسوة الشديدة التي تترك البطل أُورِيَّا في مواجهة الحرب الشديدة، مع التوصية بالتخلي عنه، وتركه ليواجه الموت.
والخطية تجر في ذيلها دائمًا خطايا كثيرة متعددة، أشنع وأرهب، وطريقها دائمًا منزلق يُسقط القديس الجالس على القمة إلى المنحدر الرهيب. والتستر على الخطية يُضيف إليها خطايا أخرى متعددة: الكذب والغدر والنفاق والقسوة والكبرياء والرياء!!
وظن داود خطأً أن الأمر قد استتب له بعد موت أُورِيَّا، فتزوج من بثشبع، ووُلد له ولد، وكأن لا شيء حدث. ولكن يا لها من كلمة مرعبة يقولها الكتاب: «وَأَمَّا الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ»! (2صم27:11). وما أرهب صوت الله عندما يُسمع الإنسان هذه الكلمة! ولكن ماذا بعد؟!
إننا نقرأ في بداية الأصحاح الثاني عشر من سفر صموئيل الثاني هذه الكلمة مرة أخرى «أَرْسَلَ» (2صم12: 1)، ولكن هذه المرة «فَأَرْسَلَ الرَّبُّ نَاثَانَ إِلَى دَاوُدَ. فَجَاءَ إِلَيْهِ وَقَالَ لَهُ ... أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ! ... لماذا احتقرتني ... احْتَقَرْتَ كَلاَمَ الرَّبِّ لِتَعْمَلَ الشَّرَّ فِي عَيْنَيْهِ ... قَتَلْتَ أُورِيَّا الْحِثِّيَّ ... وَأَخَذْتَ امْرَأَتَهُ ... لاَ يُفَارِقُ السَّيْفُ بَيْتَكَ إِلَى الأَبَدِ ... أُقِيمُ عَلَيْكَ الشَّرَّ مِنْ بَيْتِكَ ... لأَنَّكَ أَنْتَ فَعَلْتَ بِالسِّرِّ وَأَنَا أَفْعَلُ هَذَا الأَمْرَ قُدَّامَ جَمِيعِ إِسْرَائِيلَ وَقُدَّامَ الشَّمْسِ».
آه، ما أقساها رسالة أرسلها الرب لداود أفاقته من سباته وهو تحت تأثير المخدر الشيطاني حيث كان قد سكر بخمر الشهوة، ناسيًا أن الساهر القدوس يراه ويلاحظ كل طرقه، ويزن كل أعماله بميزان الحق، وأنه ينظر ويطالب. ظن أنه سيد الموقف وصاحب القرار فأرسل وأخذ، ثم أرسل وقتل، حتى جاءه رسول يحمل له رسالة خطيرة من الله اخترقت ضميره وأعماقه. لقد تقلَّب السيف ذو الحدين، فأخذ أول ما أخذ الطفل، ثم تقلَّب مرة أخرى فذُلت ثامار ابنته، ثم تقلَّب مرة أخرى فقُتلَ أمنون، ثم تقلَّب مرة أخرى فطارد أبشالوم أباه، وتقلَّب مرة أخرى فنفذ في قلب أجمل أولاده؛ أبشالوم.
ولكن ما يعنيني في الأمر هنا ما حدث في الأصحاح الثالث عشر من صموئيل الثاني، إذ نقرأ نفس الكلمة «فَأَرْسَلَ» تُذكر مرتين بالارتباط بداود:
«فَأَرْسَلَ دَاوُدُ إِلَى ثَامَارَ إِلَى الْبَيْتِ قَائِلاً: اذْهَبِي إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيكِ وَاعْمَلِي لَهُ طَعَامًا. فَذَهَبَتْ ثَامَارُ إِلَى بَيْتِ أَمْنُونَ أَخِيهَا وَهُوَ مُضْطَجِعٌ» (2صم13: 7، 8).
كان داود هو الذي أرسل بنفسه ابنته “ثَامَار” لمصيرها المشؤوم، وهو ما ضاعف أحزانه.
وتمامًا كما خُدع “أُورِيَّا” مِن قِبَل داود، خُدع داود مِن قِبَل ابنه “أَمْنُون”!
ولماذا كل هذا؟!
«لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (لو6: 38).
ولكن هناك المزيد: «فَقَالَ أَبْشَالُومُ: إِذًا دَعْ أَخِي أَمْنُونَ يَذْهَبْ مَعَنَا. فَقَالَ الْمَلِكُ: لِمَاذَا يَذْهَبُ مَعَكَ؟ فَأَلَحَّ عَلَيْهِ أَبْشَالُومُ، فَأَرْسَلَ مَعَهُ أَمْنُونَ وَجَمِيعَ بَنِي الْمَلِكِ» (2صم13: 26، 27)
وكان داود هو الذي أرسل “بِكْرُه أَمْنُون” ليُلاقي حتفه. ويا للندم الذي عاناه بعد ذلك!
وكما أمر داود عبيده بقتل “أُورِيَّا”، أمر “أَبْشَالُومُ” عبيده بقتل “أَمْنُون”.
وكما أَسْكَرَ داود “أُورِيَّا” قبل قتله، أَسْكَرَ أَبْشَالُومُ “أَمْنُون” قبل قتله.
هل يمكن أن يحدث هذا؟!
نعم «لأَنَّهُ بِنَفْسِ الْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ» (لو6: 38).
بل إنه «بِالْكَيْلِ الَّذِي بِهِ تَكِيلُونَ يُكَالُ لَكُمْ وَيُزَادُ» (مر4: 24) ... لقد قال الرب يسوع هذا الكلام الخطير وكرره في أكثر مِن مناسبة (مر4: 24؛ مت7: 2؛ لو6: 38). وهذا قانون طبيعي لا يقدر إنسان ما أن يفلت منه. إنه يُشبه قانون الزرع والحصاد الذي ذكره الرسول بولس في غلاطية 6: 7 «لاَ تَضِلُّوا! اللهُ لاَ يُشْمَخُ عَلَيْهِ. فَإِنَّ الَّذِي يَزْرَعُهُ الإِنْسَانُ إِيَّاهُ يَحْصُدُ أَيْضًا». وإنه لمبدأ ثابت في الحياة: كوننا نحصد على قدر ما نزرع، وكون أعمالنا تعود لتنعكس علينا، كما أنه بِالْكَيْلِ الذي نعتمده في تعاملنا مع الآخرين “يُكَالُ لَنا وَيُزَادُ”. وإننا لا بد وأن نشرب من نفس الكأس التي أردنا أن نسقي الآخرين منها! وهو عين ما عبَّر عنه داود في المزمور السابع، بقوله: «كَرَا جُبًّا. حَفَرَهُ، فَسَقَطَ فِي الْهُوَّةِ الَّتِي صَنَعَ. يَرْجِعُ تَعَبُهُ عَلَى رَأْسِهِ، وَعَلَى هَامَتِهِ يَهْبِطُ ظُلْمُهُ» (مز7: 15، 16). فلنحذر أيها الأحباء!
على أن مبدأ الزرع والحصاد والكيل الذي نكيل به ويُكال لنا، لا ينطبق فقط على فعل الشر بل ينطبق أيضًا على فعل الخير. فالرب كان يتكلم عن عدم إدانة الآخرين، وعن الغفران الأخوي، وعن العطاء بسخاء (لو37:6). فإن زرعنا الحب والرحمة، والعطف واللطف، والمعروف والأمانة، وصنعنا السلام والخير للآخرين، فإننا سنحصد في وقته إن كنا لا نكل.
(يتبع)