عدد رقم 4 لسنة 2012
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
ولم يجسر أحد أن يسأله  

«قال لهم يسوع: هلم تغدوا.  ولم يجسر أحد من التلاميذ أن يسأله من أنت إذ كانوا يعلمون أنه الرب» (يو12:21)
   في شركتنا السرية مع المسيح توجد فترات يكون الصمت فيها أبلغ من الكلام.  ويبدو لنا أن التلاميذ وهم عند بحر طبرية وصلوا إلى اكتشاف هذه الحقيقة.  فقد كانت غاية اختبارهم في تلك الفرصة هي معرفتهم القلبية بأن الرب نفسه كان أمامهم فعلاً.  ومع أن الرب كانت له ظهورات معجزية في حوادث صيد السمك إلا أن التلاميذ كانوا في هذه المرة مقتنعين تمام الاقتناع بأن الذي كانوا في حضرته هو معلمهم وسيدهم المحبوب.  على أنهم لم يجسروا أن يسألوه: «من أنت»؟ لقد عرفوا أنه الرب، لكن مجد قيامته أغلق شفاههم.

   تُرى ما الذي جعلهم يتحققون من شخصه ويتأكدون أنه سيدهم؟ وهم عندما أبصروه أولاً على الشاطئ عند الصبح «لم يكونوا يعلمون أنه يسوع».  وبعد ذلك سمعوا صوته قائلاً: «يا غلمان .. ألعل عندكم إدامًا»؟ ثم حين ألقوا على كلمته شبكتهم إلى جانب السفينة الأيمن وجدوها ممتلئة بمئة وثلاث وخمسين سمكة كبيرة.  وفوق ذلك كان على الشاطئ جمرٌ وسمكٌ موضوعًا عليه وخبزٌ.  وكل هذا صار ملكًا لهم بناء على دعوة الرب الكريمة: «هلم تغدوا».

   فأي حادث من حوادث ذلك الصباح أوحى إليهم بأنه الرب؟ هل هو حادث ملء الشبكة بالسمك، الحادث الذي دل على قدرته؟ أم هو إعداد السمك على الجمر، الأمر الذي يبرهن على محبته؟ لا شك أن الذي أوقظ فيهم الإدراك وأوحى إليهم بتلك المعرفة الداخلية هو دعوته الكريمة: «هلموا تغدوا».  قد تحملهم المعجزة على الدهشة، أما الأكلة المجهزة فقد أحيت وأنهضت عواطفهم الجامدة، فأدركت المحبة أنه الرب بالفعل.  وتيقنوا أنه هو نفس السيد الذي عرفوه في أيام تجسده، هو نفسه الذي سعى في إثرهم في الصبح الباكر، وهناك على الشاطئ منفردًا أعدَّ لهم نارًا للدفء وطعامًا للشبع.  وكأن لسان حاله له المجد: استدفئوا واشبعوا.

   على أنه كان هناك في حضرته المباركة ما أيقظهم جميعًا وجعلهم في حالة الصحو.  فمع أنهم كانوا في الداخل يلتهبون بفرح مُقدَّس حينما رأوا الرب سيدهم مرة أخرى، إلا أن الصمت ساد على تلك الجماعة القليلة، حتى بطرس، كثير الكلام، لم يجسر أن يتفوه بالسؤال: «من أنت»؟ فلقد علموا أنه يسوع نفسه الذي يعرفونه، لكنه كان مختلفًا.  نعم، فقد قام من القبر، وحتى في ذلك الوقت كانت أمجاد ذلك الظافر المنصور تكلل هامته وتسطع على جبينه! فلم يجسروا أن يقطعوا ذلك الصمت المقدس بحديث لا طائلة تحته.  

   لكن هلم بنا أيها القارئ نتأمل في حقيقة إعلان الرب نفسه للتلاميذ في محبته، وفي عمل تلك المحبة.  فالمحبة هي التعبير الصادق عن الشركة الوثيقة.  وما أكثر اقتران محبة المسيح بأكلة الشركة! فقد كان تلميذا عمواس يصغيان بانتباه حكيم طيلة الستين غلوة إلى الشرح الواضح الذي شرح به نبوات الكتب ذلك الإنسان المتغرب الذي سار في رفقتهما.  كان القلب ملتهبًا في كليهما، أما أعينهما فكانت مُمسكة عن معرفته.  وفي الطريق لم يكونا يعلمان أنه يسوع، ولكن في البيت، عند العشاء، حينما أخذ خبزًا وبارك، وفي جو الشركة السماوية التي أدخلا إليها سرًا، سقط البرقع عن أعينهما.  حينئذ عرفاه عند كسر الخبز.  فقد كان الرب، رب المحبة، ولكنه أيضًا الرب المقام، الذي لا مثيل لمحبته.

   ألم نكتشف لأنفسنا حتى في أيام ضعفنا هذا الفرح العميق الذي يكسبنا إياه حضور الرب؟ ففي أوقات الشركة والتعبد السري نقدر أن نعرف الرب معرفة شخصية قلبية وثيقة.  وحينئذ تحن فينا قلوبنا لأن «نعرفه وقوة قيامته».  وحينئذ أيضًا يضيء أمامنا «فضل معرفة المسيح يسوع ربنا».  وحينئذ أيضًا نخاف لما ندخل السحابة مثل أولئك الثلاثة الذين دخلوها فوق جبل التجلي.  وكم كان اقتراحًا لا يتفق مع هذا الخوف المقدس، ذاك الذي نطق به بطرس: «لنصنع هنا ثلاث مظال»! وما كان أجدر أن يصمت ذلك الشخص الذي «لم يكن يعلم ما يقول».  فلا ينطق بتلك الأقوال التي دلت على غباوته!!

   نعم، فالأصوات الأرضية، التي لا يعطيها الروح القدس، لا مكان لها في الأقداس.  بل ما علينا ونحن في فرصة السجود، إلا أن نتأمل في ذاك الذي ليس أحد يعرفه إلا الآب.  وحينئذ بمتلئ كل قلب بالكلام الصالح الذي ينشئه الروح القدس.  يقال عن ملكة سبأ، عندما رأت أمجاد سليمان الأرضية، أنه لم يبق فيها روحٌ بعد.  وإذ نتطلع بالإيمان في أمجاد ذاك الذي تألم ومات لأجلنا، نتمنى لو كانت لنا لغة السماء لكي نسبحه بتلك الكلمات التي «لا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها».

   وفي اجتماع السجود حول الرب يوجد «للسكوت وقت وللتكلم وقت».  وفي كسر الخبز يوجد الصمت الساجد لدى منظر يدي الرب ورجليه الداميتين، وفي وقفات (سلاه) تستجمع القلوب العابدة الخاشعة ما يمكنها أن تقدمه مما يعطيه الروح القدس لتمجيد وإكرام الحمل.
   وليتنا نتذكر كلمات الحكيم: «لا تستعجل فمك ولا يسرع قلبك إلى نطق كلام قدام الله.  لأن الله في السماوات وأنت على الأرض.  فلذلك لتكن كلماتك قليلة» (جا2:5).  ولتزدحم الأفكار في قلوبنا، عوضًا عن كثرة من الكلمات على ألسنتنا.  وليصمت كل منا حتى تمس جمرة الروح القدس شفتيه.
                                                                                                                                                                                       

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com