عدد رقم 4 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الصراع بين الأشرار والأبرار (4)  
 رأينا فيما سبق بعض الصور في التاريخ المقدس التي ترينا قسوة الأشرار ومعاناة الأبرار، ورأينا كيف أن السماء تصمت طويلاً، والقضاء على العمل الرديء لا يُجرى سريعًا، وهذا يسبب حيرة شديدة للقديسين الذين يتساءلون كيف؟ ولماذا؟ وحتى متى؟ وقد عرفنا أن هذا هو ”سر الله“ طالما الأرض مُسلَّمة ليد الشرير، واليوم هو ”يوم البشر“ حيث حكومة الإنسان الظالمة، حتى يأتي اليوم الذي يملك فيه المسيح وتكون أحكام البر سارية وفورية، حيث يقضي للمساكين بالعدل ويحكم بالإنصاف لبائسي الأرض.  وقد رأينا كيف كان قايين من الشرير وذبح أخاه، وكيف احتمل يوسف الألم والاضطهاد من إخوته، وكيف عانى إسرائيل الذل والعبودية من فرعون في أرض مصر.

   وفي هذا العدد سنلقي ضوءًا على اضطهاد شاول الملك لداود وكيف مرَّر حياته لسنوات طويلة.  والهدف من هذه الدراسة ليس التفشيل بل التشجيع على احتمال الألم والمعاناة وتقبُّل الأمور من يد الرب وليس الناس، والثقة في أن الله ليس بعيدًا أو غافلاً عن الأحداث، وإنما هو الذي يمسك بزمام الأمور، ويتحكَّم في كل الأشياء ويجعلها تعمل معًا للخير للذين يحبونه.

   كان شاول ملكًا على إسرائيل، ولم يكن بحسب فكر الله بل بحسب استحسان الشعب.  وبعد أن أثبتت الأيام فشله المتكرر أعلن الرب رفضه الكامل له، واختار داود ملكًا بحسب قلبه.  كان داود أشقر مع حلاوة العينين، وهو الصغير، وكان يحسن الضرب بالعود، وقيل عنه أنه مُرنِّم إسرائيل الحلو، كان راعيًا للغنم، وكان أمينًا وديعًا تقيًا ومتضعًا.  وقد مسحه صموئيل في وسط إخوته بقرن الدهن طبقًا لاختيار الله وتعيينه.  وشاول يُمثل الإنسان الجسدي الفاسد، وداود يُمثل الإنسان الروحي الجديد.

   ذهب روح الرب من عند شاول وبغته روح رديء، واحتاج إلى داود ليضرب له بالعود لكي يرتاح ويطيب ويذهب عنه الروح الرديء (1صم16).  ولقد أحب شاول داود جدًا في البداية وسُر به ولم يدعه يرجع إلى بيت أبيه.  لكن الجسد لا يعرف الحب الحقيقي، وهذه كانت محبة نفعية لأن داود كان مصدر راحته وسلامه.  وما أكثر صور الحب الأناني الذي يبحث عن الأخذ وليس العطاء وماذا سيستفيد من المحبوب.  هذه المحبة ستتحول سريعًا إلى بغضة وعداء.

   بعد هذا ظهر داود في المشهد عندما كان إسرائيل يواجهون العدو الجبار جليات الفلسطيني الذي كان يُعير صفوف الله الحي (1صم17).  وكان شاول وجميع رجال الحرب واقفين يرتعدون أمامه.  ذهب داود في شجاعة الإيمان وبساطة القلب المتكل على الرب، ولم يكن معه سوى المقلاع وخمسة حجارة مُلس التقطها من الوادي، وهو يثق أنه ليس بسيف ولا برمح يخلص الرب.  ذهب وكان الرب معه وصنع خلاصًا عظيمًا وقتل الفلسطيني وقطع رأسه بسيفه، وأزال العار عن إسرائيل، والكل رأى وفرح.

   ولكن ماذا كان موقف شاول منه؟ 

هل كان فخورًا به؟ كلا.  لقد احتقره وتنكر له هو وأبنير رئيس جيشه.  لكنه كان كريمًا في نظر الله وفي نظر الأتقياء.  بعد ذلك خرجت النساء بالغناء وقلن: «ضرب شاول ألوفه وداود ربواته» (1صم18).  فاحتمى شاول جدًا وساء هذا في عينيه.  فكان شاول يُعاين داود من ذلك اليوم فصاعدًا.  وكان في الغد أن الروح الرديء اقتحم شاول وجُنَّ في وسط البيت، فأشرع الرمح نحو داود ليقتله، فتحول داود من أمامه مرتين.  وكان شاول يخاف داود لأن الرب كان معه.  ويا لها من مشاعر عدائية كانت تملأ شاول نحو داود حتى الموت بلا سبب، وهو الذي ضحى بحياته وصنع الخلاص.  إنه رمز للرب يسوع الذي صنع الخير العظيم وضحى بحياته ومات على الصليب لكي يخلص ما قد هلك، ومع ذلك أبغضه العالم.  بدل محبته خاصموه، ووضعوا عليه شرًا بدل خير وبغضًا بدل حبه (مز109).

   ولما رأى شاول أن داود مُفلحٌ جدًا فزع منه وحاول أن يتخلَّص منه بأن يوقعه في يد الفلسطينيين، لكن الرب كان معه.  ورأى شاول وعلم بذلك فعاد يخاف داود، وصار عدوًا لداود كل الأيام.  وكلم شاول يوناثان ابنه وجميع عبيده أن يقتلوا داود.  وأما يوناثان فسُرَّ بداود جدًا وتكلم حسنًا عنه أمام شاول وشهد عنه أنه لم يخطئ وأن أعماله حسنة جدًا، وأنه وضع نفسه بيده وقتل الفلسطيني، وأن شاول نفسه رأى وفرح، فلماذا يخطئ إلى دم بريء ويقتل داود بلا سبب؟ فحلف شاول أنه لن يقتله (1صم19).  لكنه غدر بعهده والتمس أن يطعنه برمحه مرة أخرى، ففر من أمامه ونجا.  وبعد ذلك أرسل رسلاً إلى بيته ليراقبوه ويقتلوه في الصباح.  إنه صورة لذلك الشخص الوديع الذي كان مُستهدَفًا للعناء والعداء والقتل مرارًا كثيرة.  هرب داود، وبنفس مُثقلة ذهب إلى صموئيل وأخبره بكل ما فعل به شاول.  لم يكُفّ شاول عن تعقبه فأرسل ثلاث دفعات يفتش عليه وأخيرًا ذهب وراءه بنفسه يفتش عليه في نايوت وسط الأنبياء.  هرب داود وجاء إلى يوناثان وقال له: «إنه كخطوة بيني وبين الموت» (1صم20).  تأكد يوناثان من نوايا أبيه العدوانية وإصراره على قتل داود، واغتم على ذلك لأن أباه أخزاه.  كان قبلاً يحسن الظن به ويريد أن يربح الاثنين ويتعايش مع كليهما، لكنه أدرك أن ذلك مستحيلاً وأن الجسد لا يؤتمن وإن حسَّن صوته.  قرر أن يطلقه بسلام فانطلق، وافترق الصديقان عن بعضهما عند حجر الافتراق، وبكى كل منهما على عنق صاحبه حتى زاد داود. 

   عاش هاربًا لسنوات طويلة لا يعرف الاستقرار أو الراحة، تخبط بين أخيمالك الكاهن وأخيش ملك جت، ثم ذهب إلى مغارة عدلام، وبعدها إلى الحصن في موآب، وأخيرًا جاء إلى برية يهوذا، وفي كل ذلك كان «يُفرَّغ من إناء لإناء».
   لم يكفّ عن صنع الخير لإسرائيل فخلَّص أهل قعيلة من الفلسطينيين الذين كانوا يحاربونهم وينهبون البيادر (1صم23).  فدعا شاول جميع الشعب للحرب للنزول إلى قعيلة لمحاصرة داود، وعلم داود أن أهل قعيلة سيسلمونه ليد شاول فخرج من هناك.  كان عسيرًا عليه أن الناس يجازونه شرًا بدل خير ويتكرر هذا الموقف ومع ذلك يستمر في عمل الخير، وهذا ما ميَّز حياة ربنا يسوع المسيح هنا على الأرض حيث علَّم الدنيا العطاء.
   وفي برية زيف كان شاول يطلبه كل الأيام، ولكن لم يدفعه الرب ليده، وهذا يرينا سلطان الله وسيطرته على الأحداث رغم شر الإنسان.  صعد الزيفيون وأخبروا شاول أن داود مختبئ عندهم، ووعدوه أن يسلموه إليه، وطلبوا أن ينزل حسب ”كل شهوة نفسه“ ليقتله، ويا لها من شهوة ردية، قال عنها الرب يسوع للفريسيين الأشرار: «أنتم من أب هو إبليس وشهوات أبيكم تريدون أن تعملوا، ذاك كان قتالاً للناس من البدء» (يو8).

   وفي برية معون تبع شاول داود وكان يفتش عليه بجميع ألوف يهوذا.  وكان رجال شاول يحاوطون داود وضاق الخناق جدًا عليه وكان على وشك السقوط، لكن الرب تدخل في اللحظة الحاسمة وأنقذه فجاء رسول يقول لشاول: «أسرع لأن الفلسطينيين قد اقتحموا الأرض»، فرجع شاول عن اتباع داود، ودُعي الموضع ”صخرة الزلقات“.

   وفي برية عين جدي ذهب شاول ومعه ثلاثة آلاف رجل منتخبين يفتش على داود ونام في أحد الكهوف، وكان داود ورجاله مختبئين في مغابن الكهف.  وكان بوسع داود أن يقتله، وقد عرض عليه رجاله ذلك، وكان ذلك سينهي المتاعب فورًا.  لكن داود رفض وقطع طرف جبته فقط ولم يقتله.  وكان بعد ذلك أن قلب داود ضربه، وقال لرجاله حاشا لي أن أفعل هذا الأمر أن أمد يدي إلى مسيح الرب، ووبخ رجاله ولم يدعهم يقومون على شاول (1صم24).  وهكذا نرى أنه كلما ازداد الألم كلما ازدادت الحساسية الروحية، ومخافة الرب جعلته ينتظر الرب ولا ينتقم لنفسه، ولا يجازي عن شر بشر، وسلَّم قضيته في يد الرب.
   تحمَّل داود الاضطهادات من شاول، وكذلك الإهانة والتعيير من نابال الكرملي (1صم25)، لكن أبيجايل امرأة نابال أظهرت كل التقدير لداود.  فقالت عنه ”سيدي“ 14 مرة، وعن نفسها ”أمتك“ 6 مرات، وشجعته بأحلى الكلمات، مؤكدة له أنه سيملك والرب سيقيمه رئيسًا على شعبه، وأنه يحارب حروب الرب، ولم يوجد فيه إثم كل أيامه، وأن نفسه محزومة في حزمة الحياة مع الرب إلهه، وأما نفس أعدائه فسيُرمى بها كما من وسط كفة المقلاع.  وهكذا نرى أن الرب وسط الضغوط الشديدة كان يترفق به ويرسل له معونات ومشجعات تسنده وترفعه لمواصلة المسير.

   ومرة أخيرة كان شاول لا يزال يتبع داود ويفتش عليه كما يتبع الحجل في الجبال، وقد دفع الرب شاول ليده، ووقع على شاول وجيشه سبات، لكنه هذه المرة لم يقتله ولا قطع طرف جبته، وإنما أخذ الرمح وكوز الماء من عند رأسه ومضى (1صم26)، وعاتبه بمرارة بسبب تكرار المحاولات لقتله دون سبب.  أما شاول، الذي يمثل الجسد، فكعادته كان يبرر نفسه ولا يستذنبها، ولا يعترف بأخطائه، وحتى إذا بكى واعترف فهذا بدون توبة أو تراجع عن طريقه.

   صغرت نفس داود ونفد صبره وكلَّت عيناه من الانتظار وما عاد قادرًا على الاحتمال، فهو على أي حال إنسان تحت الآلام، وإناء خزفي هش وضعيف، ولسبب طول المعاناة خار.  شعر أنه يحتاج إلى معجزة كل يوم تنجيه من الموت، وإذا لم تحدث المعجزة فإنه سيموت.  والذي صمد طويلاً جاء عليه وقت فقَدَ الثقة في الحماية الإلهية والوعود الإلهية والمسحة الإلهية، «وقال في قلبه إني سأهلك يومًا بيد شاول، فلا شيء خير لي من أن أفلت إلى أرض الفلسطينيين فييأس شاول من أن يفتش عليَّ» (1صم27).  مكث في أرض الفلسطينيين سنة وأربعة شهور انتهت بحريق صقلغ والحرب بين إسرائيل والفلسطينيين، التي انتهت بموت شاول ويوناثان، وبذلك أُفسح المجال لداود لكي يملك ويحقق الله مواعيده له في الوقت المعين.  لقد أنساه الله كل تعبه ومعاناته وذله، وتوَّجه ملكًا ورئيسًا على شعبه.  

   كان داود غصنًا مثمرًا، وكل ما يأتي بثمر ينقيه ليأتي بثمر أكثر، وفي الضيق اتسعت طاقته الروحية كثيرًا، وأصبح أكثر نضوجًا وأكثر قربًا من الرب ومعرفة اختبارية له.  إن التدريب أنتج ثمر بر للسلام، وجعله يغفر لشاول وينسى كل ما فعله بل ويبكي عليه ويرثيه.  كذلك ينسى ترك يوناثان له ولا يذكر له سوى المحبة الأولى، ثم يصنع إحسانًا مع ابن يوناثان.  هذه الأخلاقيات السامية أنتجها الضيق وأنتجتها مدرسة الألم.
  ونحن أيضًا عندما نواجه الضيق فإنه نافع لنا وسينشئ فينا صبرًا، و«إن كنا نصبر فسنملك أيضًا معه» (2تي2).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com