عدد رقم 5 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
لاودكية   من سلسلة: الأيام الأخيرة
إنه أمرٌ محزن أن نرى فشل الإنسان في كل العصور طالما وُضِعَ تحت المسؤولية.  هذا ما حدث مع آدم في الجنة، نوح في الأرض الجديدة بعد الطوفان، إسرائيل تحت الناموس في البرية، وفي أرض كنعان، وفي بابل أثناء السبي، وحتى بعد الرجوع من السبي.  

وعلى ذات القياس، فإن الكنيسة كشاهدة للمسيح على الأرض قد فشلتْ في مسؤوليتها أن تُظهر المسيح وتُمثِّله أمام العالم الذي لا يعرفه.  ولقد ظهرت بداية الانحدار في كنيسة «أفسس» التي تُمثِّل الدور الأول في تاريخ الكنيسة، حيث تَرَكَتْ محبتها الأولى (رؤ 4:2، 5).  ورغم تداخل الله بالنعمة لعلاج وإنهاض الحالة، واسترداد المحبة والتكريس والأمانة، فقد استمر الفشل والانحدار المتوالي حتى نصل إلى «لاودكية»، التي تُمثِّل الدور السابع والأخير في تاريخ الكنيسة النبوي قبل مجيء الرب.

وكما رأينا برودة الموت في «ساردس»، والتي تُمثِّل النظام الكنسي البروتستانتي بعد نهضة الإصلاح المُباركة، وبعد رحيل جيل الأتقياء الذين كانوا يتمسكون بكل الكتاب، ورأينا كيف تحوَّلتْ الأمور إلى مجرد شكل مُجَمَّل من الخارج دون اعتبار للجوهر، مع بقاء أسماء قليلة في هذا النظام لم يتنجسوا بمبادئ العالم الفاسدة؛ كذلك نرى لاودكية تأتي بعد «فيلادلفيا» حيث عصر النهضة الكتابية المُبارَكة، وحيث المحبة التكريسية للرب ولكلمته والتمركز حول اسمه، هذه الكنيسة (فيلادلفيا) تُمثِّل حالة أدبية مباركة وليست نظامًا كنسيًّا في المسيحية.  ولهذه الكنيسة لم يوجِّه الرب كلمة لوم واحدة، وإنما نالت مديح السيِّد وإعجابه.  ولكن مع الأسف بعد هذه النهضة العظيمة ظهرت لاودكية وصارت تُمثِّل السواد الأعظم في المسيحية الآن، مع بقاء الأفراد الأُمناء الذين يحتفظون بالطابع الفيلادلفي.  وبينما لا نسمع كلمة توبيخ أو عتاب لفيلادلفيا، فإننا لا نسمع كلمة إعجاب أو مدح نطق بها الرب للاودكية.

ولهذه الكنيسة الأخيرة يُقدِّم الرب نفسه باعتباره:

1-    الآمين.  بمعنى أنه المُؤكِّد والمُثبِّت لكل ما تكلَّم به الله.  فالمسيح هو المُنجز والضامن لكل مواعيد الله حتى لو فشلت الكنيسة.  «لأن مهما كانت مواعيد الله، فهو فيه النَّعَمْ وفيه الآمينُ، لمجد الله» (2كو 20:1).

2-    الشاهد الأمين الصادق.  فيما يتعلَّق بالله والإنسان.  إنه يُعلن ويكشف حقيقة كل شيء.  وكم سمعنا منه في أيام جسده هذه العبارة الخالدة: «الحق الحق أقول لكم».  وفي آخر سفر الرؤيا نقرأ عنه أنه «يُدعَى أمينًا وصادقًا» (رؤ 11:19)، وأقواله «صادقةٌ وأمينةٌ» (رؤ 5:21).  فعندما فشلت الكنيسة كشاهدة، يبقى هو «الشاهد الأمين».

3-    بداءة خليقة الله.  بمعنى أن المسيح هو أصل ورأس الخليقة الجديدة.  وقد صار كذلك بعد أن مات وقام وصعد وجلس في يمين العظمة في الأعالي، ونزل الروح القدس ليُكوِّن الكنيسة على الأرض كجسد يرتبط بالرأس في السماء.  لقد فسدت الخليقة الأولى بسبب سقوط آدم رأسها، ولُعِنَتْ وتشوَّهتْ بسبب الخطية.  لكن الله في المسيح عمل خليقة جديدة لا يتسرب إليها الفساد.  والمسيح في المجد هو الضامن لها، وهو الذي «مسرَّة الرب بيده تنجح».  والصورة المجيدة لهذه الخليقة الجديدة ستُرى في كمال روعتها في الحالة الأبدية عندما تُرفَع الخطية من العالم بواسطة حَمَل الله نهائيًا وتُمحَى كل آثارها، ويصبح كل شيء جديدًا.  إن مقامنا ومركزنا في المسيح الآن أننا «خليقة جديدة»، ويقول الرسول: «الأشياء العتيقة قد مضت، هوذا الكل قد صار جديدًا» (2كو 17:5).  لكن التطبيق الأكمل لهذه الآية هو في الحالة الأبدية، حيث السماوات الجديدة والأرض الجديدة التي «يسكن فيها البر» (2بط 13:3).

لقد عمل الله الخليقة الأولى في ستة أيام، ولم تكلفه سوى كلمات «هو قال فكان».  لكن مشروع الخليقة الجديدة كانت كُلْفَتُه التجسُّد، وحياة ابن الله التي بُذلَتْ على الصليب.  واستغرق هذا المشروع حتى الآن قرابة ألفي عام منذ نزول الروح القدس.  فيا لروعة الخليقة الجديدة التي بدأت بالمسيح المُقام والمُمجَّد.  هذا هو «بداءة خليقة الله».

حالة الكنيسة كما يصفها الرب:

1-    «كنيسة اللاودكيِّين»: إنه لا يدعوها ’’كنيسة الله التي في لاودكية‘‘، بل «كنيسة اللاودكيِّين».  وكلمة «لاودكية» تعني ’’حقوق الشعب‘‘.  وفي هذا الدور الأخير لا نجد مَنْ يبحث عن حقوق الرب ومكانه وسلطانه ومجده في الكنيسة، بل عن إرضاء الناس وماذا يريدون، بغض النظر عن السيِّد وما إذا كان راضيًا أم لا.  لقد استبعدتْ المسيح من المشهد وما عاد له مكان في الوسط، وكل واحد عمل ما حسن في عينيه.  وهذا يُذكِّرُنا بنهاية التدبير اليهودي حيث قال لهم الرب في آخر خدمته  بعد أن رفضوه: «هوذا بيتُكم يُترَك لكم خرابًا».

2-    «لستَ باردًا ولا حارًا، هكذا لأنك فاترٌ».  إن سمة هذا العصر هو الفتور وعدم المُبالاة، العُروج بين الفرقتين وعدم وضوح الهوية؛ فلا غَيْرة لمجد الله ولا كراهية للخطية، لا عداء للمسيح ولا خضوع لربوبيته.  الله وكلمته، المسيح وصليبه، السماء والجحيم، الزمان والأبدية كلها أفكارٌ وآراء دون أن تفرق كثيرًا.  التساهل مع الشَّر وقبول كافة الأفكار بغض النظر عن توافقها مع كلمة الله.  التركيز على الإنجيل الاجتماعي والاهتمام بالأعمال الخيرية لصالح المجتمع، واعتبار الكنيسة مُؤسَّسَة تُساهم في خدمة البيئة.  المُناداة الصريحة بهدم أسوار الانفصال عن شرور العالم.  اتباع روح العصر وما يتفق مع رغبات الشباب.  محاولة إصلاح الإنسان الطبيعي دون الحاجة إلى الولادة من فوق.  اعتبار الصليب قصة حب وتضحية وليس أنه ضرورة للكفَّارة عن الخطية.  إظهار محبة الله وعدم التعرُّض لغضب الله ودينونتة.  بالإجمال «لا يحتملون التعليم الصحيح بل حسب شهواتهم الخاصة يجمعون لهم مُعلِّمين، مُستَحكَّة مسامعهم، فيصرفون مسامعَهم عن الحق وينحرفون إلى الخرافات» (2تي 3:4، 4).

هذه هي لاودكية التي احتملها المسيح بصبر كثير لكنه أعلن أنه سيتقيأها من فمه.

3-    المشغولية بالذات:  «لأنك تقول إني أنا».  إنها تتكلَّم عن نفسها وتشهد لنفسها وليس للمسيح.  لقد صار العُجب بالنفس والغرور هو ما يميِّزهم.  فاللاودُكي يبحث عن مكان لنفسه وليس عن مكان للمسيح.  وما أبعد هذه الروح عما قاله قديمًا المعمدان: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقصُ» (يو 30:3).

4-    طابع الرضى عن النفس.  «أنا غنيٌّ».  غني بدون المسيح، فالمسيح يقف خارجًا، وهو لا يشعر بأيَّة خسارة.  إنه يرى الغنى في عدد الأعضاء ومراكزهم العلمية والاجتماعية، والثروة المادية، والمباني الفاخرة، والمعرفة الكتابية، والمواهب الروحية.   

 لقد حذَّر الرب شعبه قديمًا من هذه الروح عندما قال: «احترز من أن تنسى الرب إلهك ... لئلا إذا أكلتَ وشبعتَ وبنيتَ بيوتًا جيدة وسكنتَ ... وكثرتْ لك الفضة والذهب، وكثر كل ما لك، يرتفعُ قلبُك وتنسَى الربَّ إلهَك» (تث 11:5-14).

لقد نسيتْ هذه الكنيسة مصدر غناها، ونسبَتْ كل شيء لنفسها.  إنها عكس كنيسة «سميرنا» التي عانت من الفقر والضيق والاضطهاد، لكنها نالت مديح السيِّد الذي قال: «أنا أعرف أعمالك وضيقتك وفقرك مع أنك غنيٌّ» (رؤ 9:2).

5-    الكفاية الذاتية.  «قد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيءٍ».  هذه الروح عكس روح الاتكال والشعور بالمسكنة والاحتياج إلى الرب وعدم الاستغناء عنه مُطلقًا.  هذا ما يميِّز الأتقياء الذين يتعلَّقُون بالرب بالصلاة والتضرعات، مُدركين ضعفهم وأنهم بدون الرب لا يقدرون أن يفعلوا شيئًا.  أما الذي قد استغنى ولا حاجة له إلى شيء فلن يأتي إلى الرب بالقلب الضارع والخاشع راجيًا رحمته، قارعًا بابه.

أحبائي ... ألا نشعر أن اجتماعات الصلاة الكنسية من حيث عدد الحاضرين وحالة قلوبهم تقول بصوتٍ عالٍ: «إني أنا غنيٌّ وقد استغنيتُ، ولا حاجة لي إلى شيءٍ»؟  وهل نستغرب إذا رأينا الفشل يسود والفتور يستشري في اجتماعاتنا التي أصبحت روتينية وشكلية؟ إن الشباب الصغير إذا لم يجد القدوة والمصداقية في صلواتنا وتضرعاتنا، ودموعنا وتوسلاتنا، واعترافاتنا وتوبتنا؛ فلن يكون للتعليم قيمة وتأثير يُغيِّر حياتهم، بل سيقودهم إلى الانتفاخ والعُجب والشعور بأننا أفضل من غيرنا، وهذه هي روح لاودكية.

6-    الجهل بحقيقة حالته.  «ولستَ تعلم».  إنه يعيش في حالة من الوهم وخداع النفس، وقد وصل إلى أدنى درجة من الفشل، والمُحزن حقًا أنه «لا يعلم»!  لقد قيل عن شمشون بعد أن حُلِقَتْ خُصَل شعر رأسه، وهو النذير، «وفارقته قوَّته».  لكنه لم يعلم.  فقال عندما رأى الفلسطينيين قادمين عليه: «أَخرج حسب كل مرة وأنتفض، ولم يعلم أن الرب قد فارقه» (قض 20:16).  إنها مأساة أن يذهب الانتذار وتذهب القوة والرب يفارقه، لكن المأساة الأكبر أنه «لا يعلم».  وذات الشيء قيل عن أفرايم الذي: «أكل الغُرباء ثروته وهو لا يعرف، وقد رُشَّ عليه الشَّيب وهو لا يعرف» (هو 9:7).

7-    التقرير الإلهي عن حالته.  «أنت الشقيُّ والبئس وفقيرٌ وأعمى وعُريانٌ».  وهذا يجسِّم واقع الخاطي البعيد؛ إذ تنتظره الدينونة الرهيبة والأبدية التعيسة لهذا فهو «الشَّقي والبئس».  وهو فقير لأنه لم يمتلك المسيح، ولم يُصبح هو مصدر غناه، رغم أنه يدَّعي لنفسه الغنى.  إنه يستحق توبيخ يعقوب الذي قال: «هَلُمَّ الآن أيها الأغنياء، ابكوا مولولين على شقاوتكم القادمة» (يع 1:5).  كذلك هو «أعمى» لأنه لم يرَ المسيح ولم يتمتع بجماله، ولم يرَ نفسه على حقيقتها، ولم يرَ الأمور الأبدية وإنما فقط الأمور الوقتية والتمتعات الوقتية.  وأخيرًا هو «عُريان» لأنه لم يكتسِ ببر المسيح الذي يستره أمام الله القدُّوس.

ويُلفت النظر في هذا التقرير أنه لم يقل له ’’وأنت الأصم‘‘.  فهو لا يزال يسمع ولهذا يوجد له رجاء.  وكم هي بركة أن يسمع الإنسان صوت ابن الله ونداءات المحبة والنعمة.  فالمسيح لا يزال يقرع على الباب راجيًا أن يسمعَ أحدٌ صوتَه، ويفتح له فينال البركة، قبل أن يتحوَّل ويعبر، ويا للخسارة الأبدية!

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com