عدد رقم 3 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الفراغ النفسي وكيف يمتلئ؟   من سلسلة: 8 مبادئ لعلاج الاكتئاب

الفراغ النفسي ما هو:
   تتميَّز النفس البشرية بوجود حالة من الفراغ الداخلي، الذي يُشكِّل نداءً في داخل الشخص، وشعورًا بالجوع والعطش والخواء الذي يجعل الإنسان يسعى لإشباعه، ويبحث جاهدًا عمَّا يملأه.  هذا الفراغ قد يكون عميقًا جدًا عند البعض أو بسيطًا وسطحيًا عند الآخرين، لكنه في جميع الأحوال موجود.  وكلما كان الفراغ عميقًا كان النهم في الداخل شديدًا، وكان البحث دؤوبًا.

   إنه احتياج داخلي لشيء مُعيَّن يشتهيه الشخص لعله يملأ نفسه منه.  ولأنه قد «مالَ كل واحدٍ إلى طريقه» (إش 6:53)، لذلك فإن كل واحد يشتهي شيئًا يختلف عن الآخر.  والشيء الذي يبحث عنه الشخص بشدة لكي يملأ فراغه، هو الشيء الذي يكون ضعيفًا أمامه أو يمثِّل نقطة الضعف الرئيسية في حياته التي يرغبها أكثر من غيرها، ويجد صعوبة في التحكُّم في نفسه أمامها.  ونقاط الضعف الرئيسية قد تكون الشهرة أو الجنس أو المال، أو بلغة الكتاب «شهوة الجسد وشهوة العيون وتعظُّم المعيشة» (1يو 16:2).  وقد تكون هناك نقاط ضعف أخرى لكنها في جوهرها هي ضعفات فرعية تخدم نقاط الضعف الرئيسية.  وقد يكون الشخص ضعيفًا في جميع هذه الأشياء بنسب مختلفة، ولكن غالبًا ما تسود واحدة منها.  ولو كان الشخص مؤمنًا فنقطة ضعفه هذه ستسبب له معاناة عندما يختل اتزانه الروحي.

الفراغ العميق والمعاناة:
أصحاب الفراغ العميق هم الأكثر معاناةً، لأن الشخص يشعر أن النداء الداخلي لما يشتهيه عنيفٌ، وأن النهم شديدٌ، وأنه ضعيفٌ جدًا أمام هذه الأشياء.  فينبطح أمامها لعله يروي غليله منها بشغف، ولكن هيهات.  وإذا ارتوى فسرعان ما يعود يعطش أيضًا، ويستحيل أن يصل إلى حالة الامتلاء أو الاكتفاء.  أضف إلى هذا، بالنسبة للمؤمن، الصراع الداخلي الناشئ من رغبة إرضاء الرب، وهي بعيدة المنال بالنسبة له، فهو مغلوب من رغباته الجسدية.

والجسد في داخل المؤمن، في منطقة الفراغ النفسي، يجد مجالاً ليمارس نشاطه بعنف.  إنه يُشبه المغناطيس القوي الذي يجذب كل شيء في اتجاهه، ويستخدم كل الأشياء لمحاولة إشباع رغباته وملء فراغه.  وإذا نجح في هذا فإنه يمكن أن يسيطر على الشخص ويستعبده، مستخدمًا نقطة ضعفه وعمق فراغه، فيصبح الشخص عبدًا لذاته أو لشهواته أو للمال.

الفراغ النفسي والخطية:
وجود الفراغ النفسي في حد ذاته، أيًا كان عمقه، ونقطة الضعف في كيان الشخص (سواء الجنس أو الشهرة أو المال) مهما كانت شدتها، ليست خطية في حد ذاتها، فهو غير مسؤول عنها، وهذه الأشياء دائمًا مقترنة بوجود الطبيعة القديمة ورغبات الجسد، لكنها مرفوضة من الطبيعة الجديدة في المؤمن الذي بدوره يرفض التجاوب معها.  وبالتالي فهذه الشهوة المُلِحَّة المؤلمة ليست خطية لأنها لم تحبل بعد لتلد خطية.  إنها لا تعبِّر عن تعلق قلبي بها واستمتاع واستسلام، بل هي سبب معاناة لأنها تدفع المؤمن ناحية الخطية وهو يقاومها.  فمثلاً هناك فرق بين الرغبة في جمع المال، ومحبة المال.  فالأولى في حد ذاتها مهما كانت شديدة، فهي تعبِّر عن رغبة الجسد والفراغ الذي ينادي صاحبه ويحركه للامتلاك، وهذا وحده ليس خطية.  أما محبة المال، فهي الشهوة التي اقترنت بالإرادة، واستسلم لها الشخص وأصبحت شهوة مسيطرة وهو ما يُعرَف بالهوَى، والشخص يسعى إليها ليملأ فراغه بها.  فهذه خطية بل هي أصل لكل الشرور.

الأولى (الشهوة) تدفع الشخص دفعًا من الداخل، ولكنه ينتصر عليها ويقاومها، وإذا انغلب وانخدع منها يعيش في معاناة بسبب الهزيمة «لست أفعل ما أريده، بل ما أبغضه فإياه أفعل» (رو 15:7).  أما الثانية (ليس مجرد الشهوة بل الهوى) فإن الشخص يذهب بإرادته وراءها، يداعبها، يستمتع بها، «ذهب وراءها لوقته، كثورٍ يذهب ...» (أم 22:7)، إنه التعلق القلبي بها، والفخ الذي اصطاد الشخص إليه وقيَّده به. 

وفي الأيام الحاضرة، بسبب التعرُّض المُكثَّف للأمور التي تشبع الفراغ النفسي، والتي تغذي الجسد، والقصور في ضرورة إدانة الخطية، والتحذير منها، وبسبب "الميديا"، وبسبب خلط الأمور العالمية التي تشبع الجسد مع أقدس الأمور الروحية، وبسبب الرغبة في مجاراة الآخرين، بسبب هذا كله، قد تعمَّق الفراغ النفسي عند الكثيرين، وتحوَّل الكثير من الشهوات إلى هوى، وبطشت بكثير من المؤمنين، وكثير منهم «رأى المَحَلَّ أنه حسنٌ، والأرض أنها نَزِهَةٌ، فأحنى كتفه للحِمْلِ وصار للجزية عبدًا» (تك15:49).

كيف يمتلئ الفراغ؟

1- الوسائل النفسية
:
ماذا يمكن أن يُقدِّم علم النفس لمؤمنين يعانون من عمق الفراغ النفسي ومن إلحاح الرغبات في داخلهم؟ هل عنده ما يرويهم؟

•    إن الهدف الرئيسي لهم هو محاولة الحفاظ على توازن الشخص فلا ينهار تحت إلحاح رغباته ورفضه لها.

•    أن يتعلَّم كيف يعرف نفسه من ناحية، ويقبل نفسه على ما هو عليه، ولا يستاء مما فيه، فهذا هو حال الجميع.

•    أن يتعلَّم ضبط النفس لمحاولة التحكُّم في نفسه على قدر الإمكان مستخدمًا إرادته.

•    يحاول سداد احتياجاته والتجاوب مع فراغه بالطرق الشرعية التي تُسمَّى بريئة.  وهذا مَكمن الخطر، لأنه هنا لا يدين تجاوبه مع النداءات الداخلية، ولا يستنكف من أن يأخذ من أمور الحياة التي تُسمَّى بريئة وشرعية كل ما يستطيع الحصول عليه بحجة إشباع فراغه، خاصة وأن شكل الأمور ليست خطية.  وسيتعلَّق بها ولن يدين تعلُّقه بها، وستتحوَّل إلى هوى بالنسبة له.

•    سليمان كان أكثر مَنْ استخدم الوسائل النفسية الصحيحة والوسائل الشرعية المُحلَّلة لإشباع فراغه العميق.  فقد استخدم إمكانات أعطاها له الله، في وسائل كانت في يومه من حقه.  لكن هل شبعت نفسه في النهاية؟ هل امتلأ فراغه في داخله؟ بالعكس نقرأ أنه ليس فقط لم يشبع ولم يمتلئ، لكن زاد فراغه عُمقًا فشعر أن «كل الأنهار تجري إلى البحر، والبحر ليس بملآن» (جا7:1)، وأيضًا عندما أخذ وزاد الخواء بداخله قرر الحقيقة التي دوت على مر السنين «الكل باطل وقبض الريح».

•    وكان عند السامرية نوع مُحدد من الفراغ العميق، ولجأت أولاً للطرق الشرعية خمس مرات، «كان لك خمسة أزواج» (يو 18:4)، ثم لجأت للغير شرعية.  وهذا يكشف أنه طالما كان الهدف هو الإشباع (وهذه هي محاولات علم النفس والطب النفسي) فلن يكتفي الشخص بالوسائل الشرعية بل سيلجأ لغيرها.  ورغم هذا وذاك قال لها الرب: «كل مَنْ يشرب من هذا الماء (بطرق شرعية أو غير شرعية) يعطش أيضًا» (يو 13:4).

•    وفي النهاية إن جميع الطرق النفسية من محاولات البحث عن وسائل حسيَّة لتهدئة الرغبات الداخلية فاشلة، وكذلك محاولات ملء الفراغ النفسي أكثر فشلاً، بل سيختبر كل مَنْ يسلكون هذا الطريق أنهم «نقروا لأنفسهم أبارًا، آبارًا مُشقَّقة لا تضبط ماء» (إر 13:2).  وأهم أسباب حياة الضحالة الروحية والهزيمة والشكليات والاستسلام هو استخدام الوسائل النفسية لعلاج الأمور الروحية، وإيجاد مبرر لهذه الوسائل على أنها ليست خطية.     

 2- الحل الإلهي:
1.    الكتاب يُعلِّمنا أن لا ندين ما نحن غير مسؤولين عنه.  فلا تدين الرغبات، ولا تدخل في صراع معها محاولاً إخماد صوتها فهذا لن يحدث، وسيظل صوتها متناسبًا مع عمق فراغك.

2.    لا تحاول ملء الفراغ بأشياء إنسانية شرعية أو غير شرعية.

3.    العطش يحتاج إلى ماء، والفراغ العميق والعطش الشديد يحتاج إلى ينبوع متدفق مستمر.  واعلم أن هذا الينبوع موجود عند الرب وحده، ينبوع «الماء الحي» (إر 13:2)، وهو الذي قال: «إن عطش أحد فليقبل إليَّ ويشرب» (يو 37:7).  لذلك كُفْ عن البحث عن مصادر أخرى ووفر على نفسك الوقت حتى لا تعطش أيضًا.  لقد دخل المسيح حياة السامرية فتغيَّرت، وامتلأ كيانها بالقليل من كلماته.

4.    الفراغ الذي فيك تتنازعه طبيعتان، «الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد» (غلا 17:5).  فالجسد يحاول أن يملأ فراغك بأمور شرعية أو غير شرعية وأي شيء ما عدا المسيح، والعالم يُقدِّم لك هذا الغذاء.  ولكن الطبيعة الجديدة والروح القدس الساكن فيك يحاول أن يملأ فراغك بالمسيح، والذي ستُعطيه كيانك هو الذي سيملأ فراغك.  اذهب إلى المسيح صارخًا: «يا سيِّد، أعطني هذا الماء، لكي لا أعطش ولا آتي إلى هنا لأستقي» (يو 15:4).

5.    الاجتهاد هو سمة مسيحية ضرورية.  ولكنه ليس اجتهاد التصدي لنزع رغبات الجسد ولا للقضاء على الفراغ، فهذا اجتهاد نتيجته الهزيمة الحتمية.  لكن اجتهد للتحصيل الإيجابي من هذا النبع الغزير، اجلس أمام الكلمة لتشرب منها، وأمام المسيح لتمتلئ به، واجتهد في هذا ولا تدع شيئًا يمنعك عنه مهما كان.  فهذا سيجعلك من ناحية:

    تشبع وترتوي من الداخل وتمتلئ نفسك به ويتم فيك القول: «النفس الشبعانة تدوس العسل».  وتذكَّر أن المطلوب هو عدم التجاوب مع رغبات الجسد.

    ومن ناحية أخرى تأخذ الاحتياج الضروري فقط من أمور الزمان ولا تنهل منها بغزارة حتى لا تتحول إلى إدمان.

    وعندما تعرف المسيح أكثر سوف تعتبر أن أي شيء في حياتك غير المسيح خسارة، ويكون لسان حالك: «الذي من أجله خسرت كل الأشياء، وأنا أحسبها نفايةً» (في 8:3).  

 لكن بعد كل هذا، هل سيكف العطش وهل سيمتلئ الفراغ دائمًا؟ كلا.
سيظل الفراغ ويظل العطش، لكن الشيء الذي يعطش له الشخص سيتغيَّر وسيكون لسان حاله: «عطشت إليك نفسي» (مز 1:63).
وهذا يمكن أن يملأ النفس تمامًا إلى الفيضان.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com