عدد رقم 3 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
نهر ُحُبٍّ جارفٍ قوي  

« اِجْعَلْنِي كَخَاتِمٍ عَلَى قَلْبِكَ، كَخَاتِمٍ عَلَى سَاعِدِكَ. لأَنَّ الْمَحَبَّةَ قَوِيَّةٌ كَالْمَوْتِ. الْغَيْرَةُ قَاسِيَةٌ كَالْهَاوِيَةِ. لَهِيبُهَا لَهِيبُ نَارٍ لَظَى الرَّبِّ. مِيَاهٌ كَثِيرَةٌ لاَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تُطْفِئَ الْمَحَبَّةَ، وَالسُّيُولُ لاَ تَغْمُرُهَا» (نش8: 6و7).

   يُعلن الروح القدس في سفر نشيد الأنشاد محبة المسيح الفائقة المعرفة، باعتباره العريس المجيد، والمُتَّجه بمحبته نحو شعبه باعتبارهم عروسه المحبوبة، ولذلك يُخاطبها بالقول (حبيبتي).  والعروس أيضًا تخاطبه (حبيبي).  وفي الأصحاح الأخير من هذا السفر ترد هذه العبارات الجميلة التي في مطلع المقال.  ومنها يمكننا أن نرى عظمة هذه المحبة كما يلي:

   أولاً: المحبة قوية كالموت:
   إن محبة المسيح قد امتُحِنَتْ بالموت، وهو أقسى صور الامتحانات، فثبتَتْ ولم تتراجع، وكانت أقوى من الموت.  فالموت لم يستطع أن يوقفها، بل أظهرها في أروع صورة.  كما قال المسيح: «ليس لأحدٍ حبٌّ أعظمُ من هذا أن يضعَ أحدٌ نفسه لأجل أحبائه» (يو13:15).  ويقول بولس: «الله بيَّن محبته لنا، لأنه ونحن بعد خطاة مات المسيح لأجلنا» (رو5: 8).  وأيضاً «أحب المسيح الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها» (أف5: 25).  ليس فقط أنه أعطاها عطايا ثمينة، لكنه ضحَّى بنفسه وبذل حياته لأجلها.
   لكن هنا في سفر النشيد يقول: «المحبة قوية كالموت»، ومن المُؤكَّد أن الروح القدس من خلال هذا التشبيه يريد أن يُعلن لنا أمورًا هامة، نذكر منها:

-    الموت شمل جميع البشر
: «في آدم يموت الجميع» (1كو22:15)، وأيضًا «أي إنسان يحيا ولا يرى الموت» (مز89: 48)، هكذا المحبة أيضًا شملتْ جميع البشر، ولم يُستثنَ منها أحدٌ، «لأنه هكذا أحبَّ اللهُ العالمَ حتى بذلَ ابنَه الوحيد» (يو3: 16).

-     لا يستطيع أحد أن يقف أمام سطوة الموت، فهو قوة لا تُقهَر، ويصل إلى مَنْ يريد دون استئذان.  هكذا محبة الله لا تقف أمامها قوةٌ، ولا يعوقُها شيءٌ من أن تصل إلى الجميع حتى أردإ الفُجَّار، وهي قوة تُحاصر وتأسر النفس مهما كانت معاندة.

-    الموت لا يُفرِّق بين غني وفقير
، رجل وامرأة، شيخ وطفل، مُتعلِّم وجاهل، إذ يصل إلى كل الفئات.  هكذا محبة الله لا تُفرِّق بين إنسان وإنسان مهما كان مركزه أو لونه أو جنسه أو ثقافته.

-     الموت قد يُريح الإنسان وقتيًا من متاعب الزمان والمرض، أما المحبة الإلهية فتُريحه من متاعب الخطية وأهوال الأبدية.

   ثانيًا: المحبة نار .. لا تُطفِئُها المياه الكثيرة:
   المياه الكثيرة هنا تتكلَّم عن بُغضة البشر في صورها المُتعدِّدة لله، والتي بلَغَتْ ذروتها عند الصليب، حيث اشترك العالم كله في جريمة صلب ابن الله.  لكن كراهية الإنسان لم تُعطِّل قوة المحبة الإلهية.  والمياه الكثيرة أيضًا تتكلَّم عن عداوة الشيطان وهياجه كالأسد ضد ابن الله، خاصة في جثسيماني وفي المحاكمة وفي جلجثة.  لكن هذا أيضًا لم يُعطِّل قوة المحبة نحو البشر.  وأخيرًا فإن المياه الكثيرة تتكلَّم عن الدينونة والغضب من جانب العدل الإلهي، حيث كان المسيح نائبًا وبديلاً عنا يواجه تيارات ولجج عدل الله وسط ساعات الظلام، وكأنه يقول: «احسب ذلك عليَّ ... أنا أوفي» (فل 18، 19).   

   كان بمقدوره أن يعود للآب من حيث أتى دون أن يذهب إلى الصليب (يو3:13)، وهو يشعر أن الناس قد رفضوه واحتقروا محبته.  وكان في سلطانه أن يطلب من الآب فيُرسل له اثني عشر جيشًا من الملائكة تدافع عنه (مت26: 53).  ولقد أعطاه الوالي فرصة ليدافع عن نفسه وكان يريد أن يطلقه، لكنه لم يُجبْه ولا عن كلمة واحدة حتى تعجَّب الوالي جداً (مت27: 12-14).  كان من الممكن أن يصنع معجزة واحدة أمام هيرودس فيطلقه حُرًا ( لو23: 8،9).  وكان بإمكانه أن ينزل عن الصليب، فالقوة التي ربطتْه به كانت أقوى بكثير من القوة التي تلزمه لكي ينزل عنه، إنها قوة المحبة الإلهية.  لقد قال «لأجل هذا أتيتُ إلى هذه الساعة» ( يو12: 27).  كان يعلم كلَّ شيء، وكلَّ ما سيأتي عليه من آلام نفسية وجسدية وكفارية، وكان يعلم عداوة الشيطان له، وقسوة البشر ورفضهم إياه، لكنه لم يتراجع مُطلقًا عن إتمام العمل الذي لأجله قد أتى، لأن قلبه كان مملوءًا بالمحبة للآب ولنا نحن البشر المساكين الخطاة.  إنه كالعبد العبراني الذي قال: أحبُّ سيدي وامرأتي وأولادي، لا أخرج حُرًا.  ونحن بدورنا نُنشدُ من قلوبنا لهذا المُحب الفريد قائلين:
حبك الحب العجيب … فاق إدراك العقول
لم يكن هول الصليب … دون ذا الحب يحول

   ثالثاً: المحبة أعلى من الجبال الشامخة فلا تغمرُها السيول:
   في حادثة الطوفان في سفر التكوين الأصحاح السابع، نرى أن الفلك هو الوحيد الذي تحدَّى كلَّ السيول والمياه وارتفع فوقها.  فعندما انفجرتْ ينابيع الغمر العظيم، وانفتحتْ طاقات السماء، وتعاظمتْ المياه وتكاثرتْ جداً على الأرض، غطَّتْ جميع الجبال الشامخة التي تحت السماء، وارتفعتْ فوقها بخمس عشرة ذراعًا.  لكن الفلك كان يطفو فوق المياه، والسيول لم تغمُرْهُ.  وهذا ما حدث مع ربنا يسوع المسيح الذي صمد في محبته وهو يواجه أهوال الدينونة.  لقد تحمَّل آلامًا من يد البشر ورغم بشاعتها وقسوتها لكنه لم يصرخ صرخة واحدة، وأما الآلام التي تحمَّلها من يد الله العادل القدوس فكانت فائقة وبلا قياس، لذلك نقرأ عنه أنه «صرخ بصوتٍ عظيم ... إلهي إلهي لماذا تركتني؟»، وأيضًا «فصرخ بصوتٍ عظيم وأسلم الروح» (مر34:15 ،37).  ويقول بلسان النبوة «غمرٌ ينادي غمرًا، عند صوت ميازيبك، كل تياراتك ولججك طمتْ عليَّ» ( مز42: 7).  نعم إن المياه لم تستطع أن تطفئ محبته، والسيول لم تغمُرْها، بل ظلَّتْ شامخةً تتحدَّى الأهوال، وتنادي بالراحة للمُتعَبين، وبالخلاص للهالكين.  كم من الناس أظهروا له العداء لكنه غلبهم، لا بالقوة مع أنه الأقوى، ولا بالجبروت مع أنه الجبار، بل بالحب العجيب.   وكان شاول الطرسوسي واحدًا منهم، حتى أن الرب يسوع ظهر له قائلاً: «لماذا تضطهدني»؟ ( أع9: 4،5).  وبعد أن جذبته المحبة واحتوته قال عنه: «ابن الله الذي أحبني وأسلم نفسه لأجلي» (غل2: 20).

   عزيزي القارئ: هل تريد أن تعرف محبة الله لك رغم كل خطاياك أو ظروفك التي تشكو منها؟ هيا بنا نترك ظروفنا جانبًا ونذهب إلى الجلجثة ونقف عند الصليب، لنرى شخصًا وديعًا وبديعًا مُعلَّقًا على خشبة ينظر إلينا بنظراته الحانية، ويقول في حُبٍ شديد لكل واحد منا: لأجلك أنا هنا.  هل استمتعت بهذا المحب وبهذه المحبة؟ أم إلى الآن تبحث عمَّنْ يُحبُّك؟ تعال إليه الآن ولا تحتقر محبته، ستجد نفسك مُنشدًا.
عنِّي أنا، نعم عنِّي .. حُبُّه لي سامٍ عجيب
يشدو به تَرَنُّمي ... إذ قد فداني بالصليب
                                                                                                                                               


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com