من سقطة داود، رأينا سابقًا خطورة ما بعد الانتصار، وضرر ألا نكون في مواقعنا السليمة، ومغبَّة الكسل، ومنزلق أوقات الفراغ، وما قد يصيبنا من عدم الانفصال عن شرور العالم. ونواصل دروسنا من سقطة هذا العملاق الذي نقدِّره جميعًا، وأكنّ له – شخصيًا - حبًّا شديدًا، وأقرُّ أنني تعلمت من حياته إيجابيات عديدة. لكنه سقط، ولنعلم أنه لا كبير على السقوط، وقد سُجلَّ لنا الحدث بالتفصيل لنتعلم ولنتحذر. وأرجو من قارئي العودة للقصة في 2صموئيل 11، 12 قبل مواصلة السطور التالية.
إذا أعثرت العيناستنتجنا سابقًا أن سطح بيت داود كان بلا سور، لكن ألعل عيناه كانتا بلا أجفان؟!
يقول الراوي الإلهي: «فَرَأَى مِنْ عَلَى السَّطْحِ امْرَأَةً تَسْتَحِمُّ...». والمسألة لم تكن نظرة عابرة، وإلا كان يكفيه إغلاق جفنيه أو إشاحة وجهه بعيدًا. ”امرأة تستحم“، هل هذا المنظر هو الذي يطيل رجل الله النظر إليه؟! رجل الله الذي كانت أمنيته يومًا «أَسْكُنَ فِي بَيْتِ الرَّبِّ كُلَّ أَيَّامِ حَيَاتِي، لِكَيْ أَنْظُرَ إِلَى جَمَالِ الرَّبِّ، وَأَتَفَرَّسَ فِي هَيْكَلِهِ» (مز27: 4)، وهل يصلح لعينٍ تكحَّلت بمرأى جمال الرب أن تُحدق في منظر كهذا؟! لكنه أطال النظر بالقدر الكافي لأن يتكون في ذهنه الانطباع أن «الْمَرْأَةُ جَمِيلَةَ الْمَنْظَرِ جِدًّا» وليبدأ السقوط العنيف!! لقد كان «يَنْظُرُ إِلَى امْرَأَةٍ لِيَشْتَهِيَهَا، فَقَدْ زَنَى بِهَا فِي قَلْبِهِ»، وكان يجدر به أن يتبع ما قاله السيد «إِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ الْيُمْنَى تُعْثِرُكَ فَاقْلَعْهَا» (مت5: 28، 29). لكنه سار خلف عينيه، استدرك في الانحدار إذ «أَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ... فَأَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا... فَاضْطَجَعَ مَعَهَا»!! ولاحظ أن الأفعال كلها تنم عن نية وقصد، ولاحظ أيضًا تسلسلها! حقًا إن «سِرَاجُ الْجَسَدِ هُوَ الْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا» (مت6: 22، 23).
إن بداية الانحدار والسقوط هو أن نسمح لعيوننا بالتلفت هنا وهناك دون ضابط أو رابط، أو اسمح لي أن أقولها بالعامية المصرية أن تكون لنا ”عيون زايغة“، عيون بلا أجفان، بلا عقل خلفها يحركها بعيدًا عن مصادر الإغراء والخطر. هذا المبدأ يُقال للشاب وللشيخ، وللفتاة والمرأة!ولعله من المناسب هنا أن أ توجَّه بكلامي لكل فتاة متسائلاً: صحيح أن الخطأ يُنسب لداود، ومسؤوليته عنه هي الأكبر، لكن أليست بثشبع شريكة فيه بدرجة ملموسة؟! لا بد وأنها كانت تعلم أنها تسكن بجوار رجل، هو داود؛ فهل نعفيها من الخطإ أو نجد لها عذرًا أن تستحم في مكان مكشوف للعيون؟!! أختي الشابة، أعتقد أنك لا تفعلي حرفيًا مثلها، لكن ماذا عن مظهرك، ملابسك، ”مكياجك“، تصرفاتك، حركاتك، طريقة كلامك،...؟ قال السيد «وَيْلٌ لِذلِكَ الإِنْسَانِ الَّذِي بِهِ تَأْتِي الْعَثْرَةُ! ...» (مت18: 6-8)؛ فاحذري!! ودقِّقي! وكوني سبب بركة لا عثرة!
وليتنا جميعًا نلتفت إلى نصيحة الحكيم «لِتَنْظُرْ عَيْنَاكَ إِلَى قُدَّامِكَ، وَأَجْفَانُكَ إِلَى أَمَامِكَ مُسْتَقِيمًا» (أم4: 25). ولنسمع مدح الذي «يُغَمِّضُ عَيْنَيْهِ عَنِ النَّظَرِ إِلَى الشَّرِّ؛ هُوَ فِي الأَعَالِي يَسْكُنُ (ليس في أسافل السقوط)، حُصُونُ الصُّخُورِ مَلْجَأُهُ (في مأمن)» (إش33: 15، 16).
رفض تحذير الأمينما أعظم إلهنا الأمين الذي لا يتركنا بلا تحذير وقت الخطر! ولا أدري كيف أصف نفسي عندما لا أصغي لتلك التحذيرات!
عندما «أَرْسَلَ دَاوُدُ وَسَأَلَ عَنِ الْمَرْأَةِ، فَقَالَ وَاحِدٌ: أَلَيْسَتْ هذِهِ بَثْشَبَعَ بِنْتَ أَلِيعَامَ امْرَأَةَ أُورِيَّا الْحِثِّيِّ؟». نحن لا نعرف من هو الواحد الذي قال، لكن نعرف أنه قال إن بثشبع زوجة رجل! والعجيب أن داود لم يتحذَّر من هذا، ولا كان لصدى الكلمات وقع في آذانه أو على ضميره، وهو عارفٌ الناموس. بل وكمخدَّر أو مُغيَّب، تمادى في الانحدار فـ«أَرْسَلَ دَاوُدُ رُسُلاً وَأَخَذَهَا، فَدَخَلَتْ إِلَيْهِ، فَاضْطَجَعَ مَعَهَا»!!
أوَ لا يرسل لنا الرب ”واحدًا“ يحذرنا دائمًا ألا نخطئ؟! قد تكون عبارة من مجهول، ربما جملة بين السطور، أو جزء من كلمة الله تذكرناه، أو إعاقة لطريقنا، أو صدمة، أو تعثُّر في أمور طبيعية، أو حتى حمار بلعام؛ كلها أشياء يستخدمها الرب ليقف في طريق بُعدنا «لكِنَّ اللهَ يَتَكَلَّمُ مَرَّةً، وَبِاثْنَتَيْنِ لاَ يُلاَحِظُ الإِنْسَانُ... لِيَمْنَعَ نَفْسَهُ عَنِ الْحُفْرَةِ» (أي33: 14-19). فعلينا إذَن أن نفهم ونرجع. يرنم مرنم بالعامية فيُبلغ في قوله: ”الله بيقول، لكن قلبي محتاج يتعلم كيف يسمع... قول له: يعطيك قلب حساس“، ولتكن هذه هي طلبتنا!
ما زاد بلة الطينأما ما زاد السقوط انحدارًا، وجعل الأخطاء تتراكم، والشرور تتفاقم؛ فهو تصرف صاحبنا بعد سقطته.
من المفترض أن التحريض للمؤمنين «لاَ تُخْطِئُوا» والاستثناء «إِنْ أَخْطَأَ أَحَدٌ» (1يو2: 1). وإن سقطنا علينا أن نقوم (مي7: 8)، وسبيلنا إلى ذلك «إِنِ اعْتَرَفْنَا بِخَطَايَانَا... يَغْفِرَ... وَيُطَهِّرَنَا» (1يو1: 9). فـ«مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ». لا ينجح في أن يكتمها، بالطبع، ومتابعة قصتنا تؤكِّد ذلك؛ «فَلَيْسَ مَكْتُومٌ لَنْ يُسْتَعْلَنَ» (لو12: 2). لكنه أيضًا ”لا ينجح“ بشكل عام، فقد تحولت رطوبته إلى يبوسة القيظ (مز32: 4). أما «مَنْ يُقِرُّ بِهَا (خطاياه) وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أم28: 13)، وهذا حدث مع داود بعد ذلك، يومها، ويومها فقط، عاد إلى النجاح.
ودعونا نتوقف قليلاً عند بعض ما عمله داود بعد السقطة، في محاولة منه، لا لعلاجها جذريًا، بل للتخلص فقط من آثارها.1) لقد اهتم داود بالمظهر أكثر من الحقيقة؛ فعندما أخبرته التي لأوريا أنها حُبلى، لم نسمع أنه جرى إلى مكانه المفضَّل: محضر الله، ولا فعل ما اعتاد عليه: أن يصلي، ولا جرت دموعه المعهودة، أو ضربه قلبه الرقيق! فالقلب كان في جمود غير معهود؛ بسبب الخطية. بل أسرع بذكائه الإنساني يدبِّر كيف يحفظ المظهر العام بلا ملامة!! كان كل ما يهمه أن يعود أوريا إلى بيت الزوجية فيبدو أمر الحَبَلِ طبيعيًا!! كان يهمه فقط الشكل الخارجي! أن يحتوي الأزمة ويتجنب الفضيحة!
ومع أن الله يريد أن يكون منظرنا حسنًا أمام الناس وأعمالنا حسنة فيمجدوه، ويريد ألا يكون لأحد شكاية علينا كقديسيه؛ لكنه لا يقبل إلا بأن يكون المظهر الخارجي تعبيرًا حقيقيًا، غير مُصطنع، عن حالة القلب من الداخل (مت23: 25، 26).
ومن أسفٍ، عندما يتحول الشكل ليكون هو الأهم بالنسبة لنا، تبدأ الخطايا في التراكم الواحدة تلو الأخرى. هل عدَّدنا أخطاء داود بعد الزنا؟ تابع القراءة واكتشف بنفسك.
2) لتغطية ما حدث، لم يجد داود غضاضة في استغلال الآخرين بغضِّ النظر عن ما سيصيبهم من جرّاء ذلك، ودون اعتبار لما يشكله هذا الاستغلال من استهانة بهم وتفريط في واجبات ملك من واجبه أن يرعى شعبه. لقد خادع أوريا ونافقه وأغرقه في كلام معسول لا يعنيه! ثم أسكر ذلك الرجل التقي: أوريا! وأصدر أوامر فاسدة ليوآب! وخطَّط لقتل أوريا مع سبق الإصرار والترصد، ونفَّذ. ذاك الذي لم يقبل، في يوم سابق، أن يترك شاته في فم أسد ودب، قتل واحدًا تقيًا، بل وأكثر إذا اعتبرنا الذين سقطوا في المعركة! قتل رجلاً رفض أن يعطي لنفسه راحة أو أي متعة طالما شعب الرب في المعركة!!
عندما نكتم خطايانا نؤذي الآخرين، نؤذي المقرَّبين منا، نؤذي عائلاتنا، نؤذي مخدومينا، نؤذي أتقياء! وبالطبع نؤذي أنفسنا! وقبل الكل؛ نؤذي مشاعر سيدنا!!
3) أخطأ يوآب خطأً حربيًا كان ينبغي لداود تعنيفه عليه، لكن يوآب عرف ”كلمة السر“ لامتصاص غضب داود؛ فقال للرسول «فَإِنِ اشْتَعَلَ غَضَبُ الْمَلِكِ... فَقُلْ: قَدْ مَاتَ عَبْدُكَ أُورِيَّا الْحِثِّيُّ أَيْضًا»!! وكل العجب في رد داود: «هكَذَا تَقُولُ لِيُوآبَ: لاَ يَسُؤْ فِي عَيْنَيْكَ هذَا الأَمْرُ، لأَنَّ السَّيْفَ يَأْكُلُ هذَا وَذَاكَ»!! أإلى هذا الحد فسدت مقاييسه، واعتبر الطالح صالحًا، ونافق من يستحق التوبيخ بل عزاه، والتمس العذر للتقصير، مفرّطًا في واجباته الحربية كملك؟!
إذا وجدنا أنفسنا في مثل هذا الحال، حال اعتلال المبادئ والمقاييس؛ فلنفحص أنفسنا جيدًا.
4) ويتدهور الوضع أكثر، فعندما «مَضَتِ الْمَنَاحَةُ أَرْسَلَ دَاوُدُ وَضَمَّهَا إِلَى بَيْتِهِ، وَصَارَتْ لَهُ امْرَأَةً وَوَلَدَتْ لَهُ ابْنًا»، وكأن شيئًا لم يكن!! لقد اغتنم امرأة أوريا! وكأن الله لم يرَ!! وكأن لا معاصرون للحدث تعثروا!! وكأن الطفل هذا لم يكن من زنا!!
كأن شيئًا لم يكن بالنسبة لداود، لكن بالنسبة لله «أما الأَمْرُ الَّذِي فَعَلَهُ دَاوُدُ فَقَبُحَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ».
”عادي“.. ”وفيها إيه“.. ”لا تحبكها“ ”كله محصل بعضه“؛ إن كثرت هذه الكلمات ونظيراتها على ألسنتنا، فهي ناقوس للخطر! ومن له آذان فليسمع، وليهرب!
5) أدخل غلطته ”الأرشيف“ ودفنها في مخازن النسيان، حتى أن القصة التي قصَّها ناثان عليه لم تشكِّل له أي لمس لضميره. بل الأكثر أن حمي غضبه على الرجل موضوع القصة، وأسرع لإدانته بعنف. وهل تدري سر عنفه في الإدانة؟ إن إدانة الآخرين، وخاصة إذا اكتسبت صفتي العنف والاستمرار، هي من الحيل الدفاعية النفسية الشهيرة التي يتصرف بها الشخص تلقائيًا في محاولة لتخفيف ضغط نفسي عنده، وهو في حالتنا هذه الشعور بالذنب.
إن وجدت نفسك دائم الانتقاد للآخرين، ونقدك ليس لتصحيح أوضاعهم بل ما هو إلا إدانة فحسب، وإذا وجدت أن هذا يتيح لك التنفيس عما بداخلك ويُشعرك براحة وقتية؛ فأرجوك ارجع إلى نفسك، وادخل محضر إلهك، وابحث عما يسبب لك هذا التوتر، واطلب منه أن يشير على كل خطإ وتقصير، وأن يقودك للتوبة والتغيير. قد تكون «أَنْتَ هُوَ الرَّجُلُ!»، ويوم تعي ذلك ستبدأ رحلة الرجوع، وهذا ما حدث مع داود، وما أحلى الرجوع إلى إلهنا.
* * * *
إن أعثرت العين؛ فلنقلعها، مصلين أن تحوَّل العين عن النظر إلى الباطل (مز 119: 37). ولنسمع تحذير الأمين الذي يبغي خيرنا ونستفيق راجعين. وليتنا لا نزيد بلة الطين بكتم الخطايا ومهاترات محاولة الحفاظ على المظهر دون المخبر، بل إن سقطنا فلنقم ونرجع إلى سيدنا.
عصام خليل