عدد رقم 3 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الله بين الناموس والنعمة  
                                              
   إذا كان العهد القديم من الكتاب المقدس يُعلن نفس الإله المُعلَن في العهد الجديد، فلماذا يبدو الانطباع عنه مختلفًا اختلافًا كبيرًا بين العهدين، فيبدو الله في العهد القديم قاسيًا يأمر بالقتل دون تمييز أو رحمة، بينما في العهد الجديد يبدو رحيمًا و عطوفًا؟

   نعم .. فالكتاب المقدس وإن كان يتكوَّن من عهدين، لكنه كتابٌ واحد يعلن إلهًا واحدًا، وتأتي الشهادة لمصدره الإلهي في رسالة بولس الرسول الثانية إلي تيموثاوس 3: 16
«كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحىً بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِر

   فالعهد القديم يُعلن الله ومعاملاته مع البشر من بدء الخليقة وحتى قبيل مجيء المسيح، والعهد الجديد يبدأ بمجيء المسيح إلى أرضنا، وينتهي بالسماء الجديدة والأرض الجديدة في الحالة الأبدية.  وهذا ما لخَّصه الروح القدس مصدر الوحي في افتتاحية الرسالة إلى العبرانيين قائلاً: «اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُقٍ كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هَذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ» (عب1:1).

   على أن الله لم يتعامل مع البشر بطريقة واحدة في كل العصور، بل بطرق مختلفة في مختلف العصور، وقد أُطلق على طرق الله المُتباينة في تعامله مع البشر كلمة "التدبيرات".
   فكان أول تدبير هو تدبير "البراءة"، حيث كان آدم وحواء في الجنة في حالة البراءة، لم يعرفا بعد الخير والشر، ووُضِعا تحت الامتحان، وبالأسف فشلا سريعًا.  وانتهى هذا التدبير بسقوط الإنسان في الخطية وطرده من الجنة.

   ثم بعد ذلك تدبير "الضمير"، حيث نشأ الضمير في كيان الإنسان كقوة أدبية، تجعله يستطيع أن يُميِّز بين الخير والشر.  وتحت حُكم الضمير قام قايين على هابيل وقتله، وفي أيام نوح امتلأت الأرض ظلمًا وفسادًا، وانتهي هذا التدبير بالقضاء في الطوفان على العالم القديم.

   ثم ابتدأ تدبير "الحكومات" بعد الطوفان، حيث أرسى الله مبدأً جديدًا يتضمَّن أن "سَافِكُ دَمِ الإنْسَانِ بِالإنْسَانِ يُسْفَكُ دَمُهُ.  لانَّ اللهَ عَلَى صُورَتِهِ عَمِلَ الإنْسَانَ" (تكوين 9: 6).  وهذا هو الأساس الذي قامت عليه الحكومات في كل العصور، وبالأسف فشلت الحكومات في كبح شر الإنسان، وازداد الظلم والتمرد، وانتهى هذا التدبير بالقضاء في حادثة برج بابل (تك 11: 6)
.
   ثم اختار الله إبراهيم ونقله من أور الكلدانيين إلى أرض كنعان وأعطاه الوعد أن تتبارك في نسله جميع أمم الأرض، وأراد الله أن يكون إبراهيم ونسله من بعده شهودًا له.  وهذا ما يُعرَف بتدبير "الوعد"، وهو مؤسَّس على النعمة.
   ثم نقرأ عن نزول يعقوب وبنيه إلى أرض مصر، وكيف نموا وكثروا هناك، لكنهم أيضًا قاسوا العبودية، حتى أرسل الرب إليهم موسى مُخلِّصًا.
   وبعد عبورهم بحر سوف، وهناك أسفل جبل سيناء، قال الشعب: «كل ما يقوله الرب نفعل».  فأعطاهم الرب الناموس لامتحانهم، وكان "الناموس" هو التدبير الخامس.  ولكن تحت الناموس لم ينجح أحد.  وانتهى تدبير الناموس بتسليم اليهود للمسيح وصلبه خارج أسوار أورشليم، ثم خراب أورشليم سنة سبعين ميلادية، وهلاك وتشتت اليهود.

   وبصلب المسيح وموته الكفاري، وقيامته في اليوم الثالث، وصعوده إلى السماء، ونزول الروح القدس يوم الخمسين وتأسيس الكنيسة، بدأ التدبير السادس، تدبير "النعمة"، الذي نعيشه الآن ويستمر حتى مجيء المسيح ثانية لاختطاف كنيسته.  وبعد ذلك سوف تنصب جامات غضب الله على الأرض، قبل أن يظهر المسيح ويُطهِّر الأرض من الأشرار ويؤسِّس مُلكَه السعيد، مُلك البر والسلام لمدة ألف سنة فيما يُعرَف "بتدبير ملء الأزمنة"، وهذا هو التدبير السابع والأخير.

   لكن قد يبرز سؤال: لماذا يستخدم الله طُرُقًا متباينة في تعامله مع الإنسان وحُكمه للأرض؟ وهل فشل الله في تدبيره ومنهج تعامله لذا قرَّر أن يُغيِّره ويُجرِّب طريقة أخرى؟ أوَلم يعلم الله مُسبقًا بنتيجة التدبير؟

 
  بكل يقين الله يعلم، وهو الوحيد الذي لا يفشل أبدًا، ولكن الذي لا يعلم، والذي يفشل دائمًا هو الإنسان في كل التدابير.  فمنذ أن عصى الرب الإله وأكل من الشجرة التي أوصاه ألا يأكل منها، وانفتحت عيناه وعرف الخير والشر، فقد عجز عن فعل الخير وعجز عن الإمتناع عن الشر.  فالله غيَّر التدابير بالنظر لفشل الإنسان، ولكي يعرف الإنسان حقيقة فساده وعجزه، فيلجأ للمخلص ويقبل ترتيب الله البسيط للخلاص بالنعمة.

   ومن المهم أن نقرأ الكتاب المقدس وفي أذهاننا خلفية التمييز بين التدابير، حيث لكل منها طابع وظروف خاصة.  فتدبير الناموس يختلف عن تدبير النعمة، وهذا ما نلاحظه كفرق واضح بين العهد القديم والعهد الجديد، والإعلان عن الله وشكل تعاملاته في العهدين.  ونؤكِّد القول أن الله لم يتغيَّر وإنما التدبير هو الذي تغيَّر، وبالتالي فإن طريقة تعامل الله تغيَّرت.

   ولكن يجدر بنا ملاحظة أن الرب في العهد القديم لم يأمر شعبه أن يحارب ويبيد الشعوب بلا تمييز، ولا كأمر مُطلَق في كل الأزمنة، بل في زمان ومكان مُحدَّد لشعوب بعينها، كقضاء عادل لشرها الرهيب ووثنيتها.  فقد انتظر الرب أربع مئة سنة قبل أن يوقع دينونته على الأموريين لأن ذنبهم لم يكن قد كمل بعد.  فَقَال الربَ لأبْرَامَ: «اعْلَمْ يَقِينًا أنَّ نَسْلَكَ سَيَكُونُ غَرِيبًا فِي أرْضٍ لَيْسَتْ لَهُمْ، وَيُسْتَعْبَدُونَ لَهُمْ.  فَيُذِلُّونَهُمْ أرْبَعَ مِئَةِ سَنَةٍ.  ثُمَّ الأُمَّةُ الَّتِي يُسْتَعْبَدُونَ لَهَا أنَا أدِينُهَا. وَبَعْدَ ذَلِكَ يَخْرُجُونَ ... وَفِي الْجِيلِ الرَّابِعِ يَرْجِعُونَ إلَى هَهُنَا، لأنَّ ذَنْبَ الأمُورِيِّينَ لَيْسَ إلَى الآن كَامِلاً» (تك 15: 13- 16).
   ولقد استخدم الرب وسائل مختلفة للقضاء على شر الإنسان عبر التاريخ، فقد أغرق العالم القديم بالطوفان، ولم ينجُ إلا نوح وبيته بالفلك، وأمطر نارًا ورمَّد سدوم وعمورة للقضاء على شرها الرهيب، واختار أن يقضي علي شر شعوب كنعان بواسطة سيف شعبه عندما اكتمل مكيال إثمهم.  ولعل الرب قد أراد أن يستخدم شعبه في القضاء على شر هذه الشعوب ليُعلِّم شعبه بصورة ملموسة عاقبة الشر والتمرُّد على الرب والوثنية.  وكما استخدم الرب شعبه في إدانة شعوب كنعان، استخدم شعوبًا أخرى لتأديب شعبه والقضاء عليه حينما حاد عن الرب وانحرف إلى نجاسات الأمم ووثنيتهم.  وهذا ما نقرأه بوضوح في سفر القضاة حيث دفعهم ليد الأعداء مثل موآب ومديان والفلسطينيين.  ولقد استخدم بابل لتأديب مملكة يهوذا، واستخدم أشور في تأديب مملكة إسرائيل، واستخدم الرومان في إهلاك اليهود وتشتيتهم وتدمير الهيكل وأورشليم.  فالله إلهٌ بار وعادل، والبر والعدل قاعدة كرسيه.  وهو يحكم بغير محاباة سواء مع اليهود أو الأمم أو الكنيسة في الوقت الحاضر
.
   والتدبير الذي نعيشه الآن هو تدبير النعمة، حيث أكمل المسيح عمله الكفاري، ونظر الله  القدوس يستقر علي دم ابنه الوحيد الذي حصَّل له كلَّ الرضى، وبُناءً على ذلك يُقدِّم نعمته وغفرانه وحبه للخطاة، ويُبرِّر الفاجر عن طريق الإيمان بشخص المسيح وعمله.  فالله لايشاء أن يهلك أناسٌ بل أن يقبل الجميع إلى التوبة.  على أن الدينونة العادلة تنتظر كل الرافضين لابن الله.
                                                                                                                                                                            نحميا ناثان


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com