وصلت إلى المجلة هذه الرسالة من الأخ الحبيب الدكتور متى ناشد حنا، كتعليق على حديث العدد السابق ”نظرة خاطئة للعمل“ في عدد سبتمبر- ديسمبر 2007، والذي كان موضوعه ”العمل“، أنشرها بنصِّها، ثم أعقِّبها بتعليق، راجيًا لقرائنا الأعزاء أن يجدوا في كل من الرسالة والتعليق المزيد من البركة والتعليم. إلا أنني أرجو من القارئ العزيز أن يقرأ المقال المقصود، قبل قراءة الرسالة والتعليق؛ لكي تزداد الفائدة.
الرسالة
عزيزي المحرر، أخي الحبيب الدكتور ماهر صموئيل.
قرأت باهتمام شديد مقالك الافتتاحي في ”رسالة الشباب المسيحي“ بعنوان ”نظرة خاطئة للعمل“. وأنا أتفق مع كثير مما جاء في هذا المقال المهم، كما أن لي بعض الملاحظات عن بعض ما جاء فيه.
بلا شك عندي أن القاعدة العامة هي أن يكون للإنسان عمله الزمني (وأنا لا أتحرج من استخدام هذا التعبير تمييزًا له عن عمل الرب وليس بالضرورة تناقضًا معه). كما أن القاعدة العامة هي أن يتزوج الإنسان ويكوِّن أسرة. لكن هذه القاعدة الثابتة لا تقلِّل أبدًا من أهمية الاستثناءات التي لا ينبغي أن تكون قليلة؛ لأن عمل الرب ميدان واسع وحقل فسيح يحتاج في كثير من الأحيان إلى الوقت والجهد والتفرغ بحيث لا يتسع معه المجال إلى أي عمل آخر. وحقًّا ما قاله السيد لتلاميذه «الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، فاطلبوا من رب الحصاد أن يرسل فعلة إلى حصاده». وطبعًا المقصود بالعمل ليس فقط خدمة الكلمة لكن هناك أنواع أخرى كثيرة تنظيمية وتدبيريه ورعوية... وهناك عمل فردى وعمل عائلي ومشاكل... أمور كثيرة تحتاج إلى الكثير من التفرغ. وقد تنبَّهت الكنائس التقليدية من حولنا إلى ذلك؛ فسعت إلى تفرغ المزيد والمزيد من الخدام والقيادات، وخصَّصت لهم مجالات مختلفة للخدمة بعضها لم يكن معروفا من قبل. هذا طبعًا بغضِّ النظر عن رأينا في ذلك أو في الطريقة التي يتم بها ذلك.
المهم في الموضوع هو:
- أولاً: وجود دعوة واضحة وحقيقية من الرب، وهذا يستلزم حسًّا وتمييزًا روحيًا رفيع المستوى.
- ثانيًا: مصادقة من الجماعة.
- ثالثًا: الاحتياج إلى الخدمة.
وإن هذه الدعوة لا تشمل فقط بعض المواهب الخاصة والمتميزة ـ كما ذكر المقال ـ فنحن مدينون بالكثير لأشخاص ربما ليست لهم هذه المواهب المتميزة جدًا؛ لكن عملهم وخدمتهم لا غنى عنها.
إن عمل الرب، كما كل عمل آخر، يحتاج إلى أشخاص عاديين، وأشخاص متميزين، وأشخاص موهوبين ومتفوقين ذوى إمكانيات غير عادية.
أما قضية التفرغ بعض الوقت أو لفترة محدودة من العمر فلا تحضرني بخصوصها نماذج واضحة من الكتاب المقدس أو من الواقع العملي. فالذين دعاهم المسيح ـ له المجد ـ للخدمة في حياته تركوا كل شيء وتبعوه بالإيمان، وما عادوا إلى أعمالهم الزمنية مرة أخري، إلا في الاستثناء المعروف في يوحنا 21، الذي نعتبره ردّة أو نكسة، ونَعِظ به كأحد جوانب الضعف في حياة بطرس والتلاميذ. وقد قال السيد صريحًا «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله»، فليست هناك في خدمة الرب عقود عمل مؤقتة أو موسمية!
نحن في أشد الاحتياج، الآن ومستقبلاً وفى كل وقت، إلى أشخاص يتفرغون تمامًا للخدمة (بالطريقة الصحيحة طبعًا) سواءً خدمة الكلمة أو نواحي الخدمة الأخرى، وسنظل نصلّى أن يرسل الله فعلة إلى الحصاد الكثير. وعلينا أن ندعم تمامًا، ونشجِّع بكافة الوسائل، أولئك الذين دعاهم الرب لترك أعمالهم الزمنية لخدمته. ونقول لهم، بكل الطرق، إن ما يفعلون وما خرجوا من أجله بالإيمان والاتكال على الرب لَهو أشرف الأمور وأنبل الغايات.
أما عن كون الرسول بولس لم يشأ أن يثقل على المؤمنين في كورنثوس أو تسالونيكى أو غيرهما، وكان يعمل بيديه لسداد احتياجاته واحتياجات الخدمة؛ فأظنّه أمرًا خاصًا به وبظروف خدمته ومجالتها. ولا أظنّها قاعدة للقياس دائمًا. لقد كان الرسول بولس يكرز بالإنجيل للوثنيين، وكان يعلِّم وسط أناس حديثي العهد بالمسيحية تمامًا. لم تكن المسحية مستقرة وراسخة، ولها قواعد مستقرة ومدعومة كما في أيامنا.
وأنت حين تكرز بالمسيح اليوم لغير المسيحيين، أو لحديثي عهد الإيمان، فمن غير المعقول طبعًا أن تقبل منهم، أو تنتظر، إسهامات مادية. أن هذا أمر يتعلق بظروف الخدمة ذاتها. ومع ذلك فالقاعدة العامة هي تلك التي قال عنها الرسول بولس «هكذا أيضًا أمر الرب: أن الذين ينادون بالإنجيل، من الإنجيل يعيشون»(1كو9: 14). وقد تقبَّل الرسول بسرور مشاركة إخوة فيلبي، وقَبِلَ منهم ما أرسلوه لحاجته مرة ومرتين «نسيم رائحة طيبة ذبيحة مقبولة». وما أظنه أبدًا قد استشعر في ذلك قيدًا على حرّيته، أو التزامًا بعينه نحو من خدموه ماليًا.
هذا، ولا يمكن أن يختلف أحد على أهمية الشهادة للرب وخدمته والأمانه له من خلال أعمالنا الزمنية التي رتبها لنا... لكن هذا موضوع آخر.
وأخيرًا اقبل محبَّتي وتقديري الكامل لشخصك ولكل ما تكتب.
المحب في المسيح
متى ناشد
تعليق المحرر
في البداية أود أن أعبر عن اعتزازي الشديد بالأخ الحبيب الدكتور متى، فهو أخي الأكبر الذي أحبه بالحق وأحترم فكره، وهو الذي بسبب محبته وخدمته للكل استراحت به أحشاء جميع إخوته. كما أنني أسعد عندما تثير مقالات المجلة فكر القراء، بل وتحرّك قلمًا موقَّرًا ليرسل لنا رأيه فيما نكتب؛ إذا أن هذا يفسح لنا المجال للمزيد من الطرح والتوضيح.
وسأقدِّم تعليقي على رسالة الأخ الحبيب في عدة نقاط:
1- تعبير ”العمل الزمني“
من جهة نقدي لتعبير ”العمل الزمني“، أقول: أنا لست مصرًّا على رفضه، لكنني فقط أنقده. ولكونه صياغة بشرية فهو ليس فوق مستوى النقد. وأنا أنقده ليس لمجرد النقد، لكن لخوفي من الأثر السلبي لكلمة ”زمني“ على مفهوم المؤمنين للعمل، إذ تجعلهم ينظرون للعمل نظرة دونية ويرونه يتعارض مع الروحانية الحقة. وأعتقد أنك توافقني على أن كلمة ”زمني“ لا تحمل لنا، كمؤمنين بصفة عامة، وكإخوة بصفة خاصة، معنىً إيجابيًا. فنحن، على سبيل المثال، عندما نسمع من على المنبر كلمة ”الأمور الزمنية“ نجدها تستنفر فينا شعورًا سلبيًا، هذا لأنها تعني عندنا كل ماهو وقتي وعالمي وزائل، وليس ما هو أبدي وروحي وباقٍ. وبالتالي مع شيوع استعمال كلمة ”زمني“ لوصف العمل، الذي رتَّبه الرب لكل مؤمن لتمجيد الله من خلاله، أخشى أن تزول عن العمل الأبعاد الروحية والأبدية التي أعطاها له الكتاب، عندما اعتبره إتمامًا لمشيئة الله في حياتنا (أف6: 6)، وعندما أوصى به أن يُعمل من القلب كما للرب وليس كما للناس (أف6: 7؛ كو3: 23).
هذا، وإن قلنا إن المقصود بكلمة ”زمني“ هو أننا نمارسه هنا في الزمان فقط، أقول: ونحن نمارس الكرازة والتعليم والرعاية هنا في الزمان فقط، فهل يصح أن نقول عن الكرازة والتعليم والرعاية أنها أعمال زمنية؟ بالطبع كلا.
كما إنني لا أضمن أن يستعمله الكل استعمالاً صحيحًا، كما تفعل حضرتك، ولا سيما في ظل غياب العقل النقدي القادر على استعمال تعبير معين استعمالاً صحيحًا، حتى ولو كان لغويا يحمل معنىً سلبيًا. كما أنني أحلم باليوم الذي فيه أرى كل المؤمنين يرون أن ما يسمونه ”عملهم الزمني“ هو عمل للرب وليس للناس كما علَّمنا الكتاب. وقد كان هذا غرض المقال.
وأخيرًا أقول: لقد أثار حديثك الممتع فضولي من جهة هذا التعبير لأعرف هل يستعمله المؤمنون من بقية الطوائف؟ وهل يستعمله الإخوة في الخارج؟ وكيف يُترجم هذا التعبير إلى أي لغة أخرى كالإنجليزية مثلاً؟
2- ”الاستثناءات غير القليلة“
أنا أتفق مع حضرتك على حاجتنا الماسة لخدّام حقيقين ينفقون أنفسهم في خدمة السيد، لكنني أستشعر خطرًا كبيرًا في الربط بين الخدمة والتفرغ. لأنه إن كان عمل الرب ميدان واسع وحقل فسيح وأن الفعلة قليلون، كما تفضلت بالقول، فنحن فعلاً نواجه مشكلة حقيقية، لكن بدلاً من أن نحلّها حلاً صحيحًا باستنهاض المؤمنين من كسلهم ليعمل كل واحد بحسب موهبته كوكلاء صالحين على نعمة الله المتنوعة، نلجأ للحل الأسهل بأن نكثر من الاستثناءات ونشجّع الكثيرين على التفرغ!! وهكذا نخطئ خطأين؛ أولاً: نساهم في تقنين وتعميق الكسل عند المؤمنين الذين لا يخدمون. وثانيًا: وهو الأخطر، أننا نعمِّق ونقنِّن فكرة أن الخدمة هي للمتفرغين، وهكذا نعود لتقسيم شعب الرب إلى فئة متفرغة تَخْدِم وفئة غير متفرغة تُخْدَم! وهذه هي الكارثة التي نتج عنها الإكليروس الذي يحنّ إليه القلب البشري دائمًا، سواء ليكون منه أو ليستمتع بخدماته.
3- الاستشهاد بالكنائس التقليدية
لقد استشهدت حضرتك بالكنائس التقليدية من حولنا في كيف أنها تنبهت إلي تنوع وكثرة مجالات الخدمة، وكيف أنها سعت إلى تفرغ المزيد والمزيد من الخدّام والقيادات، وكيف أنها خصّصت لهم مجالات مختلفة للخدمة. وهنا اسمح لي أن أقول: ويا تُرى، ماذا كانت نتيجة سعيهم إلى تفرغ المزيد والمزيد إلا المزيد والمزيد من.....؟ ثم إنني أرى أنه لا يمكننا القول ”بغضِّ النظر عن رأينا في ذلك أو في الطريقة التي يتم بها“. هذا لأنني لا أشك في أنك توافقني على أن هذا النظام بجملته خاطئ، وإذا بحثنا في الأسباب التي أدّت به إلى ما هو عليه، سنجد أن هذه الطريقة في إيجاد الخدام هي أول الأسباب؛ إذ أنها هي التي أوجدت الإكليروس بكل تبعاته المرعبة.
إنني أرى يا عزيزي أن رد الفعل الصحيح أمام تنوع وكثرة مجالات الخدمة ليس هو السعي للتفرغ، بل هو أن نقوم من كسلنا ونكفّ عن محبة العالم ونعود لطاعة أمر الكتاب لنا «لِيَكُنْ كُلُّ وَاحِدٍ بِحَسَبِ مَا أَخَذَ مَوْهِبَةً، يَخْدِمُ بِهَا بَعْضُكُمْ بَعْضًا، كَوُكَلاَءَ صَالِحِينَ عَلَى نِعْمَةِ اللهِ الْمُتَنَوِّعَةِ.َ..» (1بط4: 10). ومن الواضح جدًا أنه عندما يقول ”كل واحد“ لا يقصد المتفرغين فقط، بل كل المؤمنين. هذا هو الوضع الصحيح لكنيسة الله والذي بدونه لن تنجح الكنيسة ولو كان نصفها متفرغين.
4- المواهب المتميزة والتفرغ
أعذرني إن كنت غير واضح فيما أقصده بالتميُّز، إنني لا أقصد به أبدًا ”التفوق“ لكن ”الاختلاف“، فهو تميُّز في نوع الموهبة وليس في حجمها. لذلك لم أقُل في مقالي ”المواهب المتميزة جدًا“، بل قلت فقط ”متميزة“. فقد تكون هناك موهبة تبشيرية بسيطة للغاية في حجمها، لكنها تحتم على صاحبها التفرغ إذا دعاه الرب كمرسل عليه أن يذهب لبلد بعيد، بينما قد تكون هناك موهبة تعليمية كبيرة لا تحتاج للتفرغ لأن الرب يقصد لها خدمة محلية. لذا أرى أن التفرغ يرتبط بنوع الخدمة وليس بحجم الموهبة.
5- التفرغ بعض الوقت أو لفترة محدودة من العمر
تقول حضرتك: ”أما قضية التفرغ بعض الوقت أو لفترة محدودة من العمر فلا تحضرني بخصوصها نماذج واضحة من الكتاب المقدس أو من الواقع العملي“.
أعتقد أن نحميا نموذج جيد في الكتاب لرجل قد تفرغ من عمله الزمني لفترة محدودة، لم تكن قصيرة بل كانت اثنتي عشرة سنة، ثم عاد بعد هذا إلى عمله مرة أخرى.
كما أن بولس الذي كان يخدم بعض الوقت ويعمل بعض الوقت لسد حاجاته الضرورية هو نموذج واضح لمن لم يتفرغ بالكامل للخدمة، وهو ليس فقط عمل هذا بل وعلّم به في تيطس 3: 14 عندما قال: «وَلْيَتَعَلَّمْ مَنْ لَنَا أَيْضًا أَنْ يُمَارِسُوا أَعْمَالاً حَسَنَةً لِلْحَاجَاتِ الضَّرُورِيَّةِ، حَتَّى لاَ يَكُونُوا بِلاَ ثَمَرٍ». وأعتقد أنه هنا يتكلم عن الخدام العاملين معه ومع تيطس، وليس عن كل المؤمنين لأنه كان قد سبق في ع8 وقال نفس الشيء عن المؤمنين عامة.
أما من جهة الواقع العملي فنحن نعرف كثيرين من خدام الرب الذين رحلوا، ومن الحاليين الذين يخدمون الرب بكل اجتهاد، وهم يعملون بعض الوقت. كما أن هناك نماذج رائعة لمرسلين يذهبون سنة أو سنتين للخدمة في أماكن صعبة للغاية ثم يعودون لأعمالهم.
6- ”وضع اليد على المحراث“
حضرتك رفضت فكرة التفرغ بعض الوقت، أو لفترة محدودة، بناء على هذه الأية: «ليس أحد يضع يده على المحراث وينظر إلى الوراء يصلح لملكوت الله». بالطبع هذه العبارة تصلح كسند إن افترضنا أن هذا الذي تفرغ بعض الوقت قد ارتد عن طاعته للرب وأحب العالم الحاضر كديماس. لكن هذا لم يكن موضوع حديثنا على الإطلاق، ولا كان سياق الكلام. إننا على العكس نتكلم عن حالة متميِّزة من الشركة، تمكِّن المؤمن من معرفة فكر الرب: ماذا يريد منه أن يفعل في كل مرحلة من مراحل حياته، واستعداد أقوى للطاعة يجعله مَرِنًا في يد سيده.
وما أخشاه هنا هو فهم أن وضع اليد على المحراث هو ”التفرغ للخدمة“! وبالتالي فإن الواضعين أياديهم على المحراث هم فقط المتفرّغون للخدمة، أما باقي المؤمنين فليس لهم نصيب في طاعة هذه الآية. وهذا في اعتقادي غير صحيح؛ إذا أن وضع اليد على المحراث، على قدر فهمي، هو تبعية المسيح وليس التفرغ.
7- العقود المؤقتة والموسمية
ذكرت حضرتك، بصدد مسألة التفرغ بعض الوقت أو لفترة محدودة، أنه ”ليس في خدمة الرب عقود عمل مؤقتة أو موسمية“. وهنا أتساءل: هل هذا يعني أن المتفرغين كل الوقت وكل العمر يعملون عند الرب بعقود عمل دائمة؟ لا أعتقد يا عزيزي أن المسالة مسألة عقود من الأصل؛ لكنها مسألة حب وتكريس وطاعة عميقة للرب، تجعل الخادم قابعًا عند قدمي سيده ينتظر الإشارة بالتحرك حيثما يشاء السيد، وقد يأمره السيد أن يذهب أو أن يأتي أو أن يخدم الرب في هذا المجال لفترة ثم يخدمه لفترة أخرى في مجال آخر حسبما يوجِّهه سيده. وفي النهاية أقول: أعتقد أننا لا نستسيغ هذا الفكر لا لأنه غير كتابي، لكن لأننا نستريح أكثر للمألوف والمعتاد بيننا.
8- سلوك الرسول بولس
ذكرت حضرتك أن ما عمله الرسول بولس هو أمر خاص به وبظروف خدمته ولا يصلح قاعدة للقياس. وهنا أقول إننا إن سلَِّمنا جدلاً بأن سلوك الرسول بولس من جهة ”الخدمة والعمل معًا“ ليس قاعدة للقياس، فهو على الأقل لا بد أن يكون نبراسًا للإرشاد، يرشدنا كيف نتصرف عندما يكون هناك ما يستدعي هذا. وليس بالضرورة أن يكون ما يستدعي هذا، أي الخدمة والعمل معا، هو نفس السبب الذي استدعى هذا في حالته هو، ألا وهي مسألة الكرازة للوثنيين أو تعليم المؤمنين حديثي العهد كما ذكرت حضرتك، لكن من الممكن أن يكون سبب أو أسباب أخرى تفرضها معطيات آخرى مرتبطة بالزمن الذي نعيش فيه. هذا مع تحفظي على السبب الذي ذكرته حضرتك، إذ أنني أرى أنه سلك بهذه الطريقة في كورنثوس ليس فقط أثناء التبشير لهم كوثنيين بل أيضًا بعد ما ربحهم وصاروا كنيسة استغنت في كل موهبة وفي كل علم. لكنه سلك هكذا بينهم ربما لاعتبارات حالتهم الروحية والأدبية. كما أنه علَّم بضرورة الخدمة والعمل معًا للخدّام العاملين في كنائس كريت أيضًا لاعتبارات أخرى أدبية وروحية.
كما أن قبوله للخدمة المادية من إخوة فيلبي يلقي المزيد من النور على كيفية التعضيد المادي للخادم. فهؤلاء الإخوة الناضجين - على العكس من مؤمني كورنثوس - كانوا يعضدون خادمًا وليسوا يكافئون خدمة، بمعنى أنهم كانوا يدعمون رجلاً وثقوا أنه مُرسَل من الله لخدمة الإنجيل، يذهب إلى حيثما يرسله سيده وكيفما شاء له أن يستخدمه، ولم يكونوا يكافئونه على خدمة قدَّمها لهم، لذلك أرسلوا للرسول لحاجته وهو يخدم غيرهم، إذ يقول الرسول لهم: «فَإِنَّكُمْ فِي تَسَالُونِيكِي أَيْضًا أَرْسَلْتُمْ إِلَيَّ مَرَّةً وَمَرَّتَيْنِ لِحَاجَتِي» (في4: 16). بالتالي لم يكن الرسول معرَّضا للشعور بالالتزام أن يؤدي خدمة معينة لهم في مقابل تعضيدهم له.
هذا بدوره يطرح علينا هذا السؤال: هل يوجد في الحالة الروحية والأدبية السائدة اليوم في بلادنا ما يستدعي العمل مع الخدمة وحصر التفرغ في أضيق الحدود؟ إجابتي، للأسف، هي: نعم.
أخيرًا:
أقول بصدق أن تعليقك يحمل الكثير من المحبة والتقدير لخدام الرب المتفرغين، أشكرك عليه شكرًا جزيلاً، وهو بلا شك تشجيع كبير لكل من دعاه الرب دعوة حقيقية للتفرغ للخدمة. كما أن تعليقك يلفت الانتباه بشدة لعمق الاحتياج للخدمة الروحية بيننا، والعجز الشديد في مَن يخدمون. ولذا أصلي بكل قلبي أن يستخدمه الرب لينبهنا جميعًا لكي نقوم من كسلنا، ونكفّ عن خدمة أنفسنا، ولنبدأ في خدمة سيّدنا. إذ قريبًا سنقف أمامه ليحاسبنا على وزناتنا هذا الذي أمرنا قائلاً ”تاجروا حتى آتي“.
ولك مني خالص شكري ومحبتي وتقديري.
المحب في المسيح
ماهر صموئيل