عدد رقم 1 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الأيادي القبيحة والأيادي الجميلة  

ما أقبحها أيادي تلك التي سلَّمت للصلب!
وما أجملها أيادي تلك التي كرَّمت بالحب!
ما أجمل يديك يا أختي الفاضلة مريم، وهي تشرف بدهن رأس سيدنا، بل وقدميه، بالناردين!  مَنًا من الناردين الخالص على رأسه وقدميه قبل موته!  كم أنت جميلة يا مريم وعظيمة وأنت لا تشعرين بالجمع من حولك، ما أروعك والوجود كله على اتساعه قد اختُزل عندك فيه!! 
كم أنت رائعة وأنت تعملين هذا العمل الدافق بالمشاعر والولاء، تعملينه لا في خلوة، بل في جراة أمام الجميع!  كم أنت صلبة في رقَّتِك، وجبارة بأس في وداعتك، إذ لم تعبأي بلوم اللائمين ولا بتوبيخ الموبّخين!  يبدو أن حب السيد قد سباك؛ فجعلك لا ترين غير جماله، ولا تسمعين غير صوته، ولا تشعرين سوى بمحضره.
وما أروع أياديكم يا أخويَّ العزيزين، يوسف ونيقوديموس، وهي تشرف بتكفين جسد السيد وقد أثخنته الجراح.  ما أجمل يديك يا يوسف وأنت آتٍ بالكتان النقي وفي قلبك أن تهب لحبيبك قبرك الجديد!  القبر الذي نحتَّه لنفسك في الصخرة، وهل كنت تدري وأنت تنحته أنه سيتشرف بالجسد الكريم الذي فيه حل كل الملء؟!  وما أبهى جسارتك وأنت تدخل للوالي في أشرف مهمة دخل بسببها إنسان لقصر حاكم، إذ دخلت تطلب جسد يسوع

هل حبّ الحبيب والرغبة في إكرامه ملأت قلبك بالجرأة لتكشف عن هويتك بعدما أخفيتها طويلاً؟!  وهل أخرجت كل ثروتك لإكرامه؟!  وهل شدَّدت ذراعيك الواهنتين بالقوة لتحمل كل هذا الحمل الكبير؟


وما أحلاك يا نيقوديموس وأنت آتٍ هذه المرة، لا ليلاً، بل قبل سقوط الليل ومجيء العتمة، قبل أن تضيع فرصة الإكرام.  آتٍ تفوح منك رائحة بديعة نفَّاذة تملأ الدنيا حولك بعبيرها، هي رائحة ما حملت لإكرام حبيبك وحبيبي، جئت حاملاً مزيج مُرٍّ وعود نحو مئة مَنًا!  من أين هذه الجرأة؟! وكم تكلفت لتشتري مئة مَنًا من المُرّ والعود؟!  وكيف حملت كل هذا الحمل وأنت شيخ؟! هل حبّ الحبيب والرغبة في إكرامه ملأت قلبك بالجرأة لتكشف عن هويتك بعدما أخفيتها طويلاً؟!  وهل أخرجت كل ثروتك لإكرامه؟!  وهل شدَّدت ذراعيك الواهنتين بالقوة لتحمل كل هذا الحمل الكبير؟!
أخواي الحبيبين:
ألا أخبرتماني بشيء مما اعتمل في نفسيكما وأنتما تُنزلان الجسد الكريم؟
ألا أخبرتماني بأي حنو وإجلال وتقديس أمسكتما بالجسد القدوس؟
أخبراني هل كفَّنتموه راكعين أم واقفين!
أخبراني شيئًا عن دموعكما وهي تهطل في صمت مهيب تغسل جراح حبيبي!
أخبراني أين قبَّلتموه، هل فقط في مكان الجراح أم في كل مكان؟!
بماذا شعرتما، وأية قشعريرة ملأت جسديكما، وأنتما تفكران في أنكما تلمسان جسدًا هو الفريد والوحيد في كل تاريخ البشر؟  جسد ليس من زرع بشر ولم تسكنه الخطية!  جسد هيأه الله قبل مولده في بطن عذراء!  وفيه حل  كل ملء اللاهوت؟!  جسد جاءت عنه النبوات كيف يتكوَّن قبل مولده وكيف لا يفسد بعد موته!
أخبراني أي حبٍّ اندفق، وأي دمع انهمر، عندما امسكتما بالجسد الساخن الخارج لتوه من نار التنورالإلهي، وأنتما تتأملان كيف كانت على هذا الجسد الكريم منذ لحظات جميع خطاياكم؟
أخبراني كيف نشرتما الأطياب على جسد حبيبي؟  ماذا فعلتما بمكان الأشواك عندما لففتما الرأس بالمنديل؟  وكيف تعاملتما مع الثقوب في اليدين والرجلين؟  هل تركتموهم مفتوحين أم ملأتموهم بالمرّ والعود؟
حدثاني كثيرًا عن ما جال بخاطريكما من أفكار، وما فاض في قلبيكما من مشاعر، عندما اقتربتما من جنبه الطعين، عندما رأيتما الباب مفتوحًا أمامكما لتلقيا نظرة على قلبه؟  يا لها من لحظة لم تُتَح لغيركما!  هل قاومتما الرغبة في أن يمدّ أحدكما أو كلاكما يده لكي يتحسس بأنامله القلب الذي ذاب من الحب وهو على الأرض، وذاب تحت غضب الله وهو بين السماء والأرض؟
وماذا فعلتما بمكان الطعنة الغائر، هل ملأتموه بالكفن أم بالأطياب؟
آه يا أخواي العزيزين.. لقد وصلتما لقمّة الوجود قبل أن تنتهي حياتكما على الأرض!
فأخبراني كيف استطعتما الاستمرار على الأرض لحظة بعدما عشتما هذه اللحظات؟
أحبائي القراء:
لم تكن كل الأيادي التي لمست سيدي أيادي جميلة، فهناك الأيادي الجميلة التي خدمت وأكرمت، وهناك الأيادي القبيحة التي سلمت وصلبت!  وبين الجمال والقبح علينا أن نختار، هل سنخدمه أم سنسلمه؟
احتملوني إذ وجدت نفسي ملزمًا أن أتوقف معكم أيضًا أمام قبح أيادي من قتلوه.
آه من قبح أيادي تشمئز من بشاعتها حتى الخنازير بعد ما دخلتها الأرواح النجسة! 
آه من قبح يديك يا يهوذا وهي تقبض الثمن، الثمن الكريم!  ثمن غدرك بصديقك الذي أحبك!
أعلم أنك نفضت عن يديك المال الذي قبضته، وطرحته في الهيكل كمن ينفض أفعى التفت على يديه ويطرحها أرضًا، لكن هل ظننت أيها التعس أن نفضك المال عنك وطرحه أرضًا سيُذهب عنك جرمك الأبدي؟
إنني أخالك إلى الآن وأنت في الهاوية لم تزل تحملق في يديك التي استلمت ثمن التسليم.  أخالك تقفز لأعلى، وتهوي لأسفل، وأنت تزعق زعقة البائسين، محاولاً أن تنفض عن يديك وتطرح بعيدًا عنك كل أفاعي الهاوية التي تلتف الآن حول يديك، لكنك لا تستطيع ولن تستطيع.
وآه من قُذر يديك يا بيلاطس وهي تسلم البار وأنت تعرف أنه بريء! تسلم البار الكبير للجلادين ليجلدوه ويصلبوه لمجرد إرضاء الناس؟! وهل ظننت أيها التعس أن قليلاً من الماء سينجح في أن يغسل عنها قذرها؟  أخالك إلى الآن لم تزل تحملق فيهما بجنون، وأنت ترى كيف تزيدهما سنون الهاوية بشاعةً وقُبحًا وقذرًا! 
سيدي الحبيب..
كم تدنَّست أيادينا بفعل الشر قبل أن تشترينا؟!
واليوم بعد أن اشتريتنا، وبغسل دمك طهرتنا، بعد أن أزلت عنا قُبحنا وبجمالك جمَّلتنا، ألا تكرِّس أيادينا لخدمتك؟!
سيدي..
لقد لمست يومًا فم عبدك فقدَّسته لك، ألا تلمس اليوم أيادينا لكي تطهِّرها من كل عمل لسواك، وتجمِّلها لكي لا تخدم إلاك؟
ألا تملأ قلوبنا بالحب لك؛ فنغتنم فرصة الإكرام قبل ضياعها؟
ألا تملأ عيوننا بجمالك؛ فلا تعود ترى سواك؟
ألا تملأ آذاننا بعذب حديث الآب عنك؛ فلا تعود تنزعج بلومة لائم أو بتأنيب حاسد؟
ألا تملأ نفوسنا بجسارة الحب لك؛ فنخرج من دوائر راحتنا لنتبعك إلى الحقول، ولنَبِت معك في المجهول، ولنبكِّر بصحبتك إلى الكروم، لننظر معك هل أزهر الكرم هل تفتح القعال هل نور الرمان؟ 
وهنالك.. نعم هنالك، نعطيك حبنا.
سيدنا الكريم..
كم نشتاق لاختزال الوجود فيك، ولجسارة دخول القصور من أجلك، بل ولسكب الحياة لا الكلام عند قدمك.
سيدنا الكريم..
ألا تملأ قلوبنا بالرعب من جرم خيانتك، ومن إثم إرضاء الناس على حسابك؟
ليتك يا سيدي تستجيب.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com