عدد رقم 1 لسنة 2008
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
محبة المال  

المال... يُعطيه الله للإنسان لبركته وخيره، ولكن كثيرًا ما يجعل منه البشر صنمًا يتعبدون في محرابه (مت6: 24).
والمال هو أكثر المقتنيات التي لا تُشبع صاحبها؛ إنه يستطيع أن يشتري أي شيء ما عدا السعادة وراحة الضمير.  إنه، ولا شك، يرفع عن الكاهل بعض الهموم، ويحلّ بعض المشكلات، ولكنه يجلب معه همومًا أخرى موازية للتي رفعها؛ فالتعب يُرافق عملية الحصول عليه، والقلق يُلازم محاولة الحفاظ عليه، كما أن استخدامه لا يخلو من تجارب، وسوء استعماله يقود إلى الشعور بالذنب، وفي خسارته حزن وأسى، وكيفية إنفاقه واستثماره تصحبها الحيرة.  ومحبته أصلٌ لكل الشُّرُورِ (1تي6: 10)، فهي تفجِّر الطمع، والحسد، والأنانية، والتنافس البغيض، والنزاعات والخلافات.  والناس في سعيهم المحموم وراء المال يُهملون الأمور الروحية، ويُصبح خلاصهم وإيمانهم أمورًا يُشكُّ فيها.
وعندما نقرأ كلمات ”ربي وإلهي“، نلاحظ أن مقدار ما تحدَّث به عن الطمع ومحبة المال، يفوق ما تحدث به عن أي من الشرور أو الخطايا الأدبية الأخرى، بالرغم من أنه - تبارك اسمه - كان يتكلم، في أغلب الأحيان، إلى أشخاص من الفقراء.
ففي مَثَل وكيل الظلم (لو16: 1-13)، نسمع مَن له الفهم والمشورة والحكمة، يتكلم لتلاميذه، ويصف المال بخمس صفات:
(1) مال الظلم (أو المال الظالم)، بالمباينة مع الحقّ أو الغنى الحقيقي (ع9, 11).  فالمال قيمته غير أكيدة ووقتية، بينما للحقائق الروحية قيمة ثابتة وأبدية.
ومال الظلم هو المال في العالم على وجه الإطلاق، وتَسمّى هكذا للأُسس الظالمة التي يتداوله الناس بها، في عالم موضوع في الشرير.  ولأنه يُستخدم، على نحوٍ مميّز، لأغراض لا تتفق مع مجد الله.  ولأن محبة المال تعمي عيوننا حتى لا تقدر أن تميز الحقّ المُعلَن لنا في كلمة الله، بل تقسّي قلوبنا، فلا نريد الحق حتى ولو ميَّزناه.
(2) القليل بالمقابلة مع الكثير، والذي هو البركات الروحية السماوية الأبدية (ع10).  فالمال لا يُشبِع القلب، ومهما كثر لا تقرُّ به العين، بل تريد المزيد (جا5: 10).
(3) ما هو للغير أو ما هو مِلك لآخر (ع12)؛ وهذا أولاً لأنه مِلك الرب الذي اشترانا، ثم وضع المال كأمانة بين أيدينا لنتصرف فيه بما يُمجد اسمه الكريم المعبود.  وثانيًا لأننا سنتركه هنا «لأننا لم ندخل العالم بشيءٍ، وواضح أننا لا نقدر أن نخرج منه بشيءٍ» (1تي6: 7).
أما ”ما هو لنا“ (ع12) فيُشير إلى البركات الروحية التي نلناها في المسيح.
والذي لا يفهم صفة المال كما هو في موازين الرب أنه مال الظلم، والقليل، وما هو للغير، لا تبقى له إلا صفتان مرعبتان للمال:
(4) سَيِّد (ع13) ... أي أنه يتحكم في حياة الإنسان، ويكون أساسًا لكل مجرى حياته.
(5) إله (ع13) ... أي أن القلب يرتبط به كمعبود.

ما عاد المال خادمًا يخدمنا، بل أصبح بالنسبة للكثيرين سَيِّدًا يُخدَم، وإلهًا يُعبَد!  وإنها لمأساة حقيقية أن ما أعطاه الله في البداية للإنسان لبركته وخيره، سرعان ما جعل البشر منه صنمًا يتعبدون في محرابه!!

وفي متى6: 24 يُحذرنا الرب قائلاً: «لا يقدرُ أحدٌ أن يخدم سَيِّدَينِ، لأنه إما أن يُبغض الواحد ويُحبَّ الآخرَ، أو يُلازم الواحد ويحتقر الآخَرَ.  لا تقدرُون أن تخدموا الله والمال».  ويا للأسف أن ما عاد المال خادمًا يخدمنا، بل أصبح بالنسبة للكثيرين سَيِّدًا يُخدَم، وإلهًا يُعبَد! فمحبة المال تقود إلى العبودية للمال.  وإنها لمأساة حقيقية أن ما أعطاه الله في البداية للإنسان لبركته وخيره، سرعان ما جعل البشر منه صنمًا يتعبدون في محرابه!!
ونحن لا نقدر أن نخدم هذين السَيِّدين معًا؛ الله والمال، لأن كلا من هذين السَيِّدين يطلب منا سلوكًا، ليس فقط يختلف عما يطلبه السيد الآخر، بل يتعارض معه تمامًا.
*   *   *
وفي مَثَل الغني الغبي، الذي انتهت مخطَّطاته وآماله عند حدود القبر، قدَّم الرب تحذيراته من الطمع والرغبة في الامتلاك (لو12: 13-21).  فالمال والمقتنيات لا يشكلان أهم ما في الحياة، ولا يمكن أن يكونا مصدرًا لسعادة والراحة.
*   *   *
وفي متى6: 19-21 يُحذرنا الرب من أن نكنز لنا كنوزًا على الأرض.  والكنوز هي الثروة المكدَّسة والزائدة عن الحاجة.  والأموال إذا زادت قد تتحول إلى صنم يستهوي القلب فيتعلق به (مز62: 10).  والخطأ الذي يُحذرنا الرب منه هو أن تُصبح الكنوز الأرضية هدفًا لا وسيلة لهدف أسمى، وتُصبح سَيِّدًا لا خادمًا.  ولذلك فليس غريبًا أن يتحدث المسيح بعد ذلك عن ذلك السَيِّد وخدمته (ع24). تُرى من هو سَيِّدنا؟!  هل هو الله أم هي الأموال والممتلكات؟
وقد علّق الرب على ذلك بالقول: «لأنه حيث يكون كنزُكَ هناك يكون قلبُكَ أيضًا» (ع21).  فالقلب يتبع الكنز.  فهل المسيح هو كنزنا الذي في السماء، أم أن المال هو كنزنا الذي يتعلق به القلب؟!
*   *   *
ومما يُرعبنا - أيها الأحباء - أنه كان من ضمن تلاميذ الرب، الذين رافقوه مدة أيام خدمته الجهارية، والذين سمعوا كلامه، ورأوا طرقه، واختبروا محبته ورقته؛ الذين رأوا وسمعوا مَنْ اشتهت الأنبياء والأبرار أن يروه وأن يسمعوه، كان من ضمن هؤلاء «يهوذا الإسخريوطيّ»، الذي ارتبط اسمه بدلالة ومعنى محبة المال والطمع والرياء والخيانة والغدر.  ويا لها من حالة! ويا لها من صورة! ويا له من تحذير!
♦ فبالرغم من أن الرب قد جعل يهوذا الإسخريوطيّ موضع تقدير خاص، إذ اختاره أمينًا للصندوق، إلا أنه تجاهل تحذيرات الرب يسوع عن الطمع والرياء ومحبة المال، واستغل الأموال لحسابه.  ولتغطيه جشعه، فقد تظاهر بالغيرة على الصندوق (يو12: 4-6).  ولعل التعليم الذي قدّمه الرب عن محبة المال، كان مُهدى بصورة مباشرة إلى «يهوذا الإسخريوطيّ».  ولكن بدلاً من أن تساعده تحذيرات الرب على التغلب على محبة المال والطمع والأنانية، فقد أشعل المنصب الذي وُضع فيه أنانيته وطمعه، فصار سارقًا، يبتز ما في الصندوق، الذي عُهد به إليه (يو12: 6؛ 13: 29).  واستطاع يهوذا أن يُخفي حقيقة شخصه عن بقية التلاميذ.  فيا للرياء!!
♦ وبالإضافة إلى أن يهوذا تمتَّع بتقدير الرب يسوع، إذ اختاره أمينًا للصندوق، فإنه أيضًا تمتع - مثل باقي التلاميذ - بسلطان عظيم، وانتعش برسالة الملكوت التي أوصاه الرب أن يكرز بها، واختبر خضوع الشياطين فاستطاع أن يُخرجها بسلطان عظيم، وشفى كثيرين بموهبة الشفاء التي أُعطيت له، طهّر بُرصًا وأقام موتى (مت10: 1-8؛ مر3: 14, 15؛ 6: 7-13؛ لو9: 1-6).  وبالرغم من كل هذه الأمور العظيمة، لم يقتنع الإسخريوطيّ بالتراجع عن العمل الذي كان مزمعًا أن يأتيه، فذهب إلى رؤساء الكهنة وقال: «ماذا تريدون أن تُعطوني وأنا أُسلمه (المسيح) إليكم؟» (مت26: 14, 15).  كان قلبه هناك حيث كان كنزه، وكان كنزه هو المال.  كان قلبه على الفِضَّة، ولم يكن له قلب للمسيح.

وهكذا بسبب محبته للمال كان يعمل عمل الرب بدون أن يدرِّب ضميره في محضر الرب، وبدون أن يسلك في تقوى عمليّة تُبرهن أنه محكوم برئاسة الرب الفعلية.

وهكذا بسبب محبته للمال كان يهوذا الإسخريوطيّ يعمل عمل الرب بدون أن يدرِّب ضميره في محضر الرب، وبدون أن يسلك في تقوى عمليّة تُبرهن أنه محكوم برئاسة الرب الفعلية.  كان قلبه فارغًا تجاه المسيح، ولو أنه كانت له خدمة، وكان له سلطان ومواهب مارسها أمام الجميع.  ويا للحزن أن يمتلك الإنسان موهبة دون العيشة لله، وأن تُمارس الموهبة من آنية غير مُطهرة، وبدون تدريب العواطف وتمرين الإحساس وإخضاع القلب لله.  ويا لها من صورة مرعبة!!
♦ ولكن ماذا عن المعرفة التي تعلَّمها يهوذا الإسخريوطيّ مِن الرب يسوع المسيح؟  وماذا أيضًا عن معرفته «بالموضع» الذي كان يجتمع فيه المسيح كثيرًا مع تلاميذه؟ (يو18: 2).
إن المعرفة العقلية للأمور المقدّسة بدون وجود تأثير في القلب، تجعل صاحبها أكثر تحجرًا ودنسًا وخداعًا.  وهكذا في حالة يهوذا الإسخريوطي، ذي القلب المتحجر والمُحبّ للمال، كانت له معرفة بدون أن تكون لديه أيّة عاطفة أو محبة للمسيح.  ونفس معرفته وقربه للرب يسوع المسيح، جعلاه آلة مناسبة في يد الشيطان.  ومعرفته العقلية، بدون وجود المحبة الحقيقية في القلب، مكَّنته من أن يكون خائنًا.  وعرف الشيطان أن ثلاثين من الفِضَّة تستطيع أن تشتري خدمة الإسخريوطي في ذلك العمل الشنيع؛ تسليم السَيِّد.
♦ وفي عشاء الفصح الأخير في العلية، استكمل الرب يسوع كل معاملات النعمة والمحبة مع يهوذا الإسخريوطيّ.  فقد ركع «السَّيِّد والمُعلِّم» على ركبتيه وغسل أرجل التلاميذ، وغسل أيضًا رجلي يهوذا (يو13: 1-11)!!  ويا له من منظر يُثير الدهشة!!  يا يهوذا؛ كيف بعد هذا استطعت أن تخون المجيد الفريد الذي «إذ كان قد أحبَّ خاصته الذين في العالم، أحبهم إلى المنتهى»؟ّ! ... إنها محبة المال البغيضة.
ثم وجَّه الرب إليه تحذيرًا، وفي هذا التحذير أشار الرب إلى جريمة مُشابهة أخذت مكانها على مسرح أحداث العهد القديم؛ جريمة الخائن القديم أخيتوفل، الذي خان سَيِّده الملك داود؛ مسيح الرب، الأمر الذي أدى به في النهاية إلى الانتحار (يو13: 18؛ مز41: 9) ... فحذار يا يهوذا .. حذار .. إن الطريق الذي تسير فيه خطر!  ولكن محبة المال أعمته عن رؤية الخطر.  ويا للعناد!!
وكان آخر مظهر من مظاهر المحبة الإلهية ومعاملات النعمة، أن الرب أجلس يهوذا بجواره، وغمس لقمة في الصحفة المشتركة، وأعطاها ليهوذا علامة على المحبة الخاصة والتقدير (يو13: 25, 26).
ولم يُعطِه الرب اللقمة، رمز المحبة، كعلامة ليوحنا ولبطرس فقط، ولكنه رغب في أن يؤكد ليهوذا أنه بالرغم من معرفته الكاملة، إلا أن قلبه ما يزال مملوءًا بالحب له.
ويا للقساوة!!  ظل الخائن في عناده وإصراره، ولم يتجاوب مع محبة المُخلِّص، ولم يواجه نفسه بصراحة، ولم يدرك الخطية التي سقط فيها، ولم يطلب غفران الرب ورضاه، وطالت مقاومته حتى انتهى به الأمر إلى حالة من العصيان والقساوة، جعلته يُسلِّم نفسه بكبرياء وغرور للشيطان «فبعد اللقمة دخله الشيطان» (يو13: 27)، وخرج من حضرة الرب يسوع ليرتكب أبشع جريمة في التاريخ.
قارئي العزيز: تأمل في هذا!  هنا رسول وتلميذ للرب، كارز بالإنجيل، تحت رداء الادعاء والخدمة كان له قلب يفيض بمحبة المال وشهوة امتلاكه، فخلت حياته من الطاعة، وخلا قلبه من المحبة والخضوع والامتثال للمسيح.  فحذار يا صديقي من محبة المال، ومن الادعاء الأجوف، ومن المعرفة العقلية، ومن الاعتراف الظاهري، ومن التقوى المصطنعة، ومن التدين الآلي، احذر من هذه كلها، وهيا معي نضع أنفسنا تحت حماية النعمة الإلهية والمحبة الفدائية، ولنفحص قلوبنا ونختبرها في محضر الرب، لنرى هل نحن نُحبُّ الرب فعلاً، لأنه «إن أعطى الإنسان كل ثروة بيته بدل المحبة، تُحتقرُ احتقارًا» (نش8: 7).

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com