إن التفكير عمل شاق، وإعمَال العقل يضع الإنسان في موضع المسؤولية ليكون مسؤولاً عن قرارته، والمسؤولية أيضًا عملٌ مضنٍ ومكلِّف. فالإنسان، في عالم تسوده المشاكل والضيقات والآلام، يتطلع دائمًا لأن يلقي بالمسؤولية علي شخص آخر يحملها بدلاً منه. ومن الناحية الأخري، هناك أناس يتطلعون للسيطرة علي الآخرين، هؤلاء كل متعتهم في الحياة هي في أن يجدوا لهم تابعين، يهللون لهم ويهتفون، وينفذون أوامرهم، ويطيعون توجيهاتهم.
إذن هناك أناس يتطلعون لأن يجدوا قادة يفكرون بدلاً منهم، ويأخذون لهم القرارات، ويقودونهم في رحلة الحياة؛ لأن هذا أمر مريح. ومن الناحية الأخري هناك أناس آخرون يتطلعون لأن يتسلطوا علي الناس. وهكذا يحدث هذا التزاوج المريض بين إنسان العقل المغيَّب وإنسان السلطة المريض.
تجربة ملجرام
قام عالم أمريكي إسمه ”ستانلي ملجرام“ بعمل تجربة شهيرة، عُرفت باسم ”تجربة ملجرام“، لكي يقيس بواسطتها مدي انصياع البشر لسلطة ما، تبدو موثوق فيها، لتنفيذ أشياء تتعارض تمامًا مع الضمير والعقل. ويقول العالم عن نتيجة التجربة ”تفوز السلطة في هذا التحدي بشكل لا يمكن تصوره“.
أحضر هذا العالم مجموعة مختلفة من الرجال المتطوعين بدعوي إجراء تجربة لقياس ”تأثير العقاب علي العملية التعليمية“ في إحدي الجامعات المشهورة الموثوق بها في أمريكا. وكان كل المتطوعون لا يعلمون أن الأمر كله خدعة لقياس أمر آخر وهو ”مدي انصياع البشر لسلطة موثوق فيها لتنفيذ أمور تتعارض مع العقل والضمير“. وأحضر ملجرام ممثلين يساعدونه في إجراء التجربة، وحبكها بشدة لخداع المشاركين المتطوعين.
وتقتضي التجربة بأن يقوم أحد المتطوعين بدور المدرس بينما يقوم ممثل بدور الطالب، ويقوم مشرف من الجامعة بالإشراف علي التجربة. يوضع الممثل القائم بدور الطالب في غرفة منفردًا، ويوجِّه له المتطوع القائم بدورالمدرس أسئلة، وإذا أخطأ في الإجابة يضغط المدرس علي زر معين لكي يعاقبه عن طريق توجيه صعقة كهربية له، تزداد تدريجيًا مع كل خطإ بدءًا من 30 فولت وحتي 450 فولت.
لم يكن هناك صعق فعلي، بل كان هناك تسجيل لأصوات صعق كهربي، وأخري متزامنه لها بصوت الممثل وهو يصرخ من الصعق ويترجي المدرس (المتطوع) أن لا يصعقه مرة أخري، ويشرح له أن قلبه ضعيف وأنه من الممكن أن يموت بسبب الكهرباء، وأنه لن يستطيع تحمل صعقة أخري وأن الأمر مؤلم جدًا. وفي بعض الأحيان كان يقرع علي الحائط الذي بين الغرفتين مترجيًا إنهاء التجربة.
في هذه الأثناء يقوم المشرف (السلطة)، الذي يمثِّل الجامعة، وهو ممثل آخر، بتوجيه (المدرس) إلي عدم الالتفات لصرخات الطالب وإكمال الإختبار للنهاية، مؤكِّدًا له أنه ليس هناك أدني مسؤولية تقع عليه، وأن الجامعة هي التي تتحمل المسؤولية كاملة، وأنه لا يمكنه التوقف عن الاختبار. ومن العجيب أن النتائج تؤكد أن 100% من المتطوعين قد وصلوا لصعق الطالب بـ300 فولت قبل أن يبدوا رغبة حاسمة في إنهاء الاختبار. وأن 65% قد استطاعوا إكمال الاختبار للنهاية وصعق الطالب بجهد كهربي 450 فولت في وجود مشرف من الجامعة يمثِّل السلطة الموثوق بها.
ولكن تقل نسبة الإنصياع هذه للثلث، إذا لم يكن المشرف الجامعي موجودًا في نفس الغرفة مع المتطوع (المدرس). أي أنه في ظل تواجد سلطة موثوق فيها، تأمر بالإستمرار في عملية الصعق وتنفي عن المتطوع المسؤولية وتحملها بدلاً منه، تزيد الطاعة لأداء عملية الصعق الكهربي لإنسان برئ بجهد 450 فولت بنسبة 200%!!
هناك أناس يتطلعون لأن يجدوا قادة يفكرون بدلاً منهم، ويأخذون لهم القرارات، ويقودونهم في رحلة الحياة؛ لأن هذا أمر مريح. ومن الناحية الأخري هناك أناس آخرون يتطلعون لأن يتسلطوا علي الناس
والأعجب أن 85% من المتطوعين أقروا أنهم سعداء بالاشتراك في التجربة، وذلك دون أن يعلموا أنها تمثيلية.
إذًا لقد أدي وجود سلطة موثوق بها إلي تغييب عقل كل المتطوعين، لقد ألقوا بمسؤولية التفكير واتخاذ القرار على مشرف الجامعة كسلطة أعلي موثوق بها، وتعطل عقلهم وضميرهم، حتى قاموا بأمر وحشي مدمِّر لشخص بريء. لقد تم تغييب عقلهم تمامًا. وأصبحوا في حالة أخلاقية أقل من الحيوان!!
قدرة السلطة الدينية علي التحكم بالبشر
إذًا للسلطة تأثير غير عادي علي إرادة البشر. فالناس بوجه عام يخافون السلطة ويهادنونها ويتملقونها ويسعون لنوال رضاها. وهناك أماكن تُعَدْ السلطة أمر هام جدًا في ترتيبها ونظامها ونجاحها كالجيوش مثلاً. فالفرد في القوات المسلحة ليس من حقِّه مناقشة الأوامر، بل عليه أن ينفذها دون تباطؤ، أو حتى تفكير، مهما كانت تكلفة تنفيذها، بل وإن ناقش أو تباطأ في التنفيذ لعدم اقتناعه يُحال في الحال للمحاكمة العسكرية. ولو تم هذا التباطؤ في أثناء الحرب، توجَّه له تهمة الخيانة العظمي.
ولتعزيز دور السلطة ولتقوية موقفها تضيف الجيوش للقادة علامات مميَّزة في مظهرهم الخارجي. وتؤدَّي لهم، حسب الأوامر، طقوس احترام خاصة عند مقابلتهم. فالقائد في الجيش له ملابس خاصة توحي بالهيبة والسلطة وذلك لتعزيز موقفه السلطوي، وأيضًا تؤدَّي له تحيات عسكرية سواء باليد أو بالسلاح، ويكون دائمًا الاقتراب منه مصحوبًا بطقوس خاصة! وكل ذلك لتشديد الإحساس بمهابة سلطته لتسهيل عملية القيادة.
ونفس هذه الطقوس والمميزات استلمتها السلطات الدينية! وصار رجال الدين في الكثير من الديانات لهم ملابسهم الخاصة التي تحدِّد دورهم السلطوي! ولهم في أحيان كثيرة طرق معينة وطقوس تؤدَّي عند الاقتراب منهم!! وكل هذا للتشديد علي سلطتهم الدينية والطاعة الواجبة لهم. وأدعوك يا قارئي العزيز أن تجري بحثًا علي شبكة الإنترنت عن ملابس الأباطرة والملوك قديمًا وطرق الاقتراب منهم، وأن تقارن ملابسهم وطرق الاقتراب منهم بتلك الخاصة برجال الدين المسيحي. وسوف تُدهش يا صديق إلي أقصي درجات الاندهاش للتطابق العجيب بين رموز السلطة المدنية ورموز السلطة الدينية.
ولكن يتميز رموز السلطة الدينية بشيء لم يتمتع به رموزالسلطة المدنية والعسكرية. فرجل الدين لديه سلطان وتأثير مباشر علي ضمائر الناس. فمن يخالف رجل الدين يقول له ضميره إنه صار مخالفًا لله. ويا له، إذن، من خصم ذاك الذي سوف أخاصمه عند مخالفتي لرجل الدين. إن مجرد مناقشتي وتفكيري وإعمال عقلي في كلام وتوجيهات رجل الدين يُعتبر بالنسبة لضمير الكثيرين هو مناقشة وتفكير وإعمال للعقل في توجيهات الله؛ ويا لها من خطية مريعة!! هذا المحرك الضميري غير الصحيح يعطي رجل الدين وسلطته أفضلية غير عادية فوق أفضيلة السلطات المدنية والعسكرية بأكثر كثيرًا. ولهذا نري الكثير من الأنظمة المدنية تداعب رجال الدين، وتحاول أن تتخذ منهم مشيرين، وأن توحي للعامة باتباعها للدين بوجه عام. بل إن أعنف الأنظمة الحاكمة وأكثرها سلطة وأكثرها قمعًا للمعارضة وإبادةً للرأي الآخر هي أنظمة حكم دينية! إذ كيف تجرؤ علي مخالفتي وأنا أمثل سلطة الله؟!!
وحتي في المسيحية، يرفع الكثير من رجال الدين سلاح الحرم الكنسي في وجه كل من يخالفهم. ويزعمون قدرتهم علي منع المسيحي من نوال الخلاص ودخول السماء! ويؤكِّدون لأتباعهم سلطتهم علي غفران الخطايا وإراحة الضمير. وبذلك يقع كل من لا ينصاع لهم ويتبع أفكارهم تحت طائلة العقاب الأبدي والعقاب الزمني من الله! وكل ذلك من أجل فرض هيمنتهم علي المسيحيين وضمان أكبر عدد ممكن من الأتباع.
وحتي إن لم يكن رجل الدين المسيحي يمارس سلطته غير المقدسة هذه بهذا الشكل المخيف. فمجرد هيئته الخارجية المميَّزة وكلامه المعسول الخفيض، أو الحماسي الجهوري، له سلطة علي ضمير المسيحي بشكل مخيف. حتي أننا نري أخًا يذهب لرجل الدين ويسأله قائلاً: ”هل أقبل هذه الوظيفة أم لا؟“، أو ”هل أتزوج بهذه أم لا؟“، أو ”هل أهاجر أم لا؟“. وتذهب أخت أيضًا سائلة: ”هل ألبس هذه البلوزة أم لا؟“، أو ”هل آكل هذا أم لا؟“، أو ”هل أقرأ الإنجيل واقفة أم جالسة؟“. وهكذا يمسك رجل الدين بدفة سفينة حياة المسيحي، وهو في هذا يحلّ محل الروح القدس الذي يجب أن يعتمد عليه المؤمن المسيحي. بل ويحل رجل الدين أيضًا محل المسيح الذي يجب أن لا يكون المسيحي عبدًا لأحد غيره. ويصير المؤمن بهذا الشكل شخصًا مغيَّب العقل! بينما لا يغيِّب الله أبدًا عقل من يتبعه، والرسول بولس يقول عن عبادتنا أنها عبادة «عاقلة»؛ أي مفهومة ومعقولة، وليست طلاسم بلا معنى، أو حركات تؤدَّي دون أن ندرك أبعادها، أو تسليم الإرادة عمياء لأُناس يتحكمون فيها كما يريدون.
وهكذا يمسك رجل الدين بدفة سفينة حياة المسيحي، وهو في هذا يحلّ محل الروح القدس الذي يجب أن يعتمد عليه المؤمن المسيحي.
وهذا القدر من الخضوع للسلطة الدينية يغذي غريزة التدين الطبيعية عند الإنسان. فالإنسان يحتاج أن يشعر أن الله راضٍ عنه، ويلجأ لتوفير هذا الاحتياج بأن يطمئن بأن رجل الدين راضٍ عنه. فيستبدل الله الراضي عنه برجل الدين الراضي عنه؛ فيستريح ضميريًا. هذا بالإضافة إلى ما ذكرته من قبل أن الإنسان يحتاج لسلطة أعلي تُمارَس عليه لكي يشعر بالأمان، ولكي يغيِّب عقله ويتبع هذه السلطة ممثَّلة في هذا الرمز الديني، مغمضًا عينيه إذ أن هناك ”آخر“ مسؤول عن مسيرته، وقد حدَّد له طريق التقابل مع الله. وبإضافة القليل أو الكثير من المهابة لرموز الدين، يتم تعمية الإنسان تمامًا وتغييب عقله نهائيًا. وبدلاً من أن يصير الإدراك والعقل أداة للتواصل مع الله، يصير رجل الدين هو جهاز التحكم عن بُعد في مسخ بشري له عقل وإدراك لكنهما معطَّلين ومغيَّبين تمامًا.
تغييب العقل والجريمة الكبري
هل تعلم ما هي أفظع جريمة إرتُكبت علي وجه الأرض؟ لقد كانت جريمة تعذيب وقتل بشعة لشخص بريء تمامًا من أي جريمة ومن أي خطية بشهادة الجميع حتي أعدائه. هذا الشخص كان شخصًا وديعًا ومُحبًّا وودودًا. كان يحنّ علي المتألمين، ويصغي لآلام المنحنين، ويحلّ مشاكل الحائرين، بل لقد كانت لديه القدرة الإلهية التي شفي بها الآلاف من المرضي، وأخرج الشياطين من المعذبين من الأرواح الشريرة، وأطعم الفقراء، وعلّم الجموع، وأقام الموتي، وأحب الخطاة وأحسن إليهم وغيَّر حياتهم وردَّ نفوسهم لله. لم يفعل قَطّ أي شيء لأجل نفسه أو ليرضي نفسه، بل وضع نفسه لأجل جميع الناس. كان حديثه وكلمات النعمة الخارجة من فمة حلوة ومشبعة لآلاف البشر. كان القريب والبعيد يدنو إليه لكي يجد الراحة. هذا الشخص تمت إهانته وتعذيبه وقتله بأبشع طرق القتل دون أي شيء خاطئ. إن الجريمة الكبري علي مرّ العصور هي جريمة صلب الرب يسوع المسيح.
علي مدار حياته، كان الرب يسوع مثار إعجاب الجموع من اليهود، وكان محل تقديرهم. بل نراه إذ يمُرّ في قُراهم يتدافعون جميعًا ويلتفون حوله لكي ينظروه ويسمعوه ويتحدثوا معه ويلمسوه ويعرضوا عليه متاعبهم وآلامهم وأمراضهم وحتي موتاهم؛ فكان - تبارك اسمه - يكرمهم أشد الكرم ويحسن لهم أعظم الإحسان. كانوا جميعًا يحبونه وكان يخرج وراءه الآلاف لكي فقط يسمعوا كلامه. وفي خروجهم هذا كانوا لا يحسبون كيف سيأكلون وكيف سيشربون وكيف سيرجعون إلي بيوتهم. وكانوا ينسون أنفسهم في محضره، حتي أنهم يجدون أنفسهم وقد حلّ الليل عليهم دون أن يدروا. ومن فرط إعجابهم به وتعلقهم به طلبوا أن يجعلوه ملكًا عليهم. وعند دخوله لأورشليم نري عشرات الآلاف يحيطون به ويخلعون ثيابهم ويفرشون له الطريق بثيابهم ويرفعون أغصان النخيل كرامة له كالملك، كابن داود، ويهتفون له ويغنّون «أوصنا لابن داود»، أي خلِّصنا يا ابن داود الملك؛ فإنك أنت الملك القادم دون منازعة.
أ مثل هذا، وهيهات أن يوجد مثله، يُقتل؟ هل مثل هذا الشخص يمكن إهانته وتعذيبه وقتله؟ هل يمكن أن يحدث هذا، ومن الذي من الممكن أن يفعل هذا ويطالب بموته وتعذيبه؟ أ هم نفس الجموع الذين أحاطوا به هاتفين وطلبوا أن يجعلوه ملكًا؟ أ هم نفس الجموع الذين أحبهم وأطعمهم وشفي مرضاهم وأخرج الشياطين من أبنائهم وأقام موتاهم وعلمهم واعتني بهم؟ نعم إنه هم نفس الناس الذين هتفوا له والذين أحسن إليهم!! ومتي فعلوا هذا؟ بعد خمسة أيام فقط من يوم أن هتفوا له كالمسيا الملك القادم الذي من نسل داود. فبعدما صرخوا بصوت عال «أوصنا لابن داود»، صرخوا بصوت عالٍ «اصلبه اصلبه... دمه علينا وعلي أولادنا» .. يا للهول! ويا للكارثة!! كيف يكون هذا؟! كيف يحدث تغير هائل، لن أقول إنه مائة وثمانون درجة، ولكنه مائة وثمانون ألف درجة، في موقف آلاف الجموع، فقط في خمسة أيام؟! كيف ينهار رأي الجموع الذي تكوَّن علي مدار ثلاثة سنين ونصف فقط بعد خمس أيام دون حدوث أي تغيير في شخص الرب أو مواقفه تجاههم؟! هل تريد أن تعرف كيف ولماذا.. إنه تأثير السلطة الموثوق فيها، سلطة رجال الدين ومقدرتهم علي تغييب عقل الجموع.
لقد ربح الرب يسوع المسيح قلوب الجموع. لقد كسب ودّهم وتعاطفهم. ووجد القادة الدينيين وقتها أن البساط ينسحب تدريجيًا من تحت أرجلهم لحساب الرب يسوع. فبعد أن كانوا هم محطَّ أنظار اليهود وموضوع تعلقهم، وبعد أن كانوا يسيطرون علي ضمائرهم وعقولهم دون أدني منازعة، وجدوا أن هناك قادم جديد، لا ينتمي لهم ولا ينصاع لأفكارهم، قد بدأ في اكتساب إعجاب الجموع لدرجة أنهم يخرجون وراءه بالآلاف. لقد هدَّد سلطتهم ومكانتهم والفوائد التي تَعود عليهم من انصياع الناس لهم. لقد هدَّد حب السيطرة الذي بداخلهم؛ فقد بدأوا يشعرون أن مقاليد أمور الجموع لم تعُد في أيديهم، فقد ملك هذا القادم الجديد على قلوب الناس وأصبحوا يتبعونه بلا منازع. لقد كشف علانية سلوك قادة الدين، وأظهر مدى تهلهل أفكارهم، وأصابهم بالخزي؛ وذلك دون أدنى استخدام للقوة أو العنف، سواء الجسدي أو المعنوي، من جانبه. لقد أصاب مقدَّساتهم بالعطب. لقد كانوا يستغلون الشرائع التي وضعها الله من أجل الإنسان لكي يسيطروا هم علي الجموع ويزيدوا من رهبتهم ومن سطوتهم الدينية.
وعند أول تهديد لهذه السلطة بدأ رجال الدين يتشاوورن «عليه لكي يهلكوه» (مت12: 14). وبدأوا يقولون عنه إنه «يخرج الشياطين... ببعلزبول رئيس الشياطين» (مت12: 24)؛ محاولين أن يظهروا للناس أنهم من فريق الله وأنه هو من فريق الشياطين. وظلوا يحاولون تحدّيه مستخدمين سلطة التقليد الديني ويتهمونه بأنه يتعدي «تقليد الشيوخ» (مت15: 2). وهكذا أخذوا يحاولون أن يتحدوه ويظهروا أنه ليس من فريق الله بل هو متعدٍّ علي الله! بينما هو ”الله الظاهر في الجسد“. وأخذت المواجهات الباردة تتطور حتي أفصحوا عن ما في قلوبهم وسألوه علانية وهو يعلِّم في هيكل الله قائلين «بأي سلطان تفعل هذا؟ ومن أعطاك هذا السلطان؟» (مت21: 23). وبذلك ظهرت نواياهم الحقيقية علانية، فمشكلتهم الحقيقية ليست في أنهم يدافعون عن الحق؛ لكن قضيتهم هي أن الرب يسوع أصبح لديه تأثير عظيم في قلوب الناس، حتي أنهم أصبحوا علي وشك أن يفقدوا قدرتهم علي السيطرة علي الشعب. فهو قد ملك علي قلوب وعقول البشر، دون هذه النعرة الدينية الشكلية الخارجية وطرق السيطرة البشرية المغلفة بعباءة الدين.
ملك الرب علي قلوب وعقول البشر، دون هذه النعرة الدينية الشكلية الخارجية وطرق السيطرة البشرية المغلفة بعباءة الدين... فتحدّي سلطانهم بدرجة أفقدتهم كل مظهر تقوي ديني خارجي، فتكلموا صراحة فيما بينهم وبدأوا يدبرون جريمة قتل غادرة ماكرة.
وبعد هذه الأحداث ليس بقليل يقول متي البشير «حينئذ اجتمع رؤساء الكهنة والكتبة وشيوخ الشعب إلي دار رئيس الكهنة الذي يُدعي قيافا، وتشاوروا لكي يمسكوا يسوع بمكر ويقتلوه. ولكنهم قالوا: ليس في العيد لئلا يكون شغب في الشعب» (مت26: 3-4). فقد تحدّي سلطانهم بدرجة أفقدتهم كل مظهر تقوي ديني خارجي، فتكلموا صراحة فيما بينهم وبدأوا يدبرون جريمة قتل غادرة ماكرة. وإن كانوا ما زالوا يحسبون حساب الشعب الذي أحب الرب يسوع المسيح جدًا وتعلق به بالقلب والعقل. ووضعوا الخطة وبدأوا في حملة دعاية مضادة مؤيَّدة بعمامة رئيس الكهنة، حتي يسيطروا علي قلوب الشعب وعقولهم.
بعد ذلك قبضوا عليه وأخذوا يحضرون شهودَ زورٍ لكي يجدوا جريمة ليعاقبوه عليها، وبدأوا يداعبون السلطة المدنية لكي يأخذوا منها تصريحًا بقتله. ولكن بيلاطس الوالي الروماني كان يعلم «أنهم أسلموه حسدًا» (مت27: 18)، وأنه بريء لكنهم حسدوه لأجل حب الناس له وتعلقهم به. ولأن رجال الدين يعلمون تمامًا أن السلطة المدنية يهمها رضا الشعب «حرَّضوا الجموع علي أن يطلبوا باباراس (القاتل لكي يطلق) وأن يهلكوا يسوع» (مت27: 20). ولكن هل يمكن أنّ الشعب، الذي كان من خمسة أيام يطلب تنصيب الرب ملكًا، يطلب هلاكه؟ نعم.. إنها قدرة رجال الدين علي تغييب العقل.
ولما سأل الوالي «ماذا أفعل بيسوع الذي يدعي المسيح؟ قال له الجميع: ليُصلب» (مت 27: 22). هل رأيت ياعزيزي القارئ! لقد طلب جميع الشعب بملء الفم أن يُصلب المسيح وأن يوهب لهم رجل قاتل. وتعجب الوالي وسأل مستنكرًا «وأي شرٍّ عمل. فكانوا يزدادون صراخًا قائلين: ليُصلب» (مت27: 23). أ يزادادون صراخًا مطالبين بصلب من أقام مواتاهم وشفي مرضاهم؟ علي ماذا تصرخون وتنفعلون وتتحمسون؟ إنه العقل المتوقف عن العمل؛ فلم يعد الشعب إلا أداة في يد رجل الدين يتحكم فيها عن بُعد، وبأقل مجهود، وضد أبسط قواعد العقل والفهم والضمير والعدل. حتي أن بيلاطس رأي «أنه لاينفع شيئًا بل بالحري يحدث شغب، أخذ ماء وغسل يديه قدام الجمع قائلاً: إني برئ من دم هذا البار. أبصروا أنتم» (مت27: 25). فقد رأت السلطة المدنية أنها لن تستطيع تحدّي السلطة الدينية، حتي لو احتكمت للعقل والمنطق، فقد حاول بيلاطس أن يجعل الجمع يفكِّر ويُعمل عقله، وأن يدير معهم حوارًا حتي ينقذ هذا البار من أيديهم، لكنهم، وهم واقعون تحت سلطة رجال الدين، رفضوا تمامًا إعمال العقل بل لقد أوشك أن يحدث شغب أي مظاهرات وأعمال عنف.
لقد ارتُكِبت الجريمة الكبري في التاريخ عن طريق تغييب عقل الجموع بواسطة سلطة دينية فاسدة تحكَّمت في ضمائر وقلوب وعقول العامة، وجعلتهم يرتكبون أفظع جُرم علي مَرِّ التاريخ.
تطبيقات عملية
ولكن هل يتم تغييب العقل في المسيحية؟ هل يوجد رجال دين يمارسون سلطات تؤدي بالمسيحيين لتغييب الإدراك والعقل؟ أليس هناك من يدعي أن سلطته تماثل سلطة الرسل؟ أليس هناك من يؤكِّد أنه يستطيع أن يغفر خطايا الناس، وأن بدونه لن تغفر للناس خطاياهم؟ أليس هناك من يُعلن أنه هو ونظامه هما المنوطين بإدخال الناس للسماء أو منعهم منها؟ أليس هذا تعديًا علي الحقوق الشخصية للرب الذي من حقه وحده أن يعيِّن رسلاً وأن يغفر خطايا ويدخل الناس للسماء أو لجهنم؟ أ لم تُحاك المؤامرات وتُدبَّر المكائد للتخلص من المعارضين لهذه الأنظمة وللتشهير بهم وبأفكارهم وتشويه صورتهم لدي المسيحين ولدي الأنظمة المدنية أيضًا؟ أ لم يدّعي البعض أنهم هم المرجع الوحيد لفهم الكتاب المقدس، وأنهم هم وحدهم هم أصحاب سلطة تحديد الحق والضلال؟ أ لم يطلب هؤلاء من الناس أن يسلِّموا لهم دفة حياتهم دون مراجعة؟
وحتي في الاماكن المستنيرة بنور الإنجيل، أ لم يُعطَ لأشخاص بعينهم مكانة خاصة ليصيروا هم النجوم اللامعة البعيدة المنال ذات الهيبة والوقار والباقون تابعون لهم؟ أ لم يتحوّل هؤلاء النجوم إلي مرجعية دينية فيقول الباقون لبعضهم البعض ”فلان“ قال؛ ومادام فلان قد قال، إذن هذا هو الحق؟ أ لم يوصم أصحاب العقول الباحثة في كلمة الله بالخروج عن ”المألوف“ وعن التقاليد الموروثة وبعدم التواضع؟ أ لم يتم الترويج والتهليل لتعاليم خاطئة لمجرد أن النجوم اللامعة يؤمنون بها ويمارسونها دون أدني رجوع لكلمة الله؟ ألا تتم الدعاية وعمليات جذب للمسيحيين حتي يتبعوا أشخاص بدلاً من اتّباعهم للرب يسوع؟ أ لم يتوقف العقل تمامًا، لحساب العواطف والأحاسيس التي يحركها رجل الدين عند السامعين؟ أ لم تصبح جرعة الانفعال هذه، ومسكِّنات الضمير تلك، إدمانًا لدي المسيحي، فيأتي لرجل الدين اللامع لكي يأخذ الجرعة في ميعادها ويغيِّب عقله وضميره حتي الأسبوع القادم ليأتي مرة أخري ويأخذ الجرعة مرة أخري؟
لقد حلّ رجال الدين ونجومه محل المسيح، فصاروا هم موضع إعجاب المسيحيين وانشغالهم. وبدلاً من أن يكون الكتاب المقدس هو المرجعية الوحيدة للمسيحي، أصبح رجال الدين سواء الحاليين أم السالفين هم المرجع بالنسبة له. وبدلاً من أن يكون إرضاء الرب شخصيًا هو هدف المسيحي أصبح نوال رضا السلطة الدينية أو المرجعية الدينية هو هدفه. وبدلاً من إرشاد الروح القدس للمؤمن صارت أفكار وإرشادات واستشارات نجوم السلطة الدينية هي مصدر إرشاد المسيحيين. وبدلاً من أن تكون عواطف وأفكار المؤمن متّجهه نحو الرب، نجده مدفوعًا للحصول علي انفعال عاطفي أو أفكار فلسفية من نجوم الدين بشكل دوري، يحاول عن طريقها الشعور بالشبع الروحي بشكل نفسي وغير حقيقي. وأنا لا أنكر أهمية الإرشاد الروحي بواسطة الشيوخ في الإيمان للمسيحي، ولكنه إرشاد يكون مسنودًا بكامله علي كلمة الله كمرجعية أساسية، حيث يظل المسيحي مسؤولاً عن أن يراجع هذا الإرشاد في ضوء كلمة الله، كأهل بيرية. فالعلاقة بين الشيوخ والأولاد ليست علاقة سلطوية ولكنها إرشادية، يقدِّم فيها الشيخ مما استقاه من كلمة الله ومن خبرته في الإيمان مع الرب من ناحية، ومن ناحية أخري يشير لطالب الإرشاد إلي مصدر الإرشاد الحقيقي، كلمة الله الحية وعمل الروح القدس بداخل المؤمن. ولكن أن يصير المؤمن إنسانًا آليًا ينفِّذ ويعيش أفكار وفلسفات المرشد الذي يتحكم به وبضميره بجهاز ريموت كنترول، فهذه ليست مسيحية الكتاب المقدس، بل أخري ممسوخة فارغة المعني.
ما العمل؟! وهل هناك أمل؟!
أخي، أختي، لا بديل عن كلمة الله. لا بديل عن العقل المؤيَّد بكلمة الله. لا بديل لمرجعية الكتاب المقدس. لقد زار بولس الرسول، صاحب المرجعية الرسولية مدينة بيرية اليونانية. وهناك تكلّم بكلمة الله. ويقول الكتاب عن أهل بيرية «وكان هؤلاء أشرف من الذين في تسالونيكي؛ فقبلوا الكلمة بكل نشاط، فاحصين الكُتب كل يوم، هل هذه الأمور هكذا؟» (أع17: 11). وعندما نقرأ هذه العبارات يمكن أن نظن، لأول وهلة، أن أهل تسالونيكي لم يقدِّموا الاحترام الواجب للرسول، ولم يعتبروا أن كلماته هي كلمات الله لهم. ولكن بالرجوع للرسالة الأولي للرسول بولس لهذه الكنيسة، قبلوا «الكلمة في ضيق كثير بفرح الروح القدس»، حتي صاروا «قدوة لجميع الذين يؤمنون في مكدونية وآخائية». ولم يقبلوها فقط، بل لقد أُذيعت كلمة الرب بواسطتهم «ليس في مكدونية وأخائية فقط، بل في كل مكان أيضًا» (1تس1: 6-8). فهؤلاء القديسين أطاعوا بكل احترام، وقبلوا، ونشروا كلمة الله. ولكن الروح القدس قد مدح أهل بيرية وقال أنهم «أشرف» من الذين في تسالونيكي. هل تعلم لماذا؟ لأنهم أعملوا عقلهم وقلبهم في الكتاب المقدس، وبحثوا بأنفسهم ليتأكدوا من صحة كلام الرسول. أ رأيت إذًا كيف يفضِّل الله إعمال العقل في مرجعية وحيدة، مرجعية الكتاب؟!
ولقد حث الرسول بولس دائمًا علي أهمية استخدام العقل للفهم؛ فيقول لمؤمني فيلبي «وهذا أصلّيه أن تزداد محبتكم أكثر فأكثر في المعرفة وفي كل فهم» (في1: 9، 10). فصلاته لهم هي أن يزدادوا في محبة المعرفة وكل فهم. ويضع هذين الأمرين كأساس لشيء آخر هام، إذ يكمل فيقول: «حتي تميزوا الامور المتخالفة». فالتمييز يحدث إذًا عن طريق الفهم والمعرفة. وإن كان الفهم والمعرفة أشياء روحية تتم بمؤزارة الروح القدس، لكن الروح القدس يستخدم العقل كأداة للمعرفة والفهم. ولكن ما هي أهمية «تمييز الأمور المتخالفة»؟ يكمل ويقول إنه يؤدِّي لأمرين في غاية الأهمية:
أولاً: الإخلاص. إذ يقول «لكي تكونوا مُخلصين». فلن يكون المؤمن مُخلِصًا بدون أن يكون مميِّزًا، ولن يكون مميزًا دون معرفة وفهم روحي.
ثانيًا: عدم التعثر. إذ يقول «لكي تكونوا... بلاعثرة». فالمؤمن المميِّز لن يعثر بأمور غير مفيدة أو ضارة، أو يقع في تعليم خاطئ يجعله يتعثر في الطريق الروحي. ولكي أميّز الأمور المتخالفة لا بد أن أفهم، وإن كنت سأفهم فلا بد أن تكون لدي المعرفة. وكل هذه الأمور أمور روحية بعمل الروح القدس في الذهن البشري.
إذن، فمرجعية العقل المؤسَّس علي حقائق الكتاب المقدس تحمي المؤمن من كل وجه، وتجعله مُخلِصًا للرب، موجِّهًا ولاءه وعواطفه للرب وحده، ومسلِّمًا قيادة حياته للروح القدس وحده. ويقوم الروح القدس بواسطة المكتوب بتذكير المؤمن بكل ما قاله المسيح. ويقول الرسول عن الروح القدس «وأما أنتم فالمسحة التي أخذتموها منه ثابتة فيكم، ولا حاجة بكم إلى أن يعلّمكم أحد بل كما تعلّمكم هذه المسحة عينها عن كل شيء» (1يو2: 27). فيقوم الروح القدس، مستخدمًا كلمات الكتاب، بالعمل في العقل والقلب لتعليم المؤمن وإرشاده، وتشكيله، وقيادته، وإشباع عواطفه وعقله.
مرجعية العقل المؤسَّس علي حقائق الكتاب المقدس تحمي المؤمن من كل وجه، وتجعله مُخلِصًا للرب، موجِّهًا ولاءه وعواطفه للرب وحده، ومسلِّمًا قيادة حياته للروح القدس وحده.
إن حياتنا مرتبطة تمام الارتباط بكلمة الله وبعمل الروح القدس فينا بواسطة كلمة الله في الإنسان الباطن، لكي نتشدد ونتقوي وننمو ونشبع ونخدم ونسلك بالحق في الروح القدس.
دعونا إذن نترك الكل، دعونا نخرج إليه خارج المحلة، محلة الدين، محلة النجوم اللامعة؛ فنحن لنا كوكب الصبح المنير في قلوبنا، لنا الرب يسوع ولنا به وبعمل روحه وبتأثير كلمته أن ينفجر النهار في قلوبنا. فشمسنا وفجرنا ونهارنا هو الرب يسوع المسيح وحده.
دعونا ألا نسعي لكي نرضي سواه، وألا ندع آخر يأخذ محله في عواطف قلوبنا ومراكز أفكارنا.
دعونا نترك كل مجد لامع باطل لسلطات ونجوم الدين، ونغمس قلوبنا وعقولنا في المكتوب كي ما نجد طعامًا وإرتواءً وإرشادًا.
دعونا نرجع إلي «الشريعة والشهادة»؛ فإن لم نفعل هذا وإن لم نقل «إلي الشريعة وإلي الشهادة»، فليس لنا فجر.