(غل1: 10)
إن جريمة صلب الرب يسوع هي - بدون شك - جريمة الدهور. وتخبرنا كلمة الله أن أشخاص عديدون اشتركوا في هذه الجريمة الشنعاء؛ كان آخرهم بيلاطس البنطي الذي كان الأداة المنفِّذة لهذه الجريمة البشعة.
وهذا الأخير لم يُخطِّط, بل نستطيع أن نقول: إنه لم يكن يريد أن يشترك فيها، لكنه في النهاية كان هو الشخص الذي أمر بصلب الرب يسوع!
هذه الخطية البسيطة في ظاهرها: أن يحاول إرضاء الناس على حساب الحق؛ أدَّت ببيلاطس أن يأمر بصلب الرب يسوع!!
ومَن يقرأ الأناجيل الأربعة يتعجب جدًا؛ فبيلاطس البنطي الوالي الروماني, صاحب السلطة المطلقة, والشخصية الدموية؛ حيث يخبرنا الكتاب في إنجيل لوقا, أنه إرتكب مذبحة رهيبة ضد أناس من الجليل «الَّذِينَ خَلَطَ بِيلاَطُسُ دَمَهُمْ بِذَبَائِحِهِمْ» (لو13: 1). نجد هذا الشخص يرضخ أمام صراخ الغوغاء, وضغط رؤساء الكهنة, والكتبة, ويسلم الرب يسوع للصلب رغم اقتناعه التام بأنه بار. فبعد أن شهد مرات عديدة أنه لا يجد فيه علّة, بل بعد أن قام بغسل يديه أمام الجمع ليحاول تبرئة نفسه من هذه الجريمة الرهيبة قائلاً: «إِنِّي بَرِيءٌ مِنْ دَمِ هَذَا الْبَارِّ», يقول الكتاب «وَأَمَّا يَسُوعُ فَجَلَدَهُ وَأَسْلَمَهُ لِيُصْلَبَ» (مت27: 24، 26)!!
وأمام هذا الموقف لا بد للإنسان بالفعل أن يتساءل ”ما الذي يدفع إنسان بهذه الشخصية الدموية, وبهذه السلطة الرهيبة, أن يُقدِم على إرتكاب جريمة مثل هذه, سيظل إلى أبد الآبدين يدفع ثمنها في جهنم؟!“. لكن تأتي الإجابة بكل وضوح في إنجيل مرقس 15: 15 «فَبِيلاَطُسُ إِذْ كَانَ يُرِيدُ أَنْ يَعْمَلَ لِلْجَمْعِ مَا يُرْضِيهِمْ أَطْلَقَ لَهُمْ بَارَابَاسَ وَأَسْلَمَ يَسُوعَ بَعْدَمَا جَلَدَهُ لِيُصْلَبَ». إذًا هذه الخطية البسيطة في ظاهرها - أن يحاول إرضاء الناس على حساب الحق - أدَّت ببيلاطس أن يأمر بصلب الرب يسوع.
هذه الخطية البسيطة في ظاهرها: أن يحاول إرضاء الناس على حساب الحق؛ أدَّت ببيلاطس أن يأمر بصلب الرب يسوع!!
لكن لماذا كان بيلاطس يريد أن يُرضي الجمع؟ هل كان ذلك لمحبة تجاههم, أم خوف منهم, أم ماذا؟ لا تتركنا كلمة الله للتساؤلات, لكن يشرح لنا الرسول يوحنا الدوافع التي أدت ببيلاطس أن يُقدِم على هذا الفعل فيقول: «مِنْ هَذَا الْوَقْتِ كَانَ بِيلاَطُسُ يَطْلُبُ أَنْ يُطْلِقَهُ وَلَكِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا يَصْرُخُونَ: ”إِنْ أَطْلَقْتَ هَذَا فَلَسْتَ مُحِبًّا لِقَيْصَرَ. كُلُّ مَنْ يَجْعَلُ نَفْسَهُ مَلِكًا يُقَاوِمُ قَيْصَرَ“» (يو19: 12). كان هذا تهديدًا واضحًا لبيلاطس بأنه قد يُتَهَم بمقاومة قيصر, وبالطبع كان هذا من الممكن أن يفقده كرسي الولاية بل ويعرّضه للمحاكمة؛ مما جعله يدوس العدالة بكل بساطة, ويُسَلم أبّر وأقدَس إنسان عرفه التاريخ للصلب. لكن العجيب أن التاريخ يخبرنا أنه بعد صلب الرب يسوع بوقت قصير، تم عزل بيلاطس من ولاية اليهودية, ونفيه إلى بلاد الغال, حيث مات هناك منتحرًا.
ولكن إن كان بيلاطس الحاكم الوثني، لأجل إرضاء الناس, قام بهذا الجريمة التي أدّت به للنهاية البشعة والهلاك الأبدي, فهل إذا وقع شخص مؤمن في هذه الخطية البسيطة في ظاهرها من الممكن أن تؤدي إلى نتائج رهيبة أيضًا؟
بكل ثقة نستطيع أن نقول: نعم, لأن الكتاب يخبرنا في سفر الأعمال أصحاح 21 أن الرسول بولس نفسه - هذا الرسول العظيم الذي صنع به الله العجائب والذي كرز بالإنجيل بكل قوة في أغلب أنحاء المسكونة - كاد هذا الرسول أن يقع في خطية رهيبة بسبب انقياده وراء كلام الإخوة في أورشليم. فبعد أن وصل إلى أورشليم وقَبِله الإخوة بفرح, وبعد أن حَدَّثهم بكل ما فعله الله بين الأمم بواسطة خدمته، اقترحوا عليه اقترحًا غريبًا وهو: أن يأخذ أربعة رجال كان عليهم نذر ويتطهر معهم حسب الشريعة اليهودية, وينفق عليهم لكي يحلقوا رؤوسهم، وهكذا يَعلم الجميع أنه يسلك حافظًا للناموس. وقد أوضح الإخوة له أنه يجب أن يفعل هذا من أجل الربوات من اليهود الذين آمنوا وهم جميعًا غيورون للناموس.
ويا للعجب أن الرسول بولس نفسه الذي قاوم الرسول بطرس مواجهة في أنطاكيا لأنه كان ملومًا, «لأَنَّهُ قَبْلَمَا أَتَى قَوْمٌ مِنْ عِنْدِ يَعْقُوبَ كَانَ يَأْكُلُ مَعَ الأُمَمِ، وَلَكِنْ لَمَّا أَتَوْا كَانَ يُؤَخِّرُ وَيُفْرِزُ نَفْسَهُ، خَائِفًا مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنَ الْخِتَانِ» (غل2: 11-12)؛ هذا الرسول الذي كرز في كل مكان ذهب إليه, بكفاية ذبيحة المسيح وكمال عمله, وعدم الاحتياج إلى أية ممارسات طقسية أو ناموسية للخلاص، كان هو نفسه سوف يدخل الهيكل, ويقرِّب القربان حسب الشريعة اليهودية عن كل واحد من الرجال الذين كانوا معه. أي أنه كان سوف يناقض كل ما كان ينادي به, بل كان سوف يوجِّه إهانة للرب الحبيب الذي قال عنه صادقًا إنه مستعد ليس أن يُربَط فقط بل أن يموت أيضًا في أورشليم لأجل اسم الرب يسوع (أع21: 13).
لكن شكرًا للرب الذي أنقذه من الوقوع في هذه الخطية؛ فعندما قاربت أيام التطهير أن تتم، وقبل أن يقدِّم القرابين، رآه اليهود الذين في آسيا في الهيكل، فأهاجوا كل الجمع وألقوا عليه الأيادي, وضربوه بشدة حتى أنهم كانوا سوف يقتلونه لولا عناية الرب الذي أرسل أمير الكتيبة الرومانية مع العسكر فأنقذه من بين أيديهم.
واضح أن خطية إرضاء الناس على حساب الحق ولو في أبسط الأمور قد تقود إلى أوخم العواقب, سواء وقع فيها خاطي, أو مؤمن.
إذًا واضح أن خطية إرضاء الناس على حساب الحق ولو في أبسط الأمور، قد تقود إلى أوخم العواقب, سواء وقع فيها خاطي, أو مؤمن. فقد أدّت ببيلاطس أن يسلِّم الرب يسوع بعد ما جلده ليُصلب, وكادت تؤدّي بالرسول المغبوط أن يعمل عملاً يناقض ما كان هو نفسه يكرز به. لكن كان هذا الموقف بالطبع هو الاستثناء في حياة الرسول العظيم بولس، الذي تخبرنا كلمة الله كيف عاش كل حياته يخدم سيده بكل أمانة وإخلاص, وكيف شهد له أمام ولاة وملوك, وكتاباته في رسائله الأربعة عشر تعلن بكل وضوح أن غرض حياته الأول، بل الأوحد، إرضاء الله وليس الناس. فيقول «أَ فَأَسْتَعْطِفُ الآنَ النَّاسَ أَمِ اللهَ؟ أَمْ أَطْلُبُ أَنْ أُرْضِيَ النَّاسَ؟ فَلَوْ كُنْتُ بَعْدُ أُرْضِي النَّاسَ لَمْ أَكُنْ عَبْدًا لِلْمَسِيحِ» (غل 1: 10).
وقد كان مثالاً للاتزان الرائع، فلم يتطرف في الاتجاه الآخر فلا يبالي بالناس, أو خلفياتهم, أو مشاعرهم بل يقول «كونوا بلا عثرة لليهود, ولليونانيين, ولكنيسة الله. كما أنا أيضًا أُرضي الجميع في كل شيء غير طالب ما يوافق نفسي بل الكثيرين لكي يخلصوا» (1كو10: 32، 33). ثم يعطينا الرسول مُفتاح الاتزان في هذا الأمر بل في كل أمر فيقول: «كونوا متمثلين بي كما أنا أيضًا بالمسيح» (1كو11: 1).
من هذا نتعلم أننا ينبغي علينا أن نفحص دوافعنا جيدًا وراء كل تصرف، بل وكل كلمة نتفوه بها. وأعتقد أننا سنجد أن كثير منها كان غرضه إرضاء الناس على حساب الحق. بل حتى في ٍخدمة الرب من الممكن أن تكون هناك مجاملات من أجل إرضاء الناس على حساب الحق, كأن نوافق على وضع لا يتفق مع كلمة الله لكي لا نُغضب الإخوة، أو لكي نحظى بكلمة مديح من الٍبعض. لذلك ما يحفظنا من هذه الخطية, بل وأي خطية أخرى هو التمسك بالمكتوب بكل تدقيق، لا كجهلاء بل كحكماء. والتمثل بشخص الرب الحبيب المكتوب عنه إنه لم يرضِ نفسه, لكن كانت شريعة إلهه في وسط أحشائه؛ فعاش لمجد الله، حتى أن السماء شهدت عنه أكثر من مرة أن الله الآب وجد فيه كل السرور، بل كان هو الوحيد في كل التاريخ الذي استطاع بعد حياة قصيرة لم تتعدَّ ثلاثة وثلاثون عامًا ونصف أن يرفع عينيه إلى السماء ويقول للآب: «أنا مجدتك على الأرض». وفي علاقته - تبارك اسمه - مع الناس, لم يكن هناك من هو أرقّ, أو أحنّ منه, فكان الخطاة والعشارون يقتربون منه فيجدوا عنده القبول والحب الذي لم يجدوا له مثيل عند إنسان آخر. لكن في الوقت نفسه كان يتعامل بكل حزم مع الذين كانوا في الهيكل يبيعون بقرًا, وغنمًا, وحمامًا فصنع صوتًا من حبال وطرد الجميع من الهيكل.
وفي كل المواقف التي يعوزنا الوقت لكي نتأمل فيها كان مثالاً للاتزان الكامل, فعاش حياته لمجد الله تمامًا وهو الذي قال: «لأني في كل حين أفعل ما يرضيه» (يو8: 29). وفي نفس الوقت عاش محبًّا مترفِّقًا بالناس, فلم يجرح مشاعر إنسان بكلمة, وأيضًا لم يُجامل أو يحاول أن يُرضي أحد على حساب الحق. فهو - له المجد - النموذج الأسمى الذي يستحق بكل تأكيد أن نقتفي خطواته, ونتمثل به فنختبر الحياة المنتصرة التي تمجد الله.