أحبائي القراء:
لقد كشفت الساعات الأخيرة في حياة ربنا المحبوب هنا على الأرض عن كيفية قتله، وأيضًا عن كيفية إكرامه!
ونحن، اليوم، وبعد مرور ما يقرب من ألفي عام على صلبه، علينا أن نختار أين نقف:
في صف من أكرموه؟
أم في صف من قتلوه؟
نقف في صف من أكرموه إن انتهجنا نهجهم، وصممنا على التحلي بالفضيلة الواحدة التي جعلتهم يكرموه، ألا وهي الحب له. الحب الذي هو صدى لحبِّه، والذي جعل شخصه المبارك كل شيء بالنسبة لهم. وإنني على يقين أن كل خدماتنا وأنشطتنا الكنسية، بل وحتى عبادتنا الجماعية، لا قيمة لها البتة في عينيه إن لم تكن نابعة من الحب له، والحب له فقط دون أي شيء آخر.
ونحن نقف في صف من قتلوه إن انتهجنا نهجهم، وتركنا أنفسنا تحكمنا نفس الدوافع الجسدية التي دفعتهم لقتله! وإذا راجعنا بالتدقيق قصة صلب المسيح، لا باعتباره مسلَّمًا بمشورة الله المحتومة وعلمه السابق، لكن باعتباره البار الذي قُتل بسبب شرِّ الناس وظلمهم؛ سنكتشف أن الدوافع الشريرة التي دفعتهم لقتله كانت أربعة:
فيهوذا الخائن أسلمه لرؤساء الكهنة بسبب محبة المال!
ورؤساء الكهنة الأشرار أسلموه لبيلاطس بسبب الغيرة والحسد!
وجموع اليهود، الجهَّال الذين قبلوا تحريض وتهييج رؤساء الكهنة، طالبوا بقتله بسبب خضوعهم لتغييب العقل!
وبيلاطس الظالم أسلمه ليُصلب لأنه أراد إرضاء الناس!
وبما أن هذه الخطايا الأربعة تسبَّبت في أكبر جريمة عرفها التاريخ البشري، فإنني لا أتردد في أن أدعوها: ”الكبائر الأربع“. وهنا قد يسأل سائل: هل في الخطايا كبائر وصغائر؟
أقول: إننا إذا نظرنا للخطايا من جهة جوهرها باعتبارها التعدي على الله وناموسه، أو إذا نظرنا إليها من جهة عقوبتها القانونية والتي هي الموت؛ فبالطبع لا توجد كبائر أو صغائر. هذا لأن أي خطية هي تعدّي، وأجرة أي خطية هي الموت. لكن إن نظرنا للخطايا من حيث دوافعها ونتائجها؛ فحتمًا يمكننا القول: هناك كبائر وصغائر. هذا ما صلى داود من أجله حين قال «اَلسَّهَوَاتُ مَنْ يَشْعُرُ بِهَا؟ مِنَ الْخَطَايَا الْمُسْتَتِرَةِ أَبْرِئْنِي. أَيْضًا مِنَ الْمُتَكَبِّرِينَ احْفَظْ عَبْدَكَ فَلاَ يَتَسَلَّطُوا عَلَيَّ. حِينَئِذٍ أَكُونُ كَامِلاً وَأَتَبَرَّأُ مِنْ ذَنْبٍ عَظِيمٍ» (مز19: 12،13).
والكل يجمع، من سياق الكلام، على أن داود وهو يقول: «أيضًا من المتكبرين احفظ عبدك» لم يكن يقصد أشخاصًا متكبرين؛ بل خطايا كبيرة. وهي خطايا عكس الخطايا السهو التي قد يسقط فيها الإنسان بسبب عدم الحذر والسهر، وعكس الخطايا المستترة التي قد يسقط فيها الإنسان بسبب عدم اكتشافه لوجودها في داخله وبالتالي لم يتُب عنها. وعليه تكون الكبائر هي تلك الخطايا التي يرتكبها صاحبها وهو واعٍ وعالم بها.
وإذا اعتمدنا هذا المقياس للكبائر فهل هناك كبيرة ارتُكِبَت في تاريخ الجنس البشري أبشع من خطية صلب المسيح؟ لذا لا أراها مبالغة مني أن أدعو إلى كُرهٍ خاص، بل وإلى الاشمئزاز من هذه الخطايا الأربع بالذات، وتسميتها بالكبائر الأربع؛ إذ أنها هي التي لطخت جبين الجنس البشري بالعار.
وربما كنا لا نهتم بالتوقف عند هذه الخطايا لو كانت مجرد تاريخ وانتهى؛ لكن المخيف في الأمر هو أن قلوبنا، التي تحبّه وتبغي إكرامه، تحتوي بين جنباتها نفس هذه الخطايا التي دفعت هؤلاء القتلة إلى قتله!
إنها ليست بعيدة عنا، بل هي قريبة جدًا منا!
إنها ليست فقط ساكنة في قلوبنا، بل تظهر كل يوم في حياتنا، ودون أن نستشعر بشاعتها في عيني الله باعتبارها هي التي تسببت في صلب ابنه!
إننا بالطبع لن نفعل فعلتهم لأن المسيح لن يموت ثانية، لكن المشين هو أن نرى نفس الخطايا التي أدّت بهم إلى قتله تنتشر اليوم بيننا كمؤمنين، بينما كان ينبغي أن يكون مجرّد ذكرها مُرٌّ كالحنضل لأفواهنا وطاعن كالخنجر لقلوبنا؛ كيف لا وهي التي تسبّبت في قتل محبوب قلوبنا.
لذا خصصنا هذا العدد للحديث عن تلك الفضيلة الواحدة، ألا وهي الحب له، لعل الرب يشعله نارًا في قلوبنا لننتفض من نومنا ونركض في طريق القداسة والتكريس الحقيقي له. وللحديث أيضًا عن تلك الكبائر الأربع التي أدّت لصلبه؛ لعل الرب يملؤنا بالإشمئزاز منها فتخلص حياتنا وكنائسنا من رائحتها الكريهة ومن نتائجها المريعة.