عدد رقم 5 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الفتاة والإمبراطور  

 

كم من المرات اشتقنا إلى توكيد حضور الله في لحظات بدا فيها كأنه غائب أو غير مبالٍ!  وكأننا نصرخ ذات صرخة التلاميذ: «أَمَا يَهُمُّكَ أَنَّنَا نَهْلِكُ؟».  ولكن بمرور الوقت نُدرك أنه وراء معاملاته المتجهّمة، يُخفي ملامح وجه متَبسّمة!  وأننا وإن كنا لا نرى سوى آثار خطوات شخص واحد، فهي ذات خطواته هو إذ يسير بنا، يحملنا في حضنه وعلى منكبيه.  وهذا هو الدرس الرئيسي الأول في سفر أستير، فالله وإن لم يُذكَر اسمه مرة واحدة بطول السفر، إلا أن أصبعه كان يكتب على مكلسِ كل حائطٍ هُناك! 

 

أما عن الدرس الثاني فيلخّصه التعبير الذي ربما سمعناه من قبل: "الرجل المناسب لهذا العمل هو امرأة"!  وهكذا سوف تخرج لنا أستير جديدة كلما عملت يد الله القوية مع طاعة امرأة تقية.

 

بدأ السفر بوليمة عظيمة عملها الملك أحشويرش في السنة الثالثة لمُلكه (أس١: ٣)، والتي انتهت بعزل الملكة وشتي.  وفي السنة السابعة لمُلكه (أس ٢ :١٦) أي بعد أربع سنوات، بدأ البحث عن فتيات عذارى حسنات المنظر لتعيين ملكة جديدة مكان وشتي.  وكأن هذه الأحداث كلها تأخرت حوالي ٧ سنوات كان الله فيها يعدّ أستير إعدادًا جيدًا روحًا ونفسًا وجسدًا.

 

وإن بدأ الإعداد لميس فارس Miss Persia بسنة كاملة من التزيين لصقل المظهر الخارجي وتعزيز الجمال الجسدي، إلا أن الله كان يُعِدّ أستير - في الخفاء - إعدادًا أعمق لإكسابها جمالاً داخليًا، مما تطَلّبَ وقتًا وعملاً فاق ذلك الوقت بكثير.  وهو - في النهاية - ما ميّزها عن سائر الفتيات، إنه ذلك الجمال الذي طلبه كاتب المزمور:  "وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ ٱلرَّبِّ (جمال الرب) إِلَهِنَا عَلَيْنَا".  وبالفعل لو أردنا وصفا لهذه الفتاة لا يختلف عليه اثنان سيكون أنها "الفتاة التي وجدت نعمة في عيني كل من رآها".  "وَكَانَتْ أَسْتِيرُ تَنَالُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْ كُلِّ مَنْ رَآهَا" (أس ٢ : ١٥).

"واَلْمَرْأَةُ ذَاتُ ٱلنِّعْمَةِ تُحَصِّلُ كَرَامَةً" (أم ١١ : ١٦)، بل غنى وكرامة ممن قال: "عِنْدِي ٱلْغِنَى وَٱلْكَرَامَةُ. قِنْيَةٌ فَاخِرَةٌ وَحَظٌّ .. لِأَنَّهُ مَنْ يَجِدُنِي يَجِدُ ٱلْحَيَاةَ، وَيَنَالُ رِضًى مِنَ ٱلرَّبِّ" (أم ٨ : ١٨ & ٣٥)، وهذا هو السر؛ فإذ وجدت أستير رضى من الرب، نالت نعمة وإحسانًا في عيني الملك الذي رضاه كالطل على العشب، وكسحاب المطر المتأخر.

أليس هذا هو ما جاد به الله على شعبه في أيام سبيهم؟  "إذ أَعْطَاهُمْ نِعْمَةً قُدَّامَ كُلِّ ٱلَّذِينَ سَبَوْهُمْ" (مز ١٠٦ : ٤٦).

 

وبالتأمل في قصة أستير ندرك حقًا أن نعمة الله ولا سواها هي الوحيدة القادرة أن ترتقى بالحال هكذا من الأرض للسماء. هكذا حمل معنى اسميها، فمن الاسم هدسة بدأت، وإلى الإسم أستير انتهت، وهناك وقعت أحداث حياتها في المسافة من شجيرة الآس العطرية الصغيرة إلى الكوكب اللامع على خلفية أيام السبي المظلمة.  فهي بنت أبيحائل أي أبو الاحتمال والشجاعة، لكن مات أبوها، وربما كان كل دوره أن يورث صفاته الرائعة - التي حملها معنى اسمه - لابنته.  وماتت أمها أيضًا وكأن كل دورها في الحياة أن تكون رحمًا احتضن جنينًا جميلاً وحُضنًا احتضن طفولتها المبكرة!  وقد يكون هذا هو كل دوري في الحياة أنا أيضًا، أن أُنجب ابنة جميلة لله! 

من هنا بدأت قصة هذه الآسة، في حمي الرجل الواقف بين الآس "متكلمًا بِكَلَامٍ طَيِّبٍ وَكَلَامِ تَعْزِيَةٍ" (زك ١ : ١٣).

وهكذا انتهت قصتها كملكة عظيمة تكتب رسائل محملّة بِكَلَامِ سَلَامٍ وَأَمَانَةٍ (أس ٩ : ٣٠).

 

وبينما تهافتت الفتيات على دخول مسابقة الجمال هذه، يُلفت نظرنا العبارة الصغيرة التي جاءت مرتين "أُخِذَت أستير" وكأنها أُخذت عنوة أو أُرغمت على الذهاب، فمن الواضح أن جمالها لفت الأنظار، بينما كان البحث جاريًا.  لكن وسط خضم بذخٍ لا مثيل له، ظهر تواضع أستير واكتفاؤها وأصالتها، ذلك بطاعتها لمربيها مردخاي ولهيجاي المُكلّف بحراستها.

 

إلى هنا كان يمكن أن تنتهي قصة أستير بالنسبة لنا، فنحكيها كقصة رائعة لفتاة يتيمة الأبوين، عوّضتها العناية الإلهية بأروع ما يكون، فصارت ملكة عظيمة، ومع ذلك ظلت تعمل كقول ابن عمها كما كانت في تربيتها عنده!

لكن بالنسبة لله، الأمر يتعدى ذلك بكثير، فلله قصة عظيمة يُسَّر بأن يضع أشخاصنا فيها.  نعم صارت أستير ملكة، لكنها للآن - ولمدة خمس سنوات - لم تكن قد فعلت شيئًا لله!  لذا لم تنته قصتها ولم تنته قصتك أنتِ أيضًا أيتها القارئة العزيزة إن كنتِ لم تفعلي شيئًا لله بعد!  فالحياة الحقيقية التي تستحق أن تُعَاش هي تلك التي نحياها لله، وأعمارنا الحقيقية تُقَاس ربما بالساعات والدقائق التي عشناها، عاملين مع الله.

 

وبينما لدى الله طرق أخرى وأشخاص آخرون لإتمام مقاصده، لكن إن دعانا أنا وأنتِ لوقتٍ مثل هذا، فكم تكون خسارتنا كبيرة إن تغافلنا عن الوقوف في تلك الساعة!  فهل نحن حاضرات مستعدات للقيام بما هو صائب مهما كانت العواقب؟!

هذا هو لُب قصة أستير، السؤال الذي سأله لها مردخاي:

"وَمَنْ يَعْلَمُ إِنْ كُنْتِ لِوَقْتٍ مِثْلِ هَذَا وَصَلْتِ إِلَى ٱلْمُلْكِ؟" (أس ٤ : ١٤).

لقد عملت أستير - في قصرها - كل ما عندها بالتاج الذي على رأسها، لقد وضعت نفسها في كفها في سبيل شعبها، فاستخدمها الله لإنقاذهم من عدوهم القديم (أجاج) الذي ظهر لهم باسم جديد (هامان).

وهكذا أيضًا فعلت ياعيل بأدوات خيمتها، بقصعتها ولحافها، وطابيثا بخيطها وإبرتها، ومريم بقارورة طيبها، وكثيرات غيرهن، عملن ما عندهن. 

تُرى، هل تعلّمنا تمييز اللحظات المواتية، واستخدام الإمكانيات المُتاحة التي وضعها الله بين أيدينا لإنجاز مقاصده؟

 

وأخيرًا، قصة أستير هي قصة انتصار بعد انكسار، وأفراح بعد أتّراح.  وعلى غرارها يمكن أن تكون قصتكِ أنتِ أيضًا - أيتها القارئة العزيزة - إن سلمتها - عن طيب خاطر - بين يدي الوحيد الذي يعرف أن يُخرِج من الأكل أُكلاً ومن الجافي أيضًا حلاوة.

                                                                                                                                     

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com