عدد رقم 4 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
لقطات من حياة راعوث الموآبية  

من أفضل الطرق لتتبع قصة راعوث، النظر إليها من خلال لقطات متتالية تتضح فيها سمات شخصيتها، والمعاني المختلفة لاسمها.

فأول لقطة لها علي الطريق من موآب لبيت لحم، تسير بجوار حماتها نعمي، التي كانت قد اتخذت نفس الطريق ذهابًا قبل عشر سنوات - برفقة زوجها وابنيها - هربًا من الجوع في أرضهم، فماتوا هناك.

ويُقال إن هذا المشوار يستغرق حوالي عشرة أيام.  فكلما طالت مدة الابتعاد، كلما طال مشوار الرجوع!  «كَعَدَدِ ٱلْأَيَّامِ ٱلَّتِي تَجَسَّسْتُمْ فِيهَا ٱلْأَرْضَ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، لِلسَّنَةِ يَوْمٌ.  تَحْمِلُونَ ذُنُوبَكُمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً فَتَعْرِفُونَ ٱبْتِعَادِي» (عد١٤: ٣٤).

ثم سَمعت نُعمي أن الله افتقد شعبه ليعطيهم خبزًا، فكان هذا سببًا كافيًا لها لترجع لأرضها.  لكن لِمَ عادت معها راعوث التي لم يعوزها الخبز في أرضها؟!  وهنا نرى أول معنى لاسمها: ”صداقة“، فلقد أحبت حماتها، ولصقت بها، وكانت خير لها من سبعة بنين.

إلا أن هناك معنى آخر لاسمها وهو: ”لها راعي“.  وها قد وجدت الراعي المنشود في إله نُعمي، الراعي الذي يكسر رِجل شاته الضالة ليُعيدها عن شرودها، ومن ثَم يجبرها جبرًا صحيحًا.  فالقدير الذي كسَّر نُعمي، هو نفسه الذي تغنت به العذراء: «لِأَنَّ ٱلْقَدِيرَ صَنَعَ بِي عَظَائِمَ» (لو١: ٤٩). 

ولكن لِمَ الاختلاف في معاملة القدير بين مريم ونُعمي؟!  والجواب في تكملة كلمات المطوَبة: «ٱسْمُهُ قُدُّوسٌ»، «فِي ٱلْقَرِيبِينَ مِنِّي أَتَقَدَّسُ» (لا١٠: 3)، «هُوَذَا طُوبَى لِرَجُلٍ يُؤَدِّبُهُ ٱللهُ.  فَلَا تَرْفُضْ تَأْدِيبَ ٱلْقَدِيرِ.  لِأَنَّهُ هُوَ يَجْرَحُ وَيَعْصِبُ.  يَسْحَقُ وَيَدَاهُ تَشْفِيَانِ» (أي5: 17، 18).

أرجَع الرب نُعمي، فرجعت معها الشاة الضالة إلي راعي نفسها وأسقفها؛ رجعت راعوث من الأوثان لتعبد الله الحي الحقيقي «لِأَنَّهُ بِرُجُوعِكُمْ إِلَى ٱلرَّبِّ يَجِدُ إِخْوَتُكُمْ وَبَنُوكُمْ رَحْمَةً ... لِأَنَّ ٱلرَّبَّ إِلَهَكُمْ حَنَّانٌ وَرَحِيمٌ، وَلَا يُحَوِّلُ وَجْهَهُ عَنْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِ» (٢أخ٣٠: 9).

بعدها لقطة لمدينة بيت لحم تتحرك لوصولهما، متسائلين في اندهاش: «أَهَذِهِ نُعْمِي؟»
وإن كانت عشرة أعوام غياب كفيلة بتغيير شكل أي امرأة، فكم بالحري عشرة أعوام غياب عن المكان الصحيح؟! 
«فَقَالَتْ لَهُمْ: لَا تَدْعُونِي نُعْمِيَ بَلِ ٱدْعُونِي مُرَّةَ، لِأَنَّ ٱلْقَدِيرَ قَدْ أَمَرَّنِي جِدًّا.  إِنِّي ذَهَبْتُ مُمْتَلِئَةً وَأَرْجَعَنِيَ ٱلرَّبُّ فَارِغَةً.  لِمَاذَا تَدْعُونَنِي نُعْمِي، وَٱلرَّبُّ قَدْ أَذَلَّنِي وَٱلْقَدِيرُ قَدْ كَسَّرَنِي؟».

ويلفت النظر في وصف نُعمي لحالها أنه نفس ما قِيل عن قضاء موآب الذي استراح في لامبالاته وعجرفته، فلم يهتم للتأديب «وَأُرْسِلُ إِلَيْهِ مُصْغِينَ فَيُصْغُونَهُ، وَيُفَرِّغُونَ آنِيَتَهُ، وَيَكْسِرُونَ أَوْعِيَتَهُمْ.  لِأَنِّي قَدْ حَطَمْتُ مُوآبَ كَإِنَاءٍ لَا مَسَرَّةَ بِهِ، يَقُولُ ٱلرَّبُّ» (إر٤٨: ١١-١٢، 38).

ثم بعدها لقطة لراعوث في حقل بوعز «فَٱتَّفَقَ نَصِيبُهَا فِي قِطْعَةِ حَقْلٍ لِبُوعَزَ ٱلَّذِي مِنْ عَشِيرَةِ أَلِيمَالِكَ»، حيث قادها الله فهو مَن «يُعَلِّمُ ٱلْخُطَاةَ ٱلطَّرِيق ... وَيُعَلِّمُ ٱلْوُدَعَاءَ طُرُقَهُ».

وهنا نراها امرأة فاضلة «تَشْتَغِلُ بِيَدَيْنِ رَاضِيَتَيْنِ ... وَلَا تَأْكُلُ خُبْزَ ٱلْكَسَلِ ... قَلِيلًا مَّا لَبِثَتْ فِي ٱلْبَيْتِ (في الظل)».  وهناك التقت بوعز الذي نصحها نصيحة تربط كل مالها بكل ماله!  أذنيها، عينيها، فمها، يديها، رجليها، جسدها كله، وإرادتها به وبحقله، حصاده ومائه، فتياته وغلمانه.

«أَلَا تَسْمَعِينَ يَا بِنْتِي؟ لَا تَذْهَبِي لِتَلْتَقِطِي فِي حَقْلِ آخَرَ، وَأَيْضًا لَا تَبْرَحِي مِنْ هَهُنَا، بَلْ هُنَا لَازِمِي فَتَيَاتِي.  عَيْنَاكِ عَلَى ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي يَحْصُدُونَ وَٱذْهَبِي وَرَاءَهُمْ ... وَإِذَا عَطِشْتِ فَذْهَبِي إِلَى ٱلْآنِيَةِ وَٱشْرَبِي مِمَّا ٱسْتَقَاهُ ٱلْغِلْمَانُ».

وهذا هو التكريس الحقيقي، أن يرتبط كل ما لنا بما لبوعزنا الحقيقي، وهو رد فعلنا تجاه النعمة التي حصلنا عليها منه.

«فَسَقَطَتْ عَلَى وَجْهِهَا وَسَجَدَتْ إِلَى ٱلْأَرْضِ وَقَالَتْ لَهُ: كَيْفَ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ حَتَّى تَنْظُرَ إِلَيَّ وَأَنَا غَرِيبَةٌ؟».  وإذ كلمها «بِكَلَامٍ طَيِّبٍ وَكَلَامِ تَعْزِيَةٍ ... قالت: لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي لِأَنَّكَ قَدْ عَزَّيْتَنِي وَطَيَّبْتَ قَلْبَ جَارِيَتِكَ، وَأَنَا لَسْتُ كَوَاحِدَةٍ مِنْ جَوَارِيكَ».

ثم أعطي الأوامر بخصوصها: «وَلَا تُؤْذُوهَا (لا تعيروها - ترجمة داربي)»، كسَيِّده «ٱلَّذِي يُعْطِي ٱلْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلَا يُعَيِّرُ» (يع١: ٥).

«وَأَنْسِلُوا أَيْضًا لَهَا مِنَ ٱلشَّمَائِلِ (أوقعوا لها من الحزم الجيدة عن قصد) وَدَعُوهَا تَلْتَقِطْ وَلَا تَنْتَهِرُوهَا».

«فَٱلْتَقَطَتْ فِي ٱلْحَقْلِ إِلَى ٱلْمَسَاءِ، وَخَبَطَتْ مَا ٱلْتَقَطَتْهُ فَكَانَ نَحْوَ إِيفَةِ شَعِيرٍ»؛ وهو عشرة أضعاف ما تحتاجه.

«عُمِرًا لِلرَّأْسِ ... وَأَمَّا ٱلْعُمِرُ فَهُوَ عُشْرُ ٱلْإِيفَةِ» (خر16: 16، 36).

«فَحَمَلَتْهُ وَدَخَلَتِ ٱلْمَدِينَةَ.  فَرَأَتْ حَمَاتُهَا مَا ٱلْتَقَطَتْهُ.  وَأَخْرَجَتْ وَأَعْطَتْهَا مَا فَضَلَ عَنْهَا بَعْدَ شِبَعِهَا».

فلم تكن ممن قيل عنهم: «جَائِعِينَ يَحْمِلُونَ حُزَمًا» (أي٢٤: ١٠).

بل كان عطاؤها عطاءًا بعد شبع، وفيضًا بعد ارتواء، من كأس ريّا قد امتلأ، ففاض على الآخرين!

ثم: «وَسَكَنَتْ مَعَ حَمَاتِهَا!»

وبينما سكنت راعوث مع حماتها قبل هذا بوقتٍ طويل، لكن ربما يعني أنها اكتفت بهذا النوع من الحياة.  وهو معنى آخر من معاني اسمها: ”مكتفية“.

لقد اكتفت برؤية وجه بوعز والشبع بالفريك من يديه، والشرب مما استقاه غلمانه، والالتقاط في حقله وراء حصادينه، وبين فتياته.  ورأت في هذا كله نعمة عظيمة تسامت لموآبية غريبة، فلم تطمح لأكثر من ذلك .. فاستقرت وسكنت على هذا الوضع!

إلا أن النعمة كانت قد أعدت ما هو أفضل من ذلك بكثير!  أليس هذا ما حدث مع أم بوعز نفسه!

«وَٱسْتَحْيَا يَشُوعُ رَاحَابَ ٱلزَّانِيَةَ وَبَيْتَ أَبِيهَا وَكُلَّ مَا لَهَا، وَسَكَنَتْ فِي وَسَطِ إِسْرَائِيلَ» (يش٦: ٢٥).

لكن تفاضلت النعمة جدًا، فسكنت راحاب مع سلمون، وراعوث مع بوعز، لينتهي الأمر باسميهما في سلسلة نسب المسيح له المجد!  فيالها من نعمة تفيض بالإحسان، إنّا وهذا أصلنا، لنا هنا مكان!

بعدها لقطة لنعمي وها قد عادت لمكانها الصحيح لتتكلَّم بكلام الصحو والصدق فتُطمئن راعوث قائلة:  «فَٱلْآنَ أَلَيْسَ بُوعَزُ ذَا قَرَابَةٍ لَنَا؟»؛ وهو سؤال يصلح أن يكون الإجابة عن كل سؤال آخر!

ثم قُرب نهاية القصة، لقطة لراعوث في بيدر بوعز وهو يمتدح عملها في الماضي، ويسكّن مخاوفها في الحاضر، ويعطيها ضمانًا للمستقبل!  (را٣: ١٠-١٣)

ولقطة قبل الأخيرة لبوعز الولي الفادي، صاعدًا إلى الباب، حيث اشترى راعوث لنفسه هناك. 

وتُختَم القصة بلقطة أخيرة لراعوث في بيت بوعز مكتظ بالجارات، يباركن الله الذي لم يعدم نُعمي وليًا، رمّم نفسها وأعاد بناءها.

«فَأَخَذَتْ نُعْمِي ٱلْوَلَدَ وَوَضَعَتْهُ فِي حِضْنِهَا وَصَارَتْ لَهُ مُرَبِّيَةً»؛ لقد عاد الحضن الفارغ وامتلأ بأحلى ما يكون، بالطفل عوبيد الذي من نسله جاء المسيح له المجد!

«إنْ رَجَعْتَ إِلَى ٱلْقَدِيرِ تُبْنَى ... يَكُونُ ٱلْقَدِيرُ تِبْرَكَ وَفِضَّةَ أَتْعَابٍ لَكَ، لِأَنَّكَ حِينَئِذٍ تَتَلَذَّذُ بِٱلْقَدِيرِ وَتَرْفَعُ إِلَى ٱللهِ وَجْهَكَ» (أي٢٢: ٢٣–٢٦).

وإن بدأ سفر راعوث في الأيام المظلمة لحكم القضاة، لكنه انتهى بذكر داود الذي منه جاء القاضي العادل والمخلص الحقيقي.  ودائمًا ما تنتصر النعمة في النهاية!


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com