عدد رقم 4 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
غبار الطريق ونسيم القمم  

السفر في البراري لا يخلو من صفعات الغبار الذي يخنق الصدور، ويحجب الرؤية، فيعوق المرور، ويزيد من مشقة الارتحال.  كم يكون مؤذيًا عندما يأتي على المواقع الجميلة في حياتنا!  حين تشتد العواصف فتحمله الرياح إلى جنيناتٍ اعتدنا أن نقضي فيها أطيب الأوقات، فيعكر ماءها الصافي.  لكن ليس هكذا الحال على قمم الجبال، فهناك تتعلل النفس بالنسيم اللطيف، المحمل بالندى الطيب الذي يلاطف الوجوه التي لفحتها حرارة الظهيرة في الأودية.  هناك في القمم تمتلئ الصدور بالهواء المنعش النقي، بعيدًا عن أدخنة وأتربة الوادي المزدحم، وتستريح القلوب المتعبة، كما تتجدد القوى وتتشدد الهمم.

الرب في نعمته يرتب لنا أوقاتًا طيبة فيها يسمو بنا فوق قمم الشركة الهانئة والهادئة معه، حيث تنتعش نفوسنا بنسيم حديثه الرقيق وابتسامة محياه البهي، فيهون علينا مشقات السفر، وننال المزيد من زاد ومعونات الطريق.  كما نحظى بأوقات حلوة مع الأحباء من معشر الإيمان، الأتقياء الأفاضل العابرين معنا، فنتشجع ونتمتع معًا بشركة المحبة النقية العديمة الرياء.  إن حلاوة الصحبة تُبدد مرارة الغربة، وتُهوّن علينا كدر العيش ومتاعب الأشرار.

 هذه المقالة تضع أمامنا بعض محطات الراحة التي يرتبها الرب لنا.  إن الوسائط المباركة التالية ليست جديدة على معظم المؤمنين، لكنْ الرب من حين لآخر يُنهض بالتذكرة أذهاننا النقية، لنضع في قلوبنا أن نواظب على ممارستها فتنتعش الحياة بها وتهون علينا مشقات الارتحال في أرض غربتنا.

(1) الخلوة الفردية مع الرب بصورة يومية:

الخلوة هي جلسة هادئة مع أعز وأعظم شخص وهو الرب يسوع المسيح.  في ظله تهدأ وتستريح نفوسنا المضطربة والمتعبة وتنتعش أرواحنا بجمال وكمال صفاته التي تأسر القلب، بعيدًا عن ضجيج العالم ومشغوليات الحياة.  فيها نُكلّمه بالصلاة، وفيها نسمع همسات حبه في قلوبنا ونشبع بكلامه الطيب، ونتشجّع بمواعيده الثمينة، ونتحذَّر بوصاياه الأمينة.  أدركت مريم حلاوتها وروعتها ”فَجَلَسَتْ عِنْدَ قَدَمَيْ يَسُوعَ وَكَانَتْ تَسْمَعُ كَلاَمَهُ“ (لو١٠: ٣٩).  ليتنا لا نهمل في صرف التموين اليومي الذي يُعيننا ويُقوينا.  وهل يوجد نصيب في هذه الحياة أعظم وأطيب من ذلك؟  لا شيء يغسل الذهن الملوث، ويُهدئ القلب المضطرب، ويرسم ابتسامة بين الدموع رغم مكدرات الحياة، سوى قضاء وقت شخصي مع الرب كل يوم.  ما أطيب اليوم الذي يفتتح بهذا اللقاء الشخصي المجيد!  قال واحد: ”إذا رأيت شجرة ناضرة مثمرة، وأردت أن تعرف سبب نضارتها وإثمارها، لا بد أن يذهب فكرك إلى خصوبة التربة التي تختفي فيها جذورها“.

(2) المشاركة في فرص الشركة والزيارات الحبية:

 امتياز  لنا كمؤمنين أن نكون قريبين من بعضنا البعض، وأن نكون مُحاطين بالقديسين والأفاضل.  ما أكرم أن نفتح بيوتنا لإضافة المؤمنين، وما أحلى أن نُشارك في زيارات الافتقاد الراعوية التي فيها نغسل أرجل أحبائنا لننعش نفوسهم المتعبة، وننتعش معًا بممارسة الشركة المُباركة المؤسسة على الحب النقي العديم الرياء.

 عزيزي: إن شعرت بضيق أو كآبة قلب، لا تعتزل وتجلس وحدك حزينًا وكئيبًا، بل اذهب إلى أسرة من المؤمنين تكون قريبة لقلبك، واقضِ وقتًا معهم في حديث طيب، وشاركهم بأخبارك، كي يتحدوا معك في صلاة  للرب الأمين الذي يسمع ويصنع.  إحسان عظيم أن يُحيط أولئك الأفاضل، الذين لهم أحشاء رقيقة كسيدهم بأخيهم المتألم.  كثيرون اجتازوا في تجارب قاسية، وشهدوا أن محبة القديسين تأججت وفاضت بصورة لا توصف، أثناء فترة ضيقهم، ومشاعرهم الرقيقة طالما طيبت خواطرهم المكسورة؛ اختبروا هذا الأمر المبارك، أن يُحاط  الواحد بالمؤمنين الأحباء في ضيقته «الصِّدِّيقُونَ يَكْتَنِفُونَنِي، لأَنَّكَ تُحْسِنُ إِلَيَّ» (مز١٤٢: ٧).  كم يحلو جو الشركة ويطيب حين يدور الحديث لا عن الشر والأشرار، ولا عن المتاعب والأخطار المروعة، الحالية أم  المتوقعة، بل عن الرب وصلاحه وكفايته ونعمته التي تترفق بنا، ويده الرحيمة التي تجتاز بنا في مضايق الزمان، وعن مجيئه الذي صار قريب.

(3) حضور الاجتماع إلى اسم الرب: 

أي وقت أثمن من الوجود في حضرة الرب مع قطيع الرب الغالي!  لا يوجد عذر يمنعنا من التمتع بهذا الامتياز.  لا تذهب إلى الاجتماع وأنت تضع رجاءك على الإنسان مهما كان اسمه أو شأنه، لكن ثبتْ نظرك على الرب.  الرب في أمانته لا يمسك نفسه عن الذين يترجونه، وللنفس التي تطلبه، بل يُسرّ أن يُبارك ويشجع ويبتسم في وجوه الذين يلتمسون وجهه الكريم «هُوَذَا مَا أَحْسَنَ وَمَا أَجْمَلَ أَنْ يَسْكُنَ ٱلْإِخْوَةُ مَعًا! ... لِأَنَّهُ هُنَاكَ أَمَرَ ٱلرَّبُّ بِالْبَرَكَةِ، حَيَاةٍ إِلَى ٱلْأَبَدِ» (مز133: 1-3).  لا تبرر عدم حضور الاجتماعات بأسباب تتعلق بالناس.  بحق محبتك لسيدك الغالي لا تتعلل بالعثرات أو بتقصير إخوتك، ولا تخر بسبب  ضعف الحالة العامة، إنما تشجع بالرب، وكن سبب بركة للآخرين، خاصة إذا سر الرب في نعمته أن يستخدمك في تشجيع وإنهاض إخوتك.  ألم نختبر كثيرًا غمر من التعزيات في اجتماعات خلعت قلوبنا من الأرض وشوقَّتنا للسما؟  إن التمتع بحضور الرب القوي بهذه الصورة لا يتوقف على وجود هذا أو ذاك من الإخوة الروحيين أو الخدام الموهوبين. لا، بل يتوقف على نفوس تأتي إلى محضر الرب واثقة في صدق وعده، ومشتاقة أن تراه وحده.

بِاسْمِكَ نَحْنُ نَجْتَمِعْ
وَأَنْتَ مَعْنَا حَاضِرٌ
إِنْ كَانَ ذَا سُرُورَنَا
فَكَمْ وَكَمْ سُرُورُنَا

 

يَا رَأْسَنَا الْوَحِيدْ
بِشَخْصِكَ الْمَجِيدْ
أَمَامَكَ هُنَا
لَدَيْكَ فِي السَّمَا

(4) المؤتمرات واللقاءات الروحية:

 ما أحوجنا أن نأتي مع إخوتنا إلى مكان هادئ بعيد عن مشغوليات الحياة اليومية، ونستريح قليلًا عند قدمي الرب.  نحن مدينون للرب بالشكر الكثير الذي هيأ لنا أماكن مجهزة ومتسعة، لعقد المؤتمرات المتنوعة لكل الأعمار، والتي تُستخدم بقوة لبنيان وتعزية المؤمنين.  مع أن أيام المؤتمر قد تكون قليلة، لكن يدوم تأثيرها لفترة طويلة.  الأمر ليس مجرد وقت لالتقاط الأنفاس وتجديد الطاقات، ولراحة الأجساد والأذهان من مشاغل الحياة، بل للشركة الحلوة مع الأحباء والتمتع بالرب لبضعة أيام متتالية.  يوجد أحباء ظروفهم تسمح لهم أن يقضوا مع ذويهم أوقات أخرى للاستجمام مع بعضهم البعض كعائلات في مكان ما، ورغم ذلك نجدهم حريصين أن لا يُحرموا من فرص المؤتمرات، لفائدتها الروحية العظيمة.  بيوت المؤتمرات تستحق أن نتضرع للرب من أجلها، لتظل مراعيها خصبة وغنية، لإشباع وإنعاش قطيعه الغالي.

أليست هذه الوسائط المُباركة، واحات مبهجة وسط صحراء العالم ومحطات راحة في رحلة الحياة ننتعش فيها بنسيم القمم بعيدًا عن غبار وضجيج أودية الحياة ومنعطفاتها الضيقة!   إننا راحلون، إن عاجلاً أو آجلاً  سينتهي الارتحال ونصل للبيت المجيد.  دعونا ننتفع إذًا بكل ما رتبه لنا الرب في غنى لطفه، ليهوِّن علينا صعوبة المسير.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com