عدد رقم 6 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
تأملات في تيموثاوس الثانية (ص1: 3 – 7)  

تابع ما قبله

  قبل أن ننهي الحديث عن هذه الفقرة، لا بد من الإشارة إلى جانبين يمسان الحياة العملية:

أولاً:

   إن سكْب بولس لمشاعره في قلب تيموثاوس يُبَيِّن كيف أن المسيح له من المجد الأدبي الفائق ما يجعلنا نسجد له معترفين بسموه عن أفضل القديسين، بما في ذلك بولس، بما لا يُقاس.  وهنا أقتبس فكرة لرجل الله داربي.

   إن تيموثاوس كان رفيقًا لبولس في الخدمة، وبالطبع فإن الرابطة الروحية التي تنشأ بشكل طبيعي بين أولاد الله، بل وشركاء الخدمة، لا بد لها أن تختلط بالعواطف البشرية الطبيعية.  وتلك العواطف ليست خطية، ونشاطها لا يُعد استقلالاً عن الله، لكنها تنشأ نتيجة شعور الطرفين باحتياج كل منهما للآخر.  إلا أننا حين نتكلم عن إنسانية المسيح، فإننا نُجزم بأن هذه العواطف كانت موجودة فيه لأنه إنسان، لكننا نُجزم أيضًا بأنها لم تنشأ فيه لنفس أسباب نشوئها فينا، وذلك ببساطة لأنه الله، فهو لم يكن محتاجًا لأحد حتى يدفعه ذلك الاحتياج لإظهار عواطفه.  على أننا يجب ألا نفهم ذلك بمعنى أنه لم يكن يحزن لجفاء الآخرين معه، لكن حزنه لم يجعله ينحني أو يدخل في دوامة الرثاء للنفس، كما أن إظهاره لهذه العواطف كان فقط من منطلق نعمته الفياضة.

   هذا الجانب من الحق المختص بناسوت المسيح تناوله الروح القدس في الرمز عندما منع اليهودي من وضع العسل على تقدمة الدقيق.  نعم، كان من البديهي أن يمنع الخمير الذي يشير إلى أصل الخطية حتى يحسم نهائيًّا مسألة كون المسيح وُلد بالخطية أم لا.  لكنه أضاف منع وضع العسل على التقدمة (لا2: 11) ليبرز أن ما هو طبيعي فينا كبشر ونابع عن احتياجنا المشروع لعواطف العائلة والأصدقاء، لم يكن موجودًا فيه كاحتياج.  كان يتألم لجفاء الآخرين، لكن كانت شركته مع أبيه كافية جدًا له ليستغني عن مثل هذه العواطف.  بل حتى شعوره بالأمان وهو على ثديي أمه كان نابعًا من اتكاله على الله أبيه وليس من أمه حسب الجسد (مز22: 10،9).  أما آلامه عندما غابت هذه العواطف من أي شخص، في أي موقف، كان بسبب إدراكه أن غيابها ناتج عن القساوة الطبيعية للبشر بسبب دخول الخطية إليهم.  فهو في قداسته لا يشمئز فقط من الخطية، لكنه يحزن أيضًا بسبب رؤيته لنتائجها التي يراها هو بكيفية مريعة تفوق تمامًا نظرتنا نحن لها حتى بعد الإيمان.

   أما بولس فيقول: «ذاكرًا دموعك لكي أمتلئ فرحًا». أي أن امتلاء بولس بالفرح لم يكن سببه الوحيد مشاعر المحبة التي يستطيع الآب أن يغمره بها متى دخل إلى عرش النعمة، لكنه كان يحتاج إلى عواطف القديسين.  بالطبع كان بولس له الشركة مع الآب ومع ابنه، لكن لو أننا نتكلم عن شركة المسيح مع الآب، لمَا كان هناك مجال لأن يكون هناك أي دور لعواطف حلوة أبداها له أحد تلاميذه في إدخال الفرح إلى قلبه.  فالشركة مع أبيه تمنحه فرحًا كاملاً مستديمًا.  لكن هذا حال المسيح كالحياة الأبدية.  صحيح أننا امتلكنا هذه الحياة بالإيمان (يو3: 16)، وصار من نصيبنا أيضًا الشركة مع الآب ومع ابنه، والتي بها يكون لنا الفرح الكامل (1يو1: 4،3).  لكن لا ننسى أن الرسول يوحنا يؤكد في ذات الفصل أن الخطية ما زالت فينا، وذلك لأننا ما زلنا في أجساد الضعف، وهذا يعيق تمتعنا بجو الشركة إلى الحد الذي معه تصبح العواطف الغامرة التي يبديها لنا الآب والابن تغنينا تمامًا عن أي عواطف نحتاجها حتى من القديسين.

   إن الله أبانا في نعمته يتفهم هذا الضعف ويلتمس لنا العذر فيه، ولهذا لم تكن مشاعر بولس هنا موضع لوم من الله، لكن متى رأى الآب أن تعلقنا بشخص أو بأشخاص صار له الأولوية عن تعلقنا به، فإن الآب يتدخل فورًا بمعاملاته الحكيمة ليفطمنا عن هذا الوضع.  وغنيٌّ عن البيان أن هذه المعاملات لا بد أن تحمل لنا شيئًا من الألم.  على أنه لا يفعل ذلك على سبيل عقابنا على هذا التعلق، لكن على سبيل تدريبنا في طرق الكمال أي النضج الروحي، ولعل افتراق تيموثاوس عن بولس كان خطوة في طريق تدريب بولس الرسول في مدرسة الله.

   أخيرًا ربما يسأل سائل: كيف أعرف إن كان تعلقي بشخص ما يزيد على تعلقي بالرب؟  والإجابة تكمن في المحكات العملية التي تظهر ذلك.  على سبيل المثال، أن يكون حضوري الاجتماع متوقفًا على وجود هذا الشخص في الاجتماع، فإذا حضر سأحضر وإذا غاب سأغيب.  قد يكون هذا مقبولاً عند حديثي الإيمان، لكنه ليس مقبولاً بالمرة مع مرور الوقت.  أو أنني أرى نفسي تابعًا لشخص ما بشكل أجد نفسي أنه عندما يشجعني على خدمة معينة مثلاً، فإنني أفعل ذلك دون أن أتأكد من صوت الرب، أو دون أن أتأكد أن ما يشجعني عليه صحيح في ضوء كلمة الله.

  في نهاية هذه النقطة أود أن أقول: إنه ينبغي على كل قديس أن يكف عن الإنسان، فحتى بولس اعتراه هذا الضعف مثلنا ليبقى المسيح وحده متقدمًا في كل شيء.

 

ثانيًا:

   في هذه النقطة أريد أن أعلق على الآية الشهيرة والتي شجعت كثيرين وهي: «لأن الله لم يعطنا روح الفشل بل روح القوة والمحبة والنصح»، على أني قبل أن أسرد تعليقي ينبغي أن أوضح شيئًا تفسيريًّا هامًّا في هذه الآية، وهو أن روح الفشل ليس هو الشيطان، كما أن روح القوة والمحبة والنصح ليس هو الروح القدس.  لكن كلمة "روح" هنا تعني فكر أو توجه، أي أن الرسول يريد أن يقول إن الله أعطانا كل مقومات التفكير الإيجابي نحو خدمتنا له حتى يتسنى لنا أن نواجه بكل قوة ما يعيقنا في الطريق من مشقات الخدمة، وأي تفكير عكس ذلك فليس من الله.

  أما تعليقي أوجزه في سؤال: هل هذا الكلام مطلق؟ أي هل يمكنني استنادًا على هذا النص الكتابي أن أجزم بأن أي تفكير سلبي تجاه شيء ما يعيق طريقي فهو ليس من الله، حتى لو كان ما أصبو إليه يرتبط بالأمور الروحية المقدسة؟ والإجابة بالطبع لا.

  إن الفشل يعني الإقرار بعدم جدوى أي محاولة أخرى للوصول إلى الهدف الذي أسعى إلى تحقيقه.  وهنا دعوني ألقي ضوءًا على هذه المسألة من جهة الأهداف الروحية بمثل واحد في المكتوب.

  ففي (2أخ36: 15 - 21) يخبرنا الكتاب أن الله بعدما أرسل أنبياء كثيرين للشعب لردهم عن شرورهم، رأى أنه لم يكن شفاء، أي لا أمل في الشفاء.  إذًا لقد أعلن الله عدم جدوى إرسال نبي آخر لتبدأ معاملاته القضائية معهم بالسبي.  وهذا ما يجعلنا نضع هذه الآية في موضعها الصحيح، فالرسول يؤكد لتيموثاوس أن خدمته لن تفشل بشرط أن يدرك طبيعة الحالة التي صارت عليها المسيحية.  فلو أنه ظن أن هناك رجاء في عودة الكنيسة إلى وضعها الصحيح كبيت الله بحسب فكر الله، فسيكون مخطئًا، وعليه أن يقر بأنه لا جدوى إذا حاول إرجاع الكنيسة إلى حالتها الأولى، أو إزالة الخمير من العجين بعدما اختمر كله.  لكن ما ينبغي ألا يعتريه الفشل فيه هو من جهة وجود بقية أمينة تحفظ التعليم الصحيح وسط المجموع الذي فشل.  إذًا سيظل البيت الكبير على حاله الرديء، أما الوديعة الصالحة فستُحفظ لا محالة، وهذا ما كان الرسول يريد أن يمهد إليه.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com