عدد رقم 6 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
نعمي في موآب (را 1)  

   كان تصرفًا غير طبيعي أن يذهب رجل من بيت لحم يهوذا ليتغرّب في بلاد موآب، حتى لو كان السبب أنه قد «حدث جوعٌ في الأرض».  قد يتفق هذا مع المنطق البشري، أن يبحث الإنسان عن مكان الراحة والشبع إذا حدث جوع في المكان.  لكن المؤمن لا يتبع المنطق البشري بل الإيمان هو رائده.  هذه الأرض التي سكن فيها أليمالك ونعمي وابنيْهما قال عنها الرب للشعب في سفر التثنية إنه لا يسقيها برِجله مثل أرض مصر، بل عيْن الرب عليها ويعطيها مطرها.  لذلك لا تستخدم قوّتك ولا الموارد الطبيعية، ولكن استند على الرب إلهك.  والحقيقة أنه من أصعب الأمور على المؤمن الاستناد على الرب، وانتظاره، خاصة عندما لا يبدو في الأفق أية موارد بشرية.  ولكن الأساس في قصتنا هذه أنه لا يوجد لنشاط الطبيعة مكانٌ، فنحن في بيت لحم في كنعان، التي تُمثل دائرة السماويات.  ولكي يصل الشعب إلى هذه الدائرة كان عليه أن يعبر بحريْن.  الأول وهم خارجون من أرض العبودية، وهو البحر الأحمر الذي يشير إلى موت المسيح وقيامته لأجلنا (الذي أُسلم لأجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا).  أما الثاني، فهو نهر الأردن.   وكان عليهم عبوره لغرضٍ آخر وهو الدخول إلى دائرة البركات في كنعان.  وعبَر الشعب الأردن من الشرق إلى الغرب.  وعبور الأردن فيه إشارة إلى موتنا وقيامتنا مع المسيح. «أقامنا معًا وأجلسنا معًا في السماويات في المسيح يسوع» (أف2).

   في هذا التعليم نجد المركز السماوي، والذي يتبعه بالتالي مسؤولية تتناسب مع سمو المركز.  ونعني بالمسؤولية السلوك العملي السماوي.  ولكن في قصتنا هذه نرى أن المركز موجود بينما ضاعت المسؤولية، لأن المرأة، التي تمثّل المركز موجودة، بينما مات الرجل الذي يُمثل المسؤولية.  لذلك أصبحت نُعمي، التي تشير إلى المقام، مُرّة.

   نُعمي تعني حلاوة أو مسرة.  ونجد هنا حلاوة المركز، الذي للأسف لم يصحبه التطبيق العملي المُتضمّن في اسم أليمالك (إلهي مَلك) لأن أليمالك قد مات.  ومع موت أليمالك تضيع الحلاوة.  لماذا يا إخوتي الأحباء نجد اجتماعاتنا الحلوة التي يرأسها المسيح كرأس الجسد، ويقودها الروح القدس، تتحول إلى جفاف وأحيانًا إلى مرارة؟ السبب أنه لا يوجد تطبيق لاسم "إلهي مَلك" في سلوكنا وتصرفاتنا ونواحي حياتنا العملية.  لا يوجد خضوع فردي للرب ولا خضوع جماعي.  هذا ما يحدث في بيوتنا وأيضًا في اجتماعاتنا.  فالبيت المسيحي الذي لا يستطيع الرأس فيه ممارسة الخضوع للرب لن يستطيع أن يجعل البيت خاضعًا له.

  عندما أخذ أليمالك زوجته وأولاده وخرجوا إلى أرض موآب كان اتجاههم الجغرافي عكس الاتجاه الذي سلكه الشعب للدخول إلى أرض الموعد، إلى السماويات حيث دائرة البركات، فقد عبر أليمالك وعائلته الأردن ولكن في الاتجاه المعاكس، من الغرب إلى الشرق، وأول محطة واجهتهم كانت موآب.  ومَن هو موآب، وما هو أصله؟  القصة مُدوَّنة في تك 19 وهي قصة مُخزية ومُحزنة، ولكن نعرف أن ابنة لوط الكبيرة أنجبت موآب، والصغيرة أنجبت عمّون.  ومعنى اسم موآب: مثل أبيه.  أي أن موآب مثل لوط الذي يبحث عن الجنّة الخضراء.  ترك لوط إبراهيم-  الرجل السماوي-  ليبحث عن الجنّة الخضراء في سدوم، وهناك لم يكن له شهادة ، ومؤمن بلا شهادة لا لزوم لحياته.  معنى اسم "لوط" هو "غطاء"، وقد عاش هكذا، حياته وأموره مُغطّاة بلا شهادة بلا نور وبلا ثمر، وفي النهاية انتهت حياته في المغارة تحت الغطاء بلا قيمة ولا نفع.  فلنحذر من ترك المكان السماوي الذي فيه نحتاج إلى المطر النازل من فوق ونفتكر في الأرضيات.

   وفي قصتنا هذه كأننا نسمع أليمالك يقول لنعمي:  لماذا نظل هنا في هذه الأرض التي تُمطر أحيانًا وتمنع أحيانًا أخرى؟ من الأفضل أن نذهب إلى أرض موآب.  لكن هل كانت موآب هي الأفضل؟ وهل وجدوا هناك راحتهم المنشودة؟ كلا.  لنتذكر أنه من الأفضل جدًا أن نوجد في المكان الذي فيه نستطيع أن نستمد موارد النعمة من فوق، ولو مع الجوع، عن التواجد في أماكن تفتقر إلى هذا الامتياز، ولو كان فيها شبع.

   وتوجد صفة أخرى مرتبطة بموآب في إر 48 : 11 يقول النبي عن موآب: «مستريح موآب منذ صباه».  يالحظّهِ السعيد! مستريح لا يُعكّر صفوَه نكدٌ أو ضيق.  هذا الصنف من المؤمنين كثير جدًا، لا يُتعبه أو يكدّره ألم، لذلك هو مستقّرٌ على درديّه.  الدرديّ هو الرواسب التي تتجمع في قاع الإناء الذي يُحفَظ فيه الخمر، ولو ظل الخمر على الدردي فسيتشبع برائحة المخلفات فتفسد رائحته.  لذلك كانوا يفرّغون الخمر من الإناء ويتركون الدرديّ، ثم يعيدون الكرة مرة أخري ويفرّغونه في إناء آخر، وهكذا .. عدة مرات حتى تصبح الخمر نقية ذات رائحة جميلة.  هذا ما لم يحدث مع موآب، فقد كان شخصًا مستريحًا منذ صباه، ومستقرًا على درديّه ولم يُفرّغ من إناء إلى إناء، ولم يذهب إلى السبْي، لذلك بقيَ طعمُه فيه ورائحتُه لم تتغيّر.  قصد أليمالك ونعمي وولديْهما أن يهربوا إلى الراحة من المكان الذي فيه تفريغ من إناء إلى إناء.  لكن الرب لا يوافق، في محبته، أن يترك المؤمن بينما رائحتُه القديمة وطعمُه القديم فيه.  إذا رأيت مؤمنًا في دورة التفريغ المُرّة من إناء إلى إناء فلا تظن أنه يخضع لعملية ضارة، أو أنه أسوأ من غيره.  بالعكس فذلك الشخص محبوبٌ جدًا لدى الرب ولذلك ينقّيه من كل الشوائب.  هذا ما حدث بالفعل لنُعمي.  لقد تعامل الرب معها ليقودها إلى بركة.  ليت الرب يحفظنا لكي لا نفشل، ولا نحاول السعْي إلى موآب هروبًا من تدريبات الرب.  الراحة في حياة المؤمن لا تعني أنه في الوضع الصحيح، ولا تفريغه من إناء إلى إناء يعني أن وضْعَه ليس صحيحًا.  لكن هذه التدريبات هي الطريق الصحيح الذي به ينقّينا الرب لكي نكون أكثر نفعًا وأكثر ثمرًا.  ولقد قال الرب: «كل غُصن فيَّ لا يأتي بثمر ينزعه، وكل ما يأتي بثمر ينقيه لكي يأتي بثمر أكثر» (يو15: 2).  وليس كما يظن البعض، "وكل ما يأتي بثمر يتركه كما هو".  فإن كان الرب يتعامل معنا بالتدريبات التي تنقينا فليتنا نخضع له ونعرف قصده.  وعندما يضيّق الرب علينا لا نحاول الهروب إلى موآب، بل ننتظر ونصبر، ونسأل الرب لماذا هذه المعاملات؟  هل تظنون أنه بهروبنا إلى موآب يعفينا الرب من الدرس الذي يريد أن يعلّمنا إياه؟  كلا .. الرب على استعداد أن يعيد الدرس مَرّة ومرات حتى في بلاد موآب، لذلك من الأفضل أن نعفي أنفسنا من مشقة الهروب والالتواء والدوران، ونبقَى في بيت لحم، رغم الجوع، بدلاً من التعرّض لمعاملات أصعب من الجوع، حيث يضطر الرب أن ينقينا ويردّ نفوسنا إلى الفكر الصحيح والمكان الصحيح، وهذا ما حدث مع نُعمي.

     من الجميل جدًا أن نخضع، كما قال الرب: «احملوا نيري عليكم، وتعلّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب، فتجدوا راحة لنفوسكم» (مت11: 29).  إذًا فالراحة الحقيقية ليست أن يحاول المرء تحرير رقبته من النير، بل أن يخضع للنير.  عندما يضعون النير على عنق البقرة، فإنها كلما حركت رأسها في محاولة للتملّص من النير تجرح رأسها وتؤذيها، ولا تستريح إلا عندما تهدأ وتخضع للنير.

    الرب يمنحنا هذه النعمة،  نعمة الهدوء والخضوع والصبر، والتمسّك بأماكننا، منتظرين الموارد الإلهية، غير باحثين عن أية حلول أخرى بعيدًا عن الرب.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com