عدد رقم 6 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أبْطَال وأفْعَال ... ودروسٌ للأجْيَال (17)  

(قراءة في أبْطَال داود)
(2صم23؛ 1أخ11، 12)

تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي يتشارك فيها أبطال داود، وعن مقاييس البطولة الروحية الصحيحة، ونواصل في هذا العدد حديثنا عن:

ثامن عشر: الأبطال الروحيون والقلب الموَّحد التَّام (1أخ12: 34):

«كُلُّ هَؤُلاَءِ رِجَالُ حَرْبٍ يَصْطَفُّونَ صُفُوفًا، أَتُوا بِقَلْبٍ تَامٍّ إِلَى حَبْرُونَ لِيُمَلِّكُوا دَاوُدَ عَلَى كُلِّ إِسْرَائِيلَ.  وَكَذَلِكَ كُلُّ بَقِيَّةِ إِسْرَائِيلَ بِقَلْبٍ وَاحِدٍ لِتَمْلِيكِ دَاوُدَ.  وَكَانُوا هُنَاكَ مَعَ دَاوُدَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ لأَنَّ إِخْوَتَهُمْ أَعَدُّوا لَهُمْ.  وَكَذَلِكَ الْقَرِيبُونَ مِنْهُمْ حَتَّى يَسَّاكَرَ وَزَبُولُونَ وَنَفْتَالِي، كَانُوا يَأْتُونَ بِخُبْزٍ عَلَى الْحَمِيرِ وَالْجِمَالِ وَالْبِغَالِ وَالْبَقَرِ، وَبِطَعَامٍ مِنْ دَقِيقٍ وَتِينٍ وَزَبِيبٍ وَخَمْرٍ وَزَيْتٍ وَبَقَرٍ وَغَنَمٍ بِكَثْرَةٍ، لأَنَّهُ كَانَ فَرَحٌ فِي إِسْرَائِيلَ» (1أخ12: 38-40).

ذكرنا فيما سبق أن الأعداد من 23 إلى نهاية الأصحاح الثاني عشر من سفر أخبار الأيام الأول تُسجِل بعض التفاصيل عن أولئك الذين جاءوا إلى داود إلى حبرون ليُدعموا انتقال السلطة إليه.

وكانت الاحتفالات في حبرون مناسبة عظيمة للفرح والبهجة (ع38-40)، بسبب الموقف الذي تضمنته؛ تمليك داود على كل إسرائيل «حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ» (ع23).

وهؤلاء الذين اجتمعوا «إِلَى دَاوُدَ»، كانوا «رِجَال حَرْبٍ»، وتجمعوا حول داود «بِقَلْبٍ تَامٍّ» (ع38)، وكذلك الذين تخلّفوا في بلادهم «كُلُّ بَقِيَّةِ إِسْرَائِيلَ» الذين قِيلَ عنهم إنهم «بِقَلْبٍ وَاحِدٍ لِتَمْلِيكِ دَاوُدَ».  فيا لأهمية موقف القلب! 

ففي الحالة الأولى، فإن ”القلب التام (Perfect Heart) يُشير إلى أنهم كانوا متماسكين بقوة وراء داود، ولم تكن لديهم أية تحفظات، وكانوا شفافين تمامًا في دوافعهم لجعل داود ملكًا.

أما عن القلب المُوَّحد (One Heart) فيُشير إلى وحدة الغرض من جانب كل الأمة، ولم يسمعوا أحدًا يصدر عنه اعتراض، ولم يكن لأي واحد صعوبة في تقبل الموقف، ولا أحد أبدى اقتراحًا مُغايرًا.  والآن ها قد تكلَّم الجميع وأصبح داود ملكهم.

وينفرد العهد القديم باستخدام عبارة ”قلب تام (Perfect Heart).  لقد صَلَّى حزقيا إلى الرَّبِّ، وقال: «آهِ يَا رَبُّ، اذْكُرْ كَيْفَ سِرْتُ أَمَامَكَ بِالأَمَانَةِ وَبِقَلْبٍ سَلِيمٍ (قلب تام Perfect Heart) وَفَعَلْتُ الْحَسَنَ فِي عَيْنَيْكَ» (2مل20: 3).  وارتجى داود أن يكون له مثل هذا القلب «أَتَعَقَّلُ فِي طَرِيقٍ كَامِلٍ.  مَتَى تَأْتِي إِلَيَّ؟  أَسْلُكُ فِي كَمَالِ قَلْبِي (Perfect Heart) فِي وَسَطِ بَيْتِي» (مز101: 2)، وشجع سليمان ابنه ليكون له القلب التام «وَأَنْتَ يَا سُلَيْمَانُ ابْنِي، اعْرِفْ إِلَهَ أَبِيكَ وَاعْبُدْهُ بِقَلْبٍ كَامِلٍ (Perfect Heart) وَنَفْسٍ رَاغِبَةٍ (A Willing Mind)، لأَنَّ الرَّبَّ يَفْحَصُ جَمِيعَ الْقُلُوبِ، وَيَفْهَمُ كُلَّ تَصَوُّرَاتِ الأَفْكَارِ» (1أخ28: 9).

وبينما لا نجد هذه العبارة في العهد الجديد: ”قلب تام، إلا أن نفس المفهوم موجود فيه، وقد قال الرسول بولس لمؤمني رومية: «وَلَكِنَّكُمْ أَطَعْتُمْ مِنَ الْقَلْبِ صُورَةَ التَّعْلِيمِ الَّتِي تَسَلَّمْتُمُوهَا» (رو6: 17)، وشجع العبيد أن يعملوا «مَشِيئَةَ اللهِ مِنَ الْقَلْبِ، خَادِمِينَ بِنِيَّةٍ صَالِحَةٍ كَمَا لِلرَّبِّ، لَيْسَ لِلنَّاسِ» (أف6: 6، 7).

وبالنسبة للمؤمن، فأن يكون له ”قلب تام“ يعني أنه مدين بالولاء الراسخ لله، والطاعة لكلمته، من كل القلب.  فيا ليتنا نأمل أن نكون جميعًا هكذا!  ويا ليتنا لا يُقال عنا مُطلقًا ما قيل عن الملك أَمَصْيَا «وَعَمِلَ الْمُسْتَقِيمَ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ، وَلَكِنْ لَيْسَ بِقَلْبٍ كَامِلٍ» (2أخ25: 2).

ولقد تمتع الرسول بولس بالفكر الواحد الذي للقلب الواحد، مثلما كتب لمؤمني فيلبي: «تَثْبُتُونَ فِي رُوحٍ وَاحِدٍ، مُجَاهِدِينَ مَعًا بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ لإِيمَانِ الإِنْجِيلِ» (في1: 27).  وبالضبط مثلما كان لهم قلب واحد ليجعلوا داود ملكًا، هكذا ينبغي في كل اجتماع أن تتوحد القوى نحو الهدف المشترك لإكرام الرب يسوع، ولإحضار الإنجيل لعالم محتاج.

لقد اعترف بداود الأمناء من جميع الأسباط، وأتوا إليه كمركز للاجتماع.  ومن هنا وهناك أتت إليه جماعات بأكملها، وقد كانت قلوب البعض أكثر استعدادًا وتكريسًا له من البعض الآخر، وصاروا جيشًا عظيمًا.  وفي النهاية، اجتمع إلى داود، من جميع الأسباط، نحو ثلث مليون رجل، ليُملكوه ملكًا عليهم.  وهكذا وَلَّت أيام الذل والاغتراب، وهكذا أيضًا معنا عن قريب، ستبدأ أفراحنا غير المُتقطعة، ونحن نُحيط بالحبيب في المجد.

والجزء الأخير من أصحاحنا (1أخ12: 38-40)، يُذكرنا بإنجيل لوقا 12: 37 «طُوبَى لأُولَئِكَ الْعَبِيدِ الَّذِينَ إِذَا جَاءَ سَيِّدُهُمْ يَجِدُهُمْ سَاهِرِينَ.  اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ».  وإن كان داود لم يخدم جنوده الأوفياء بيديه، ولكن سَيِّدنا المجيد، الذي لا مثيل له، لن يترك لأحد غيره مهمة العناية بعبيده الأمناء ومحاربيه الشجعان؛ إنه سوف «يَتَمَنْطَقُ وَيُتْكِئُهُمْ وَيَتَقَدَّمُ وَيَخْدِمُهُمْ».

وكانت فترة الثلاثة أيام للاحتفالات وإقامة الولائم مؤشرًا لابتهاج الأمه لاعتلاء داود العرش.  لقد كانوا قد أقاموا صومًا سبعة أيام لموت شاول (1أخ10: 12)، ولكن الصوم والحزن قد تبدلا الآن إلى إقامة الأفراح والغبطة، إذ أشرق فجر العصر الجديد.

والأكل والشرب – في الكتاب المقدس – علامة على الصداقة والشركة.  وهكذا فهذه العلاقة الجديدة بين داود وإسرائيل قد توطدت خلال أيام الاحتفال الثلاثة هذه.  وهنا يؤكد الوحي على حقيقة أنهم «كَانُوا هُنَاكَ مَعَ دَاوُدَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ» (ع39).

وهذه الحشود والجيوش الغفيرة كانت تستلزم مؤونة غذائية لثلاثة أيام من الأكل والشرب، ولذلك فإن إخوتهم القريبين منهم في الجوار كانوا قد «أَعَدُّوا لَهُمْ» (ع39)، وتجمعوا لتزويدهم بما يلزم.  فالمحبة الأخوية توفر احتياجات الآخرين الذين من العائلة.  وهؤلاء الإخوة لم يتصنعوا أو يكبتوا أية مشاعر للشفقة أو التراحم (1يو3: 17).  ومحبتهم لم تكن بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق (1يو3: 18).  والإيمان الحقيقي لا يتلفظ أبدًا بمثل الملاحظة اللامبالية: «امْضِيَا بِسَلاَمٍ، اسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا»، بدون اتخاذ خطوات ملموسة لمواجهة الاحتياجات (يع2: 16).  وهكذا، مع وجود هذا العدد الكبير من الأفواه التي تحتاج إلى الطعام والشراب، نهض الإخوة للتحدي.  ويا للروعة!  فمن مسافات بعيدة، مثل الأسباط الشمالية «يَسَّاكَرَ وَزَبُولُونَ وَنَفْتَالِي» (ع40)، جاءت المعونات الغذائية في غاية السرعة!

ولقد استُخدِمت نوعيات مختلفة من دواب الحمل: «الْحَمِيرِ وَالْجِمَالِ وَالْبِغَالِ وَالْبَقَرِ» (ع40).  وفي الواقع لقد كان الرجال مستعدين – أيا ما كانوا يملكون – ليُساهموا في خدمة الرب.  لقد قدَّم السامري الصالح دابته، بأقصى سرعة، لإنقاذ المسافر الجريح على طريق أريحا (لو15: 34).  وتلاميذ لم تُذكر أسماؤهم، قدَّموا الجحش الذي لهم، للمسيح، بمجرد أن سمعوا أن «الرَّبَّ مُحْتَاجٌ إِلَيْهِ» (لو19: 29-34).  تُرى أية وسائل عصرية للتنقل – في أيامنا هذه – مُستعدَّة لأن تكون متاحة لاحتياجات القديسين، ولعمل الرب؟

كما وأُرسِلت نوعيات كثرة ومتنوعة من المعونات الغذائية، لإرضاء أذواق واحتياجات الآكلين، دون أي احتمال للضجر من قائمة الطعام (ع40).  وبَرْزِلاَّيَ الْجِلْعَادِيَّ وشُوبِيَ بْنَ نَاحَاشَ وَمَاكِيرَ بْنُ عَمِّيئِيلَ، كان لهم نفس الفكر، حينما جلبوا الارتياح لداود ومن معه، عندما كان داود هاربًا من فتنة وعصيان أبشالوم (2صم17: 27-29).  وهكذا أيضًا يجب أن تكون التغذية الروحية متنوعة وشهية.  والراعي الصالح يوفر لخرافه ”مَرَاعٍ خُضْرٍ“؛ غضة ومتنوعة ومُشبعة (مز23: 2)، ولكنه أيضًا «الرَّاعِي بَيْنَ السَّوْسَنِ»؛ الذي يُطعِم قطيعه بَيْنَ السَّوْسَنِ“ (نش2: 16 ترجمة داربي)، أي أنه يقوده إلى بيئة مُبهجة وجذابة.

فيا ليتنا نتمثل بالرب عندما نُطيع تحريضه «أَتُحِبُّنِي ... ارْعَ خِرَافِي ... ارْعَ غَنَمِي ... ارْعَ غَنَمِي» (يو21: 15-17).  فربما من الممكن أن نُقدِّم «كَلاَمًا صَحِيحًا غَيْرَ مَلُومٍ» (تي2: 8)، ولكن نُقدِّمه بطريقة منفرة تؤدي إلى نتائج عكسية غير مرغوبة، ولكن «لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ كُلَّ حِينٍ بِنِعْمَةٍ، مُصْلَحًا بِمِلْحٍ، لِتَعْلَمُوا كَيْفَ يَجِبُ انْ تُجَاوِبُوا كُلَّ وَاحِدٍ» (كو4: 6).  وأولئك الذين يُطعمون القديسين، يتعيَّن عليهم أن يعتنوا بكل احتياج يُقدمونه، وبكل موضوع يتناولونه، لأن شعب الله يحتاج إلى طعام روحي صحي ومتوازن ومتنوع.

والسبب للاحتفالات توضحه العبارة الأخيرة من الأصحاح «لأَنَّهُ كَانَ فَرَحٌ فِي إِسْرَائِيلَ» (1أخ12: 40).  ويبدو أن مشاعر البهجة المتوهجة قد اندلعت سريعًا في طريقها عبر كل أرض إسرائيل.  والحجاب القاتم الكئيب الحزين - الذي خيَّم وانسدل على نظام شاول الاستبدادي – قد انقشع أخيرًا، وملأت النشوة كل قلب إزاء فكرة بزوغ غدٍ جديد، يسود فيه صولجان البر، مع الملك الذي حسب قلب الله، والممسوح من الله.

ونجد نظيرًا لخاتمة هذا الأصحاح في العهد الجديد، في الأصحاح الثامن من سفر أعمال الرسل، الذي ينتهي – من حيث المعنى – بنفس الملاحظة: «وَذَهَبَ فِي طَرِيقِهِ فَرِحًا» (أع8: 39).  ومع أن الظروف مختلفة تمامًا، إلا أن السبب الأساسي للفرح هو نفس الشيء، فإطاعة إسرائيل لتحويل المملكة إلى داود «حَسَبَ قَوْلِ الرَّبِّ»، أسفر عن فرح شامل في كل أرض إسرائيل.  وإطاعة الوزير الحَبَشِي لبشارة فيلبس، ومن ثم معموديته، جلب له الفرح.  فالطاعة تتمخض عن السعادة، والعصيان يتمخض عن التعاسة «إِنْ عَلِمْتُمْ هَذَا فَطُوبَاكُمْ إِنْ عَمِلْتُمُوهُ» (يو13: 17).                      

يَا لَهُ عَصْرًا سَعِيدًا
وَمُلُوكِ الأَرْضِ تُهْدِي
يَا مَلِيكُ يَا مَلِيكُ

 

فِيهِ يَمْلِكُ الْمَسِيحُ
كُلَّ مَجْدٍ وَمَدِيحْ
لَكَ يَنْبَغِي التَّسْبِيحْ

                                                                             (يتبع)


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com