عدد رقم 6 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الكنيسة في الحالة الأبدية (رؤ21: 1 – 5)  

    «ثم رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فيما بعد» (رؤ21: 1).

   بهذا نصل إلى عتبات الأبدية.  فإن الخليقة الأولى ستتحلل ذراتها إلى جزئياتها - أى الالكترونات والبروتونات والنيوترونات نتيجة انفجارات هائلة في الكون.  وهذا يفسر القول الذى جاء بصدد دينونة الأموات «هربت الأرض والسماء ولم يوجد لهما موضع» (رؤ20: 11).  وهذا عين ما قاله بطرس الرسول منذ نحو ألفى عام: «تزول السموات بضجيج وتنحل العناصر محترقة وتحترق الأرض والمصنوعات التى فيها ... تنحل السماوات ملتهبة والعناصر محترقة تذوب.  ولكننا بحسب وعده ننتظر سماوات جديدة وأرضًا جديدة يسكن فيها البر» (2 بط 3: 10- 13).  وسيصاحب هذا التحلل الذري للكون ضجيج وحرارة هائلة وخطيرة جدًا.  هذا ما أشار إليه الرب يسوع بالقول: «السماء والأرض تزولان» (مت24: 35)، وما نقرأه في النبوة «من قدم أسست الأرض، والسماوات هي عمل يديك.  هي تبيد وأنت تبقى، وكلها كثوب تبلى، كرداء تغيرهن فتتغير» (مز102: 25، 26).   ولكن هذا الزوال والانحلال لا يعنى فناء المادة واضمحلالها لأن المادة لا تفنى.  

وبعد أن تنتهى الدينونة وينتهى كل أثر الخطية، ويُطرح الشيطان في بحيرة النار، فإن الله سيُجمِّع هذه الذرات من جديد، حسب عمل استطاعته، في ثوب جديد وبصورة مختلفة تمامًا عن شكل الحياة الحاضرة.  «رأيت سماءً جديدة وأرضًا جديدة، لأن السماء الأولى والأرض الأولى مضتا، والبحر لا يوجد فى ما بعد».  البحر هو الفاصل العظيم الذي يفصل بين أجزاء اليابسة، كما أنه يشير إلى الاضطراب وهياج الشعوب، فالأشرار كالبحر المضطرب.  وفي الأبدية لا توجد فواصل، ولا توجد اضطرابات، ولا يوجد أشرار.  وهذه العبارة تدل على أن صورة الحياة وشكلها فى الأبدية سيختلف كل الاختلاف عن صورتها الحاضرة، لأن البحار والمحيطات الآن تتكون منها السحب، ومن السحب تنزل الأمطار، وهذه تكون الأنهار التى هى أساس حياة النبات والحيوان والإنسان.  إذًا فكيف لا يكون بحر فيما بعد؟  الإجابة أن الأجساد الممجدة في الحالة الأبدية هي أجساد روحانية وليست مادية ترابية، وسيكون المؤمنون في السماء الجديدة أو على الأرض الجديدة كملائكة الله، لا يزوجون ولا يتزوجون، ولا يحتاجون إلى الغذاء أو الماء أو الهواء.  

سيصبح كل شيء «جديدًا»، ولا نرى «الخروف» هنا لأن كل المشورات المرتبطة بالفداء قد تمت، والمُلك التوسطي قد انتهى، وسلَّم الابن المُلك لله الآب «كي يكون الله (الآب والابن والروح القدس) الكل في الكل» (1كو24:15-28).    

«وأنا يوحنا رأيت المدينة المقدسة أورشليم الجديدة نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مزينة لرجلها» (ع2).

الرائي يصف لنا منظر الكنيسة في بداية الأبدية، «المدينة المقدسة أورشليم الجديدة»، وقد وردت عبارة «المدينة المقدسة» في ص19:22 أيضًا وهي إشارة إلى الصفة «المقدسة» للكنيسة الممجدة في المُلك الألفي.  وبطول الأبدية ستكون في توافق تام مع الله القدوس الذي اختارنا في الأزل لنكون «قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة» (أف1: 4).

وتوصف الكنيسة الممجدة أيضًا بعبارة «أورشليم الجديدة» هنا وفي ص12:3 «وأكتب عليه اسم إلهي واسم مدينة إلهي أورشليم الجديدة النازلة من السماء من عند إلهي».  وتذكر في الكتاب «أورشليم» في عدة صور:

1.      «أورشليم العليا» (غلا26:4) وتشير إلى النعمة.

2.     «أورشليم الأرضية» (أنظر رؤ2:11 في زمان الضيقة العظيمة، «المدينة المحبوبة» رؤ 9:20 في زمان الملك الألفي).

3.     «أورشليم السماوية» «المدينة التي لها الأساسات» (عب11: 10)، «مدينة الله الحي» (عب12: 22).

4.     «أورشليم الجديدة» وهي تشير إلى الكنيسة الممجدة في الحالة الأبدية (رؤ2:21)، «أورشليم المقدسة» وهي الكنيسة في الأبدية وفي مدة المُلك الألفي (رؤ21: 10).

وعبارة «أورشليم الجديدة» تعني أنها ستظل بنضارتها ولمعانها وشبابها طول الأبدية.  وتُستعمل كلمة «جديد» أربع مرات في هذا الفصل «سماء جديدة» و «أرض جديدة» و «أورشليم الجديدة» و «كل شيء جديدًا».

«نازلة من السماء من عند الله مهيأة كعروس مُزينة لرجلها».  الكنيسة سماوية لأنها قد ارتبطت بالمسيح السماوي، و«كما هو السماوي هكذا السماويون أيضًا.  وكما لبسنا صورة الترابي سنلبس أيضًا صورة السماوي» (1كو15: 48، 49).  لهذا تُرى نازلة من السماء.  «من عند الله» فهي مشروع إلهي صممته حكمة الله الأزلية، والابن في الزمان دفع تكلفته كاملة في الصليب، وجاء الروح القدس لينجز هذا المشروع، ويصحب الكنيسة في رحلة تغربها حتى تصل إلى المجد.  وهنا تُرى في مجدها وزينتها كعروس في الحالة الأبدية، كما رأيناها في ع10 في مجدها في المُلك الألفي.  لقد قرأنا عن عرس الخروف في السماء (رؤ19: 7)، ورأيناها في بداية الملك الألفي نازلة من السماء من عند الله ولها مجد الله (رؤ21: 10، 11)، قبل استعلان العروس هنا في الحالة الأبدية بألف سنة.  ونراها هنا لا تزال في زينتها وثياب عرسها «مهيأة كعروس مزينة لرجلها».  إن ألف سنة تمتعت فيها بالسعادة والبركة مرافقة لعريسها وحبيبها ومشتركة معه في مُلكه ومجده إنما هي مدة قصيرة جدًا، لأنها متحدة به إتحادًا أبديًا.

وستبقي في حرارة عواطفها «كعروس» إلى الأبد.  صحيح أن الله سيكون في الأبدية الكل في الكل.  إلا أن المسيح لن يتغير عن أن يكون الله وإنسانًا معًا، وارتباطه بالكنيسة التي اشتراها بدمه والتي صارت جسده وعروسه سيبقى إلى الأبد، ولذلك ستبدو الكنيسة «مهيأة كعروس مزينة لرجلها».

«وسمعت صوتًا عظيمًا من السماء قائلاً: هوذا مسكن الله مع الناس، وهو سيسكن معهم، وهم يكونون له شعبًا، والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم» (ع3).

نلاحظ أن الروح القدس يعطينا وصفًا مقتضبًا جدًا للحالة الأبدية من الناحية الإيجابية، وفي هذا الوضع الأبدي، الأفكار البارزة هي ”الله“ و”الناس“.  وأقانيم اللاهوت لا تظهر هنا، مع أنها موجودة بالطبع، حيث إنها متضمنة في كلمة «إلوهيم»، التي تُرجمت ”الله“ في تكوين1: 1.  وتُسمى الأبدية ”يوم الله“، حيث سيكون «الله الكل في الكل».  لقد جاء التمييز بين الناس، كأمم، نتيجة للخطية، ولذلك فهي تختفي هنا بعد رفع الخطية.  لكن ستظل الكنيسة متميزة عن باقي المؤمنين في كل التدابير، باعتبارها عروس المسيح، ومسكن الله في الأبدية.  ولقد كان قصد الله من البداية أن يسكن مع الناس، وتوجد إشارة إلى هذا في أمثال 8: 31 «لذاتي مع بني آدم».  إنها حقيقة عظيمة، بل هي رغبة قلب الله منذ الأزل التي لا بد أن تتحقق بصورة كاملة في الأبدية.   وعندما خُلق الإنسان في حالة البراءة، لم يكن الاقتراب الإلهي يتجاوز الزيارة «عند هبوب ريح النهار» (تكوين 3: 8).  وكذلك زار إبراهيم ودخل في شركة معه (تك18)، وظهر للآباء، ثم سكن في قدس الأقداس في خيمة الاجتماع أو في الهيكل بعد فداء الشعب، محجوبًا عن أعين الناس، ثم «كان الله في المسيح» في أيام تجسده، «فيه سُرَّ أن يحل كل الملء» (كو1: 19).  وهو الآن يسكن في الكنيسة بروحه لأنها صارت «مسكنًا لله في الروح» (أف 22:2)، ولكن الله سيكون مع الناس ـ مع خلائقه المفدية في الحالة الأبدية، وهي غبطة تفوق بما لا يقاس غبطة المؤمنين الذين على الأرض في المُلك الألفي.  لأننا نقرأ هناك «والجالس على العرش يحل فوقهم» (ص15:7) وليس معهم.  ومسكن الله هو الكنيسة، والناس هم كل القديسين السابقين والاحقين للكنيسة.

وبهذا فإننا نكون قد رأينا فى هذا السفر ثلاث صور مختلفة للكنيسة : منارة، وعروس، ومدينة.

ففى يوم البشــر:      هى منارة، بالارتباط بالعالم الذى تشهد له.

وفى يوم المسيح في السماء: هى عروس، فى علاقتها بالمسيح العريس الذى تسعد معه.

وفي مشهد الظهور والمُلك الألفي: هي عروس ومدينة نازلة من السماء.

وفى يــوم اللــه الأبدي: هى عروس وهي مسكن الله مع الناس. المدينة المقدسة أورشليم الجديدة  التى تعلن لكل الخليقة مجده.

وستظل الكنيسة عروسًا طوال الأبدية كقول الرسول «يُحضِرها لنفسه كنيسة مجيدة لا دنس فيها ولا غضن (أى تجاعيد من آثار الزمن) ولا شيء من مثل ذلك» (أف 5: 27).

 

«وهو سيسكن معهم وهم يكونون له شعبًا والله نفسه يكون معهم إلهًا لهم».  يا لها من حقيقة مباركة مذهلة أن الله نفسه الخالق العظيم سيسكن مع الناس لا في خيمة أرضية ولا في هيكل أرضي، بل سكنى مباشرة في الكنيسة، مسكن الله الأبدي، وجميعهم سيكونون شعبه.  وهو يكون «إلهًا لهم»، وفي هذا تتضمن كل الغبطة والبركة.

   ثم يكتب الرائي وصفًا مقتضبًا للأبدية، ويحدثنا عن الجانب السلبي منها، أي لما لن يكون في الأبدية، فيقول: «وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد» (ع4)

في الحالة الأبدية ستزول كل آثار الخطية المادية والأدبية.  لم يكن الأمر هكذا في المُلك الألفي لأنه كان هناك شيء من الحزن والدموع بسبب ظهور الخطية في العصاة.  وهناك تُذكر عبارة «ويمسح الله كل دمعة من عيونهم» (رؤ17:7).  ولكن في الحالة الأبدية سيكون ذلك بكيفية نهائية، إذ يزيل الله كل أسباب ومناسبات الحزن، ويمسح من الذاكرة كل المشاهد الأليمة، إذ سيُبطل الموت الذي دخل في الأرض الأولى بسبب الخطية، والذي وُجد بعد الألف سنة بسبب ثورة المتمردين وحربهم ضد القديسين بغواية الشيطان (ص7:20-9).  ولكن في الحالة الأبدية «الموت لا يكون فيما بعد».

ونلاحظ أن أول إشارة للدموع في الكتاب ارتبطت بالموت حيث قالت هاجر: «لا أنظر موت الولد، ... ورفعت صوتها وبكت» (تك21: 16).  وهنا نجد آخر إشارة في الكتاب إلى الدموع وأيضًا ارتبطت بالموت، حيث نقرأ القول: «وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون فيما بعد» (رؤ21: 4).

«ولا يكون حزن» قد رأينا آخر تعبيرات الحزن في ص15:18 «يبكون وينوحون» ولكن النوح والحزن لا يكونان في الحالة الأبدية.

«ولا صراخ» قيل ذلك جزئيًا عن الملك الألفي «ولا يُسمع فيها صوت بكاء ولا صوت صراخ» (إش19:65)، ولكن في الحالة الأبدية لا يكون صراخ نهائيًا.  ولنلاحظ أن الصراخ هنا ليس هو الدموع والبكاء.  فمعناه ”صراخ الاحتجاج والتمرد“، والعالم مليء به اليوم.  فصرخات عدم الرضا، والرفض والتهديد تملأ الهواء.

«ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت» يا لها من أمور محزنة تتكون منها الأمور الأولى ـ الدموع والموت والحزن والصراخ والوجع، وكلها دخلت بسبب الخطية، ولكنها كلها لن تكون في الأبدية.

   وإن كان مجد سليمان الملكى بهر ملكة سبا ولم يُبقِ فيها روحًا بعد، بل قالت إنها لم تصدق الأخبار التى سمعتها حتى جاءت وأبصرت، فإذ النصف لم تُخبر به، فهل نظن أن أمجاد الابن وأمجاد الأبد تدخل ضمن ما يخطر على البال؟!  وإن كان بولس لما صعد إلى الفردوس، رجع وقال إن ما رآه وسمعه ليس ضمن تعبيرات اللغة البشرية، فهل نتوقع أن بيت الآب ممكن التعبير عنه؟!  إن كل ما كتبه يوحنا من وصف سلبى للأبدية يعتبر تلخيصًا لما فى الحياة الحاضرة؛ وهى كلها من أعمال إبليس التي أُظهر ابن الله لينقضها (1يو3: 8).

«وقال الجالس على العرش: ها أنا أصنع كل شيء جديدًا.  وقال لي: اكتب فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة» (ع5).

الله الجالس على العرش يعلن إرادته السامية بأن يكون كل شيء جديدًا.  الأشياء القديمة تزول نهائيًا إذ لا يمكن إصلاحها أو تحسينها.  وقد بدأت هذه الخليقة الجديدة بالمؤمنين الذين شاء الله فولدهم بكلمة الحق ليكونوا «باكورة من خلائقه» (يع18:1)، وهكذا يقول الرسول بولس «إن كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة. الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا» (2كو17:5).  نعم فإنه لا يليق بالحالة الأبدية المستقرة إلا كل شيء جديد يتفق مع طبيعة الله، وهناك يسكن البر.

   الذي سيصنع كل شيء جديدًا، هو «الجالس على العرش» ربنا يسوع المسيح.  وهو الذي به أتت الخليقة القديمة إلى الوجود، وبه أيضًا ستُحضر الخليقة الجديدة إلى الوجود.

ولكن يجب ألا ننسى ما حدث بين هاتين النقطتين.  فقد كان مطلوبًا إتمام الفداء، فبدونه لن تجد أساسًا صلبًا تقوم عليه الخليقة الجديدة.

ويأمر الله الرائي قائلاً: «أكتب فإن هذه الأقوال صادقة وأمينة».  حقًا إنها لأقوال تستحق التسجيل لأن الذي نطق بها هو الله نفسه المنزه عن الكذب.  فما أحرانا أن ننحني بخشوع أمام أقوال الله الصادقة ونقول: آمــين.

   وبهذا نكون قد وصلنا إلى نهاية حديثنا عن كنيسة الله الحي، في انتظار أن ترى عيوننا عريسنا المجيد، ونسعد بحبه ومجده طول الأبدية.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com