عدد رقم 5 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
تأملات في رسالة تيموثاوس الثانية (5)  


(الأصحاح الأول عدد 3 – 7)

   في هذه الفقرة أراد الرسول أن يحرض تيموثاوس على إضرام الموهبة المعطاة له من الله، فعلى ما يبدو أن حالة الفشل العامة التي سادت على الكنيسة في هذه الفترة أدت إلى أن توقف تيموثاوس عن الخدمة نوعًا ما، وتراجع عن المناداة الجهارية بحق الإنجيل إذ لم يعد مرحبًّا بخدمته بسبب تمسكه بالحق.  وبطبيعة الحال فإن ربنا يسوع المسيح، لكونه كاهننا الأعظم، لا يمكنه أن يترك عبده تيموثاوس في هذه الحالة، فهو المسؤول عن الرثاء والتسنيد والمعونة الدائمة لكل ضعف إنساني يعترينا، أي تكميل كل قصور يظهر فينا، يجعلنا عاجزين عن الوجود في الأقداس في توافق مع جو النور الكامل والمحبة الكاملة (عب4: 14 - 16).  غير أن ربنا يسوع إما أن يقوم بهذه المهمة بنفسه أو باستخدام أحد القديسين، والحقيقة إنه في نعمته يود أكثر أن يجد مؤمنًا مستعدًّا للقيام بهذه الخدمة الكهنوتية، ويرغب في أن ينال شرف العمل معه، ولقد كان الرسول جاهزًا لهذه الخدمة فساقه روح الله لكتابة هذه الرسالة التشجيعية.

   على أن ما نتعلمه من كل مرة نجد فيها الرسول بولس مستخدَمًا من الرب في تشجيع وتعزية إخوته، نجده يستخرج من معاملات الله معه وما اختبره فعليًّا في حياته مادة للقيام بهذه الخدمة، ويا ليتنا نتعلم أن تعزية المتألم أو تشجيع المُحبَط ليس أمرًا هيِّنًا، وإن لم يكن لدينا من الاختبار ما يكفي للتعزية أو التشجيع فمن الأفضل أن نصمت.  والمقصود هنا هو التعزية أو التشجيع على المستوى الفردي كنوع من الخدمة الراعوية، وهذا ما يبدو واضحًا في كلماته المعزية لكنيسة كورنثوس حيث استحضر تعزيات أبي الرأفة له ليعزيهم بها (2كو1: 4،3).

   وعلى النهج ذاته سار الرسول في فقرتنا هذه، فاستحضر شيئين يشجع بهما ذلك الخادم الأمين الذي تعرض للإحباط:

أولاً:

   كان الشيء الأول الذي استحضره الرسول خاصًّا به وبماضيه، فأشار إلى كونه يهوديًا يسير في ذات طريق عبادة الله الذي سبقه إليه أجدادُه.  فقبول الله له رغم انتمائه لهذا الشعب الذي أظهر كل الفشل تحت المسؤولية دليل على أمانة الله وصلاحه.

   وهنا يتعين علينا أن نتفهم مدى تغلغل هذا الشعور في أعماق الرسول، حتى أنه وجد فيه مادة مناسبة لتشجيع تيموثاوس.

   لقد سبق له أن أدرك أن الأشياء العتيقة قد مضت، أي كل ما يتعلق بأركان العبادة اليهودية، وأنه هو نفسه صار خليقة جديدة في المسيح، أي أن انتسابه لليهود لم يعد يمنحه امتيازًا واحدًا أمام الله (2كو5: 17،16)، إلا أن هذا لا يعني أن الله قد تغير، أو أنه قد رفض شعبه.  فو إن كانت الكنيسة تختلف اختلافًا جذريًّا عن إسرائيل، لكن كون أن الرعيل الأول في الكنيسة كان من إسرائيل، وهو ذلك الرعيل الذي ينتمي إليه بولس، فقد كان هذا دليلاً على أن الله لم يرفض شعبه (رو11: 5-1)، الأمر الذي يبرز مدى أمانة الله تجاه شعبه على الرغم من فشلهم في مسؤولية الشهادة عن الله.  فلقد احتفظ الله لنفسه ببقية على مبدأ النعمة.

   وهكذا كان الرسول بولس يجهز تيموثاوس تدريجيًّا لأن يتوقع وجود بقية من الأمناء في الكنيسة يحتفظ بهم الله لنفسه جاعلاً منهم شهادته على الأرض، هؤلاء هم من سيطلق عليهم في الأصحاح الثاني «الذين يدعون الرب من قلب  نقي».  فلو أنه من المؤكد فشل الكنيسة في مسؤولية الشهادة، فإنه من المؤكد أيضًا احتفاظ الله لنفسه ببقية أمينة يستطيع تيموثاوس أن يمارس الشركة الكنسية معهم.

   إن تاريخ معاملات الله مع إسرائيل والذي يشهد عن صلاحه وأمانته نحوهم على الرغم من فشلهم يُعد سابقة يستند إليها الرسول في تأكيده أن الله سيفعل الشيء نفسه مع الكنيسة في يوم فشلها، مع مراعاة الفارق بين البقية من إسرائيل والبقية من الكنيسة.  فالأولى أدخلها الله تحت مظلة تدبير جديد هو تدبير النعمة، أما الثانية سيحفظها ليوم مجيء الرب عندما يستقر بها المقام في بيت الآب.

ثانيًا:

   إن كان الرسول في النقطة الأولى قد أشار إلى ماضيه بدءًا من أجداده، ففي النقطة الثانية فعل الشيء نفسه من جهة ما يختص بماضي تيموثاوس، وهنا ذكَّره بجدته وأمه، وكيف أنهما مؤمنتنان بالمسيح، وهنا ينبغي ان نتذكر أن النساء هن الإناء الأضعف (1بط3: 7)، مما يجعل الطريق أمام وصول الحق من لوئيس إلى أفنيكي شائكًا، وهكذا وصوله من أفنيكي لتيموثاوس صار أمرًا صعبًا، لا سيما وأن أباه كان يونانيًّا (أع16: 1).  وكم هو شاق على الزوجة المؤمنة متى أرادت أن توصل الحق لأولادها إن كان زوجها غير مؤمن، فالشيطان عادة ما يستخدم النير المتخالف لحرمان الأولاد من الحق النقي، لكن الله ذلل الصعوبات حتى أن تيموثاوس كان يعرف الكتب المقدسة منذ نعومة أظفاره (ص3: 15).

   وهكذا أيضًا كان الرسول يجهز تيموثاوس ليتعلم مبدءًا هامًا جدًا، وهو أن التعليم الصحيح لن يضيع، وأن الوديعة الصالحة لن تُفقد، حتى وإن كان المؤتمنون عليها ضعفاء، لكنها محفوظة بقوة الله لأجيال وأجيال مهما تأنى الرب في مجيئه.  بالطبع هذه الفكرة هي ما ستعطي قوة للتحريض الذي سيقدمه له في الأصحاح التالي بخصوص إيداع الحق الذي قبله لأناس أمناء يكونون أكفاء أن يعلموا آخرين أيضًا (ص2: 2).  ولعل الهشاشة للإناء النسائي كالأضعف (لوئيس وأفنيكي) تذَكِّرنا بكنيسة فيلادلفيا التي كانت لها قوة يسيرة (رؤ3: 8)، كما وتُذَكِّرنا بضعف البقية العائدة من السبي البابلي الذين صنع الرب بينهم نهضة رائعة في أيام عزرا وزربابل ونحميا (عز9: 8)، حتى أن الرب اعتبر أن ما عملوه كان ثمينًا جدًا، على الرغم من أنهم عملوه في زمن أطلق عليه الرب «يوم الأمور الصغيرة» (زك4: 10).

التحريض الذي يلي التشجيع

   الآن وليس قبل ذلك صار مناسبًا أن يقدم الرسول لتيموثاوس التحريض بشأن إضرام الموهبة، فليس من الطبيعي أن يأتي التحريض قبل التشجيع ونحن نتكلم مع شخص مُحبَط، لا سيما وهو خادم أمين للرب.

   أظن أن أغلبنا يعلم أنه لا مجال لأن يطلب المؤمن من الله أن يمنحه موهبة ما، فالمواهب هي عطايا الله لنا على مبدأ النعمة (1بط4: 10) طبقًا لسلطانه وقصده.  فلم يكن منحها للمؤمن مجالاً لتدريبه على استجابة الصلاة بإيمان.  لكن ما ينبغي أن ندقق فيه هنا هو أن ما طلبه الرسول من تيموثاوس ليس أن يُزيد حجم موهبته، فحجم الموهبة لا مجال لزيادته ولو طلب المؤمن ذلك من الرب.  إذًا الموهبة يحصل عليها المؤمن على مبدأ النعمة وبموجب سلطان الله في نوع الموهبة وحجمها، فليس كل من دعاهم الرب مثلاً ليكونوا معلمين أعطاهم نفس درجة غزارة الموهبة، ودرجة غزارة الموهبة لا تزيد بالصلاة أو بدراسة الكتاب أو حتى باتساع نطاق ممارستها، كما أنها لا تنقص بعكس هذه الأمور، وأعتقد أن هذا الأمر نستطيع أن نستشفه من الفارق بين صياغة الكلام عن المواهب في (رو12 و أف4)، كما أننا نستطيع بالطبع أن نلاحظه اختباريًّا، على أن هذا لا يتعارض مع كون هناك مسؤولية على المؤمن تجاه الموهبة التي منحه إياها الرب، وهذه المسؤولية تتلخص في أنه يضرمها أي يشعلها.  إن انطفاء الموهبة يحدث بسبب التوقف عن ممارستها، وما أن يعود المؤمن لممارستها تُضرم.  إذًا الموهبة موجودة في تيموثاوس، ليس عليه أن يصلي لكي يحصل عليها، أو أن يستعيدها من جديد حيث أنه لم يفقدها أصلاً، ولا أن يعمل على زيادة درجة غزارتها، كل المطلوب هو أن يعود لممارستها.  ومع نمو المؤمن الروحي بشكل عام في كل جوانب حياته الروحية، وازدياد عمقه واختباراته ومعرفته الكتابية، ستلمع الموهبة أكثر.

   نلاحظ أيضًا أنه حصل على الموهبة عن طريق وضع يدي بولس، ومن الرسالة الأولى نفهم أن هذا تم كتحقيق لنبوات سابقة في جو من الشركة مع الكنيسة المحلية ممثلة في شيوخها (1تي1: 18 و 4: 14)، من هذه المواضع في الرسالتين نفهم أن الله أعطى بصيرة لبعض القديسين أن الرب سوف يستخدم تيموثاوس بشكل خاص.  بالطبع إن إعلانًا نبويًّا كهذا كان نتيجة التقدم الروحي الملحوظ من الكل في حياة تيموثاوس، وعندما حان الوقت الذي فيه أراد الرب أن يبدأ تيموثاوس خدمته برفقة الرسول بولس أرشده لأن يمنح تيموثاوس الموهبة الروحية اللازمة للخدمة، وقد حدث هذا من خلال وضع يديه عليه، على أن هذا لم يكن بالإستقلال عن الكنيسة المحلية لكن مع مشاركة شيوخها الأمر الذي تم التعبير عنه بوضع أيديهم عليه، وبما أن السلطان الرسولي انتهى كما فهمنا في مقدمة تأملاتنا (أع20: 28 - 30)، وبما أن الوحي الإلهي اكتمل مما يبطل وجود نبوات ينطق بها بعض القديسين بموجب إعلان إلهي (1كو13: 8- 10)، فإننا نستطيع أن نجزم أن ما حدث مع تيموثاوس غير قابل للتكرار بعد العصر الرسولي.  قد يحدث أن يتوقع بعض القديسين أن شخصًا ما سيستخدمه الرب بشكل خاص نتيجة رؤيتهم لنموه لكن لا يحدث هذا بموجب إعلان إلهي، وعندئذٍ لا نعتبر ما يقولونه نبوة واجبة التحقيق، وإن قال أحد مثل هذا الكلام فإن هذا محض ادعاء، ولا بد أنه سيأتي بنتائج سلبية على الشخص المُتنبأ بخصوصه وسيكون عُرضة للغرور، وهذه التبعات السلبية هي بالطبع نتيجة أن ما حدث لم يكن من الله، كما أن الموهبة يحصل عليها الشخص بسكنى الروح القدس فيه (1كو12: 11) وليس بوضع يدي أحد عليه.  وإن قال أحد إنه يمتلك القدرة على منح أحد موهبة كبولس، فإن هذا أيضًا محض ادعاء، فإن المؤمن الحاصل على موهبة من الله يخدم الرب بموجبها في جو من الشركة مع كنيسته المحلية وليس بالإستقلال عنها.

وفي المقال التالي سنستكمل بمعونة الرب تأملاتنا في هذا الجزء

   

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com