عدد رقم 5 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
موسى ودعوة الله (6)  

«الآنَ هَلُمَّ فَأُرْسِلُكَ إِلَى فِرْعَوْنَ، وَتُخْرِجُ شَعْبِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ مِصْرَ»

(خر3: 10 - 19)

تأملنا فيما سبق في موسى وهو فى مديان، وفى مدلول ظهور الله له في العُلَّيْقَة الْمُتَّقِدَة.  هناك تسلم دعوته وإرساليته، ليكون إناء الله المُختار لتحرير شعبه من عبوديتهم القاسية.  وهناك شجعه الرب، مُنعمًا بوعده أنه سيكون معه، وأكد له على نجاح إرساليته تمامًا، فَقَالَ: «إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَهَذِهِ تَكُونُ لَكَ الْعَلاَمَةُ أَنِّي أَرْسَلْتُكَ: حِينَمَا تُخْرِجُ الشَّعْبَ مِنْ مِصْرَ، تَعْبُدُونَ اللهَ عَلَى هَذَا الْجَبَلِ» (ع12).  كان هذا أمرًا مُعزيًا جدًا.  الله لم يسأل موسى أن يتقدَّم بمفرده؛ بل إن القدير سيرافقه.  ولكن هل توقف موسى عن إبداء العراقيل بشأن المهمة التي جهزها الله له؟!    

«فَقَالَ مُوسَى لِلَّهِ: هَا أَنَا آتِي إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَقُولُ لَهُمْ: إِلَهُ آبَائِكُمْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ. فَإِذَا قَالُوا لِي: مَا اسْمُهُ؟  فَمَاذَا أَقُولُ لَهُمْ؟» (ع13).  دعونا لا نتسرع وندين موسى هنا.  الرب لم يدنه!  لم تكن هذه صعوبة هينة على موسى.  ليس من حضرة منظورة لترافقه.  كان عليه أن يذهب بمفرده للعبرانيين المُستعبدين، ويُقدِّم لهم نفسه باعتباره المحرر والمبعوث الإلهي.  كان عليه أن يُخبرهم أن إله آبائهم قد وعد بأن يحررهم.  لكن - كما سنرى لاحقًا - لم يكن هذا ليروق كثيرًا لأناس، أو على الأقل لمعظمهم، ممن كانوا قد غرقوا فى عبادة أوثان المصريين.  لقد شعر أنهم سيريدون أن يعرفوا سريعًا من هو هذا الإله؟  ما هى شخصيته؟  وأن يثبت موسى لهم أن إله آبائهم جدير بثقتهم.  ألا تبرز أمامنا ذات الصعوبة؟!  فنحن نذهب لنُخبِر الخطاة الضالين عن إله لم يروه من قبل، وندعوهم للثقة باسمه.  لكن ألا نتوقع رد الفعل: «أَرِنَا الآبَ وَكَفَانَا» (يو14: 8).  فى الواقع، هذا لا يزال هو طلب القلب المُتشكك.  لقد شعر موسى بهذه الصعوبة، وكذلك نحن.

«فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ.  وَقَالَ: هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (ع14).  للوهلة الأولى ربما يصدمنا هذا كتعبير غريب وغامض، إلا أن القليل من التأمل يكشف لنا مغزاه العميق.  إن ”أهيه“ هو الاسم الإلهي الأعظم لله.  إنه يتضمن كل صيغ الفعل ”يكون“، ويمكن أن يترجم، ”أنا كنت، وأنا أكون، وأنا سأظل دائمًا كائنًا“.  إن هذا الاسم يتضمن تعليمًا مناسبًا عظيمًا لنا.  علينا أن نذهب مُعلنين اسم الله وطبيعته كما استُعلن لنا، لا أن نقوم بمحاولات لإثبات وجوده.  علينا ألا نهدر الوقت مع أناس فى محاولات لإدراك الله.  بل يكون شغلنا الشاغل هو إعلان وجود الله، كما أعلن عن نفسه فى يسوع المسيح، ومن خلاله.  إن ”أهيه“ العُلَيْقَة المُتوَّقِدة قد استُعلن تمامًا الآن، فى شخص مخلصنا المبارك الذي قال: «أَنَا هُوَ خُبْزُ الْحَيَاةِ» (يو6: 35)، «أَنَا هُوَ الرَّاعِي الصَّالِحُ» (يو10: 11)، «أَنَا هُوَ الْبَابُ» (يو10: 9).  «أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالَمِ» (يو8: 12)، «أَنَا هُوَ الطَّرِيقُ وَالْحَقُّ وَالْحَيَاةُ» (يو14: 6)، «أَنَا الْكَرْمَةُ الْحَقِيقِيَّةُ» (يو15: 1). إنه «أهيه» السرمدي، «يَسُوعُ الْمَسِيحُ هُوَ هُوَ أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ» (عب13: 8)

«فَقَالَ اللهُ لِمُوسَى: أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ.  وَقَالَ: هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: أَهْيَهْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ» (ع14).  هنا عمق لا يسبر أغواره عقل محدود.  فعبارة «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ» أعلنت أن الله العظيم ذاتي الوجود، وليس مثله؛ إنه بلا بداية، بلا نهاية «مُبَارَكٌ الرَّبُّ إِلَهُ إِسْرَائِيلَ مِنَ الأَزَلِ وَإِلَى الأَبَدِ» (1أخ16: 36؛ 29: 10؛ نح9: 5؛ مز41: 13؛ 90: 2؛ 106: 48؛ دا2: 20).  ليس غيره يستطيع أن يقول «أَهْيَهِ الَّذِي أَهْيَهْ» - لا يتغير، ثابت أبدي.  لقد استطاع الرسول بولس أن يقول «بِنِعْمَةِ اللهِ أَنَا مَا أَنَا» (1كو15: 10)؛ أنا ما عملته النعمة، لكنه لم يستطع أن يقول: ”أَنَا الَّذِي أَنَا“.

«وَقَالَ اللهُ أَيْضًا لِمُوسَى: هَكَذَا تَقُولُ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ: يَهْوَهْ إِلَهُ آبَائِكُمْ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ أَرْسَلَنِي إِلَيْكُمْ.  هَذَا اسْمِي إِلَى الأَبَدِ وَهَذَا ذِكْرِي إِلَى دَوْرٍ فَدَوْرٍ» (ع15).  يا لها من بركة!  بلا شك كان هذا أمرًا يجب أن يكسب قلوب العبرانيين، عندما يُعيده موسى على مسامعهم.  إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، هو إله النعمة المطلقة، الذي أفرز هؤلاء الرجال من جموع البشرية الساقطة، وجعل منهم الأكثر تفضيلاً.  إن إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، هو إله الوعود غير المشروطة، الذي تعهد أن يُعطيهم ولذريتهم أرض كنعان كميراث لهم.  إله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، الإله الحافظ العهد؛ لأنه مع إبراهيم دخل فى عهد جليل، وثبَّته مع إسحاق ويعقوب.  لاحظ أيضًا، التكرار الثلاثي لله – «إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ»، وهو ما لا يقل عن كونه إشارة إلى الثالوث الأقدس!

فى الأعداد المتبقية من خروج 3 نعلم كيف أن الله أعطى مزيدًا من التأكيد لخادمه بإعلان نتائج إرساليته له (ع16-22).  ولاحظ مرة أخرى العبارات الإيجابية المستخدمة: «إِنِّي قَدِ افْتَقَدْتُكُمْ وَمَا صُنِعَ بِكُمْ فِي مِصْرَ.  فَقُلْتُ أُصْعِدُكُمْ مِنْ مَذَلَّةِ مِصْرَ ... فَإِذَا سَمِعُوا لِقَوْلِكَ ... وَلَكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لاَ يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ ... فَأَمُدُّ يَدِي وَأَضْرِبُ مِصْرَ بِكُلِّ عَجَائِبِي ... وَأُعْطِي نِعْمَةً لِهَذَا الشَّعْبِ فِي عُيُونِ الْمِصْرِيِّينَ.  فَيَكُونُ حِينَمَا تَمْضُونَ أَنَّكُمْ لاَ تَمْضُونَ فَارِغِينَ».  إن كل شيء مُقرَّر بالتحديد.  لا مجال لإخفاق القصد الإلهي.  فليس هناك صدف.  لا يوجد ”سأعمل ما عليَّ إن عملتم ما عليكم“.  لقد أقسم الرب «رَأْيِي يَقُومُ وَأَفْعَلُ كُلَّ مَسَرَّتِي» (إش46: 10).  لتكن هذه هى أرضية يقيننا.  بالرغم من أن كل قوى الشر تصطف ضدنا، إلا أنه إذا ما دعانا الله لنعمل، سيُتمم تحديدًا كما حتَّم هو.  صحيح أن وعود الله لموسى لم تتم فى يوم، وصحيح أيضًا أنه كان هناك الكثير فى مجريات الأمور ليُمتحن إيمان موسى بشدة، قبل عتق بنى إسرائيل من مصر.  وصحيح أيضًا أنه ما عدا اثنين فقط، فنيَ الـ 600,000 رجل الذين خرجوا من مصر إلى البرية، وكذلك مات موسى دون أن يرى التتميم الكامل لوصول إسرائيل الفعلي إلى الأرض التى تفيض لبنًا وعسلاً – لأن الله استهدف إسرائيل كأمة، وليس لأي جيل من الأمة، إلا أنه في النهاية، تمت كل كلمة ليهوه.  هكذا أيضًا، ربما يُكلّفنا الله بعمل ما من أجله، ونموت قبل أن يظهر العمل المقصود للنور؛ ومع ذلك، سيتحقق القصد الإلهي.

 «فَإِذَا سَمِعُوا لِقَوْلِكَ، تَدْخُلُ أَنْتَ وَشُيُوخُ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى مَلِكِ مِصْرَ وَتَقُولُونَ لَهُ: الرَّبُّ إِلَهُ الْعِبْرَانِيِّينَ الْتَقَانَا، فَالآنَ نَمْضِي سَفَرَ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ فِي الْبَرِّيَّةِ وَنَذْبَحُ لِلرَّبِّ إِلَهِنَا.  وَلَكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لاَ يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ وَلاَ بِيَدٍ قَوِيَّةٍ» (ع18، 19)

يُرينا الكتاب هنا اختبارًا آخر لإيمان موسى.  هل توقف موسى عن إبداء العراقيل بشأن المهمة التي يجهزها الله له، والتي بدت له وكأنها درب من المستحيل؟  لقد أُمِرَ أن يذهب إلى فرعون، بمصاحبة شيوخ بني إسرائيل، ويُخبروه برسالة الله.  كان على فرعون أن يسمح للعبرانيين أن يذهبوا سَفَرَ ثلاثة أيام فى البرية، ليعبدوا الله.  ولكن قبل أن يبدأ موسى إرساليته، أكد له الرب «وَلَكِنِّي أَعْلَمُ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ لاَ يَدَعُكُمْ تَمْضُونَ» (ع19).  ولربما يتساءل موسى: لماذا إذًا؟!  وما الداعي لإهدار مجهودي معه؟!  لكن ليس على الخادم أن يسأل بشأن أوامر سيده.  عليه فقط أن يطيع.  ولكن موسى لم يُصبح بعد مستعدًا للاستجابة لدعوة الله!

«فَأَجَابَ مُوسَى: وَلَكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي، بَلْ يَقُولُونَ: لَمْ يَظْهَرْ لَكَ الرَّبُّ» (خر4: 1).  إن لم نكن على دراية – على قياس ما - بقلوبنا الشريرة جدًا، لبدا لنا أن موسى على حق إذا ما استمر فى الاعتراض والتساؤل، وتقديم الأعذار.  لكن معرفتنا بإخفاقاتنا المتكررة والمهينة، تُظهِر لنا كم هي حقيقة مؤسفة فى الحياة، تلك الصورة المعروضة أمامنا هنا.  لقد ميَّز الرب خادمه بمنظر العُلَّيْقَة الْمُتَّقِدَة المُلهِم بروعة، وتحدث عن اهتمامه الحاني بالعبرانيين المُذلين، ووعد أن يكون مع موسى، وأعلن صراحةً وبوضوح أنه سوف يُخلِّص إسرائيل من مصر، وسوف يأتي بهم إلى أرض كنعان.  إلا أن كل هذا لم يكن كافيًا ليُخرِس عدم الإيمان، ويُخضع الإرادة العاصية.  وا أسفاه!  مَن هو الإنسان حتى يذكره القدير؟!  لا شيء!  ليس سوى القوة الإلهية العاملة فينا، التي تستطيع أن تجعلنا نستغني عن كل الدعامات والركائز البشرية، ليتكل فقط على الرب.

«فَأَجَابَ مُوسَى: وَلَكِنْ هَا هُمْ لاَ يُصَدِّقُونَنِي وَلاَ يَسْمَعُونَ لِقَوْلِي».  يا له من توقع رديء!  لقد أعلن الرب مشددًا: «فَإِذَا سَمِعُوا لِقَوْلِكَ (And they shall hearken to thy voice)» (خر3: 18)، والآن يجيب موسى: «لاَ يَسْمَعُونَ».  يا لجسارة الخادم أن يُعارض سَيِّده مواجهةً!  وهو أمر مخيف حقًا!  ولكن دعونا نتذكر أننا من نفس العجينة التي صُنع منها موسى.  ففي داخلنا نفس الشر وعدم الإيمان، والقلب العاصي، وأما رجاؤنا وطوق نجاتنا الوحيد فهو أن نرتمي في التراب أمام الله، ضارعين إليه أن يرحم ضعفنا، وأن يجعلنا نتواضع ونخضع، ونتغلب على الشر الميؤوس منه، عديم الشفاء، الساكن فينا.

إن ما عُرض علينا يدحض السفسطة الحديثة التي تدعي أن الله لا يستخدم سوى المُكرَّسين بالتمام له!  كم يُصرّ بعض المُعلِّمين على أن مقدار إيماننا وأمانتنا يحددان مقدار نجاحنا فى خدمة الرب.  صحيح أن كل خادم للمسيح ينبغي أن «يَكُونُ إِنَاءً لِلْكَرَامَةِ، مُقَدَّسًا، نَافِعًا لِلسَّيِّدِ، مُسْتَعَدًّا لِكُلِّ عَمَلٍ صَالِحٍ» (2تي2: 21)، إلا أن الله لا يحده فشلنا فى هذه النقطة، وهو ما يظهر بوضوح فى الفقرة التى أمامنا.  كان موسى خجولاً ومترددًا وخائفًا وغير مؤمنٍ وعاصيًا، لكن الله استخدمه بعد!  وهو لا يقف وحده، بأى حال، فى هذا المضمار.  لقد استخدم الله بلعام الجشع ليعطِ واحدة من أروع النبوات الموجودة فى العهد القديم.  كما استخدم شمشون ليُحرِّر إسرائيل من الفلسطينيين.  وكذلك استخدم يهوذا ليكون رسولاً.  لو انتظر الله حتى يجد أداة مستحقة أو ملائمة ليستخدمها، لبقى منتظرًا إلى انتهاء الدهر.  إن لله سلطان على ذلك، كما على كل أمر.  والحقيقة أن الله يستخدم مَن يريد.

لم يكن موسى مُهيَّأً بعد ليتجاوب مع دعوة الله.  كانت هناك صعوبات أخرى تداعب ذهن عدم الإيمان، لكن القدرة الإلهية وطول الأناة غلبتاها جميعًا، واحدة تلو الأخرى.  لنأخذ هذا الدرس بجدية لقلوبنا، ونسعى وراء النعمة التى تُمكننا من وضع الله بيننا وبين صعوباتنا، بدلاً من وضع صعوباتنا بين الله وإيانا. 

     

 

 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com