عدد رقم 5 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الرهبان هم أيضًا بشر!  


   لسبب المشاعر المجروحة لغالبية المسيحيين، ترددت كثيرًا أن أكتب عن حادثة مقتل رئيس دير الأنبا مقار عن طريق ضربة بآلة حادة، وقد تبرهن من الوهلة الأولى أن الحادث جنائي والجاني من الداخل، لأنه لو كان الحادث إرهابيًا، لكانت الوسيلة المستخدمة هي الرصاص أو التفجيرات، كما تعاهدنا من الإرهابيين، وليس باستخدام وسائل بدائية وفي منطقة محظور دخولها لغير الرهبان.  لكن شرعتُ أن أكتب لأن هذا الحدث أخذ بُعدًا إعلاميًا غير مسبوق، ربما لسبب الصدمة!  لأن التحقيقات أظهرت أن الجاني هو أحد الرهبان بمساعدة صديقه.  والصدمة أيضًا لأننا دائمًا نضع الرهبان والقساوسة والخدام في مصاف القديسين والأفاضل الذين في الأرض وننسى أنهم بشر، وأن صور التدين الخارجي لا تعني مطلقًا أن هذا الشخص قد وُلد من الله.  ونحن نتذكر أن المتدين الأول في التاريخ (قايين) كان هو القاتل الأول.  والفريسيون كان هم المتدينين وسط اليهود، وهم الذين قتلوا المسيح.  وفي التاريخ المعاصر نرى أن الإرهابيين هم الأكثر تشددًا وحماسًا للدين.  ذلك لأن التدين الخارجي والظاهري يبعد الإنسان أكثر عن الله.  أما الفكر الإلهي الصحيح هو أن يمتلك الإنسان قلبًا جديدًا، وحياة إلهية جديدة بالكلية عن طريق الإيمان القلبي بعمل المسيح في الصليب.  وحتى بعد الإيمان يظل الشخص يحمل الطبيعة القديمة الفاسدة إلى جانب الطبيعة الجديدة.  فحتى بولس نفسه، أقرّ بالخطية الساكنة فيه (رومية 7: 17).  والمؤمن لو تُرك لذاته، لفعل شرورًا لا يفعلها شخص بعيد عن الرب.

    وفي هذا المقال لا أناقش مبدأ الرهبنة في ضوء "ماذا يقول الكتاب"، ويمكن للقارئ أن يعود إلى ما كتبه بولس بالروح القدس، محذرًا بنظرة نبوية مستقبلية، من خطر الارتداد عن الإيمان واتباع الأرواح المضلة (1تي4: 1 - 3).  ولكن ما قصدتُه من وراء هذا المقال هو أن نتنبه للعديد من التحذيرات في هذه الحادثة:

1-   الأجواء الروحية لا تصنع من الشرير قديسًا: إن الأماكن والملابس والمظاهر المعينة والممارسات الدينية الشكلية لا تخلق منا أشخاصًا أتقياء.  لكن فقط العلاقة الصحيحة مع الله بالتوبة والإيمان القلبي هي التي تصنع إنسانًا جديدًا مخلوقًا بحسب الله في البر وقداسة الحق.  ولعلنا لا ننسى جيحزي وكيف أن رفقته مع أليشع رجل الله طول السنين لم تؤثر فيه.  فلقد رأى معجزات أليشع وحياته عن قرب وسمع كلامه، لكن مع كل ذلك تملكت محبة المال على قلبه (2مل5: 20).  ولعلنا لا ننسى أولاد عالى الكاهن وكيف أنهم في وسط أجواء الخدمة كانوا يفعلون أبشع الشرور (1صم2: 22).  كذلك عِشرة يهوذا الإسخريوطي مع المسيح وتلاميذه لمدة تزيد عن ثلاث سنوات لم تغير قلبه الشرير الفاسد!  فهل من كل ذلك عبرة للقارئ؟  فلقد ثبت بالقطع أن هذا الراهب القاتل لا يعرف الله مطلقًا، بل تصرف بقلب شرير في عدم إيمان.

2-  الصَديق الذي لم يُحدّد وجه صاحبه:  إن كنا لا نجد عذرًا للقاتل، لكننا نلوم أيضًا صديقه الذي راقب المشهد أثناء تنفيذ الجريمة، فمن المؤكد أنه كانت بينهما حوارات قبل يوم الحادث، فكان الأحرى بالصديق أن يقوّم صاحبه ويثنيه عن فعلته، فإن كان الجاني قد ملكه الشيطان، وهو القتّال للناس منذ البدء وقد أعمى ذهنه، فلم ير النتائج الوخيمة لفعلته، لكننا نتوقع من صديقه أن ينير ذهنه ويصحّح أفكاره ويردّه إلى صوابه، إذ "الحديد بالحديد يُحدد، والإنسان يحدد وجه صاحبة" (أمثال27: 17)، وأيضًا  "أمينة هي جروح المحب وغاشة هي قبلات العدو" (أمثال27: 6).  وبالحق "إن رفيق الجهال يُضر" (أمثال13: 20).

3-   تجاهل الحواشات الإلهية: ربما لم يدر بذهن الرهبان الذين وقّعوا على التماس عودة الراهب الجاني للدير في فبراير 2018 بعد قرار استبعاده إلى دير مجاور، أنه سيكون عرضة لتجربة وخطية محيطة به بسهولة، وسّهلها له العدو وهي خطية الانتقام.  لعلنا نستشعر ندم الموقعين على التماس العفو، وربما يقولون: يا ليته غادر الدير، لكان ذلك أرحم له ولنا بدلاً من الإساءة التى حدثت للاسم الحسن الذي دُعي علينا (يعقوب2: 7)، في واقعة لن يمحوها التاريخ.  ولعل هذا الموقف ذكّرني ببطرس في حادثة الإنكار، فعندما حاول الدخول، منعته البوّابة، ولكن يوحنا الحبيب لأنه كان معروفًا عند رئيس الكهنة (يو18: 15)، خرج ليتوسط ليدخله، وليته ما توسط.  فبدخول بطرس، دخل مشهد التجربة، إذ أنكر ثلاث مرات أمام الجواري.  ليتنا نصبح أكثر حساسية لمعاملات الرب ولا سيما المعطلات التى يضعها الرب في طريق إرادتنا الجامحة، التي ربما تكون أشواكًا يضعها أمامنا، لكي لا نعبر طريق الضلال (هوشع2: 6).

4-   عدم الخضوع: كما قيل إن الجاني لم يخضع لنظام الدير ولم يكن له عمل مع أنه شاب في الثلاثينات من العمر وعنده قدرة على العمل، للدرجة أن رئيسه اشتكى للبابا، طبقًا للمذكرة المنشورة على المواقع الإلكترونية.  لقد نسي وتناسى الجاني  كلمة الرب التى تدعو للخضوع لكل ترتيب بشري لأجل الرب (1بط2: 13)، والتي تدعو للخضوع أيضًا بكل هيبة للسادة، ليس للصالحين المترفقين فقط، بل للعنفاء أيضًا (1بط2: 18).

5-   عدم قبول الرأي الآخر: حلّل البعض أن ما حدث وراءه اختلاف فكري، لكن هل اختلافي مع فكر الآخر يؤول لعدم قبوله والتخلص منه؟!  وماذا عن المكتوب: "اقبلوا بعضكم بعضًا، كما أن المسيح أيضًا قبلنا لمجد الله" (رومية15: 7)؟  فالمحبة تجعلنا نحتمل أضعاف الضعفاء، وهي التعبير الطبيعي لجريان الطبيعة الجديدة، وعكسها ليس هو الصحيح.

أحبائي: نحن لسنا بمنأى عن هذا، فحتى في أقدس الأجواء، كم من حالات القتل المعنوي والتشهير وقتل السمعة وقتل المواهب لسبب الحسد والغيرة ونقصان المحبة!  فقد نقتل الآخرين بالبغضة، فالكتاب يقول: "مَن يبغض أخاه فهو قاتل نفس" (1يوحنا3: 15).  وهناك قتل بالكلام "هلم نضربه باللسان"  (إرميا18: 18) وقتل بالهذار "يوجد من يهذر مثل طعن السيف" (أمثال12: 18) ... إلخ.  فهل تحذّرنا؟

6-   محبة المال وخطورتها: شهد القريبون من الجاني أنه كانت له تعاملات مادية ومطامع كثيرة، اجتهد المجني عليه أن يثنيه عنها، لكن دون جدوى!  فلقد أعمَت محبة المال عينيه، ولم يعِي لتحذير الوحي: "لأن محبة المال أصل لكل الشرور الذي إذ ابتغاه قوم ضلوا عن الإيمان وطعنوا أنفسهم بأوجاع كثيرة " (1تي6: 10).

7-   الرب لا يغلق باب التوبة: قال أحدهم: "إن شجرة واحدة تعمل مليون عود كبريت، وعود كبريت واحد يحرق مليون شجرة".  إن موقفًا واحدًا رديئًا قد يهدم تاريخ شخص، وإن كان الرب لا يغلق باب التوبة والقبول حتى أمام القتلة.  فموسى قتل المصري، وداود كان السبب في مقتل أوريا الحثي بسيف بني عمون، وشاول قتل مؤمني الكنيسة الأولى، والنعمة قبلتهم جميعًا، ولديها استعداد أن تخلص جميع الناس إن تابوا.

   وفي هذا الحدث كم نشكر الرب أنه لم تنجح محاولة الانتحار للجاني الثاني ليكون له فرصة للتوبة والرجوع للرب لتقبله النعمة، ليكسب حياته الأبدية حتى وإن خسر حياته الجسدية في الزمان.

   ليتنا بعد قراءة هذا الحدث في ضوء كلمة الله، نأخذ هذه الدروس التحذيرية لأنفسنا وإن كانت تكلمت عنها كلمة الله ومعروفة للكثيرين، لكن فيها إنهاض للتذكرة ونحن في خضم الحدث، لنأخذ الحذر لأنفسنا، فليس أحد كبيرًا على الخطأ، فإن تخلت عنا النعمة الإلهية، لسقطنا وكان سقوطنا عظيمًا.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com