عدد رقم 3 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
موسى عند العليقة المتقدة  

تابع ما قبله  (خروج3)

«وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ.  وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ!» (خر3: 1، 2).

قبل أن نتأمل فى كلمات الرب لموسى، دعونا أولاً نميل لننظر هذا ”المنظر العظيم“ للعليقة المُتقدة.  إننا لا نشك أن هذا المنظر له أكثر من معنى عميق.  ليت الرب يمنحنا بصيرة للفهم والتقدير!

روحيًا، تُحدثنا العُلَّيقَة المتقدة عن إنجيل نعمة الله.  والرمز المُستخدم هنا فريد ومذهل: عليقة تتوقد بالنار، إلا أن هذه العليقة لم تكن تحترق، مع كونها قابلة للاشتعال جدًا، فى تلك الصحراء.  هنا نجد ظاهرة عجيبة، لكنها تُعلن عن سر أعجب بكثير.  أما الظاهرة فطبيعية، وأما السر فأدبى.  إن النار فى الكتاب المقدس عادةً ما تُشير إلى القضاء الإلهي، أي إلى قداسة الله فى مناهضة فعالة ضد الشر.  والكلمة النهائية عن هذا الموضوع هي أن «إِلَهَنَا نَارٌ آكِلَةٌ» (عب12: 29).  هنا إذًا السر الأكثر غموضًا: كيف يمكن لله، الذي هو «نَارٌ آكِلَةٌ» – الذي يحرق كل ما لا يتفق مع طبيعته المُقدَّسة، كيف يُمكنه أن يُظهِر ذاته، بدون إحراق أو إفناء؟  أو - لنعبِّر عن ذلك بطريقة أخرى: كيف يمكن لذاك الذي ”عَيْنَاهُ أَطْهَرُ مِنْ أَنْ تَنْظُرَا الشَّرَّ، وَلاَ تَسْتَطِيعُ النَّظَرَ إِلَى الْجَوْرِ“ (حب1: 13)، كيف يُمكنه أن يتعامل مع الناس، بغير الدينونة والقضاء!  فقط إنجيل نعمة الله، يحتوي على العلاج الحقيقي لهذه المشكلة. 

فالإنجيل يُرينا كيف تسود وتملك النعمة، ولكن ليس على حساب البر «هَكَذَا تَمْلِكُ النِّعْمَةُ بِالْبِرِّ، لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ رَبِّنَا» (رو5: 21).

ولكن كيف تحقق ذلك؟!  بصيرورة قدوس الله «لَعْنَةً لأجْلِنَا» (غل3: 13).  من المُميز جدًا أن كلمة ”سنط“ تعني ”عليقة“، لأن الشوك هو المُذكِّر الدائم للعنة (تك3: 18).  ففي موضع اللعنة، دخل بديلنا المُبارك.  لقد لفَّته نيران الغضب الإلهي الرهيب، لكن لكونه «قَوِيٌّ» (مز89: 19)، لم تُهلِكهُ.  لقد استوعب هو نيران الغضب ووفى مطاليب العدل الإلهي وقال قد أُكمل.  لم يفنَ ”العِرْقُ الذي نَبَتَ مِنْ أَرْضٍ يَابِسةٍ“ (إش53: 2).  لم يكن مُمكنًا للموت أن يمسك رئيس الحياة.  لقد بقي فى القبر ثلاثة أيام فقط، وفى اليوم الثالث قام منتصرًا، والآن حيٌّ إلى الأبد.  ولكونه رب القيامة، هو يُخلِّص الآن.  لاحظ كيف يتماشى ذلك أيضًا مع رمزنا.  قال المخلّص للصدوقيين: «وَأَمَّا أَنَّ الْمَوْتَى يَقُومُونَ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ مُوسَى أَيْضًا فِي أَمْرِ الْعُلَّيْقَةِ كَمَا يَقُولُ: أنا اَلرَّبُّ إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ.  وَلَيْسَ هُوَ إِلَهَ أَمْوَاتٍ بَلْ إِلَهُ أَحْيَاءٍ لأَنَّ الْجَمِيعَ عِنْدَهُ أَحْيَاءٌ» (لو20: 37، 38).  ويا له من رمز تام ومتقن: أنه ليس قبل أن يرفض إسرائيل المُخلِّص موسى (خر2: 14)، أن أعلن الله عن نفسه هكذا فى العليقة!

لكن هناك مدلول تدبيري أيضًا.  فبذات الوضوح نجد أن العُليقة هى رمز للأمة الإسرائيلية. ففي الوقت الذي ظهر فيه الرب هنا لموسى، كان العبرانيون يعانون في «كُورِ الحَدِيدِ مِنْ مِصْرَ» (تث4: 20)، لكن كما استعرت النيران بعنف ضدهم لمدة أربعين سنة كاملة، لم يفنوا.  وهكذا أيضًا ثبت خلال كل هذه القرون منذ ذلك الحين.  لقد حُميَّ لهيب نار الاضطهاد ساخنًا عليهم، إلا أنهم حُفظوا بروعة وبإعجاز.  ولماذا؟!  آه، أليس الرمز هنا يُعطينا الجواب؟  الله بذاته كان فى العليقة المُتقدة، وكذلك كان مع إسرائيل.  تمامًا كما كان هناك مع الرجال الثلاث العبرانيين، فى وسط أتون بابل، هكذا كان مع اليهود خلال كل تاريخهم المضطرب.  وفى يوم آتٍ سيتم ذلك بالتمام، لأنه هناك سيظهر أنه «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ، وَمَلاَكُ حَضْرَتِهِ خَلَّصَهُمْ» (إش63: 9).

بالرغم من أن الحفظ المعجزي لإسرائيل، أثناء كل تجاربهم المُحرِِقة، هو - بلا شك - الفكرة البارزة هنا، لكن هناك أفكار أخرى مُساوية فى تميزها ومعانيها.  إن الرمز الذي اختاره الله مُعبِّر جدًا.  لم يظهر الله لموسى فى شجرة وارفة فى الغابة، بل فى شجرة سنط متواضعة، أو عليقة فى البرية.  وكم يلائم ذلك تمثيل كل من الأصل الوضيع للشعب العبراني «أَرَامِيًّا تَائِهًا كَانَ أَبِي» (تث26: 5)، وتاريخهم اللاحق باعتبارهم أمة منفصلة، تسكن البرية.  ليس هذا الكل؛ فهذه العليقة المُتواضعة، التي لا تملك جمالاً ولا جاذبية، صارت – مؤقتًا - مكان سكنى يهوه، ومنها أظهر ذاته لموسى.  ألم يكن هذا هو الحال مع إسرائيل: فمن وسطهم أظهر الله ذاته.

أخيرًا، حقيقة كونها عليقة سنط متقدة بالنار، ترمز بصورة قوية إلى تاريخ إسرائيل الروحي، الذي كان يحمل شوكًا لا ثمرًا، وبالتالي أدَّبه الله.  ويقول لنا علماء الطبيعة أن الأشواك هي أغصان ناقصة النمو، وهي إن نمت، تأتى بأوراق وثمر.

 

«لَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: مُوسَى، مُوسَى!  فَقَالَ: هَأَنَذَا.  فَقَالَ: لاَ تَقْتَرِبْ إِلَى هَهُنَا.  اخْلَعْ حِذَاءَكَ مِنْ رِجْلَيْكَ، لأَنَّ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَنْتَ وَاقِفٌ عَلَيْهِ أَرْضٌ مُقَدَّسَةٌ» (ع4، 5). 

كيف يُساهم ذلك فى تفسير المعنى الأدبي للهيب نار؛ أعمال القداسة الإلهية.  لم يكن مجد الشكينة الحال على كرسي الرحمة على التابوت هو الدليل على حضور يهوه فى وسط إسرائيل فحسب، بل كان الرمز الظاهر لقداسته الثابتة والمستقرة فى قدس الأقداس.

كان الله مزمع أن يتعامل بالقداسة مع كل من المصريين وشعبه، الأمر الذي كان موسى يحتاج أن يتعلَّمه.  كان يجب عليه أن يخلع حذاء مسيره اليومي والحياتي، ويقترب فى روح السجود الحقيقي.  وهو درس مهم آخر لخادم الله في أيامنا هذه.  كل عامل فى كرم الرب، يحتاج أن يضع أمامه باستمرار حقيقة أن الإله الذي يتعامل معه، والذي يخدمه، هو قدوس، قدوس، قدوس؛ قداسة ثلاثية مطلقة.  ومعرفة ذلك تجمح وتكبت خفة الجسد وارتفاعه.

 

«ثُمَّ قَالَ: أَنَا إِلَهُ أَبِيكَ، إِلَهُ إِبْرَاهِيمَ وَإِلَهُ إِسْحَاقَ وَإِلَهُ يَعْقُوبَ.  فَغَطَّى مُوسَى وَجْهَهُ لأَنَّهُ خَافَ أَنْ يَنْظُرَ إِلَى اللهِ» (ع6). 

هكذا وقف الله ظاهرًا أمام موسى باعتباره الله الحافظ العهد؛ إله كل نعمة.  عندما اختار الله إبراهيم وإسحاق ويعقوب، وجعلهم آباءً لشعبه المختار، لم يكن بسبب أي مميزات رآها الله فيهم، أو سبق فعرفها؛ بل بالحري اختارهم من مطلق نعمته الخالصة السيادية.  وهكذا الآن أيضًا، فقد كان الله – تبارك اسمه - على وشك فداء العبرانيين من أرض العبودية، ليس لسبب أي صلاح فيهم، أو منهم، ولكن لكونه إله إبراهيم، الذي له سلطان أن يختار.  وباعتباره إله إسحاق؛ إله القيامة المُحيّ القدير.  وباعتباره إله يعقوب؛ الرب طويل الروح وكثير الإحسان، المُستعد أن يُشمر عن ساعده، ويُظهر قوته ليُحرر شعبه.  وهو يعمل اليوم بذات هذه الشخصية الثلاثية الأوجه.  فإله إبراهيم هو إلهنا الذي - بمطلق سلطانه - اختارنا فى المسيح، قبل تأسيس العالم.  وإله إسحاق هو إلهنا الذي - بقوته المُعجزية - جعلنا خلائق جديدة فى المسيح.  وإله يعقوب هو إلهنا، الذي يتحملنا بصبر غير محدود، ولا يتركنا أبدًا، والذي وعد بأن يتمم كل ما يخصنا (مز138: 8).

 

«فَقَالَ الرَّبُّ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ.  إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ» (ع7). 

لاحظ بتدقيق حالة هؤلاء العبرانيين: مسحوقين بأوجاع عبودية المصريين القاسية لهم، يئنون تحت وطأة قضيب فرعون الحديدي.  وكم يصور لنا هذا حالة الإنسان الطبيعي تحت عبودية الخطية وقيود الشيطان.  وهذا صحيح، ليس فقط على عبد الشهوة، أو ضحية المخدرات، مسلوب الإرادة، بل أيضًا على المؤدب والمهذب.  هؤلاء أيضًا فى عبودية للمال، وللملذات، وللطموح، ولأمور أخرى كثيرة.  فالمذلة التي أتت بها الخطية تُرى فى كل مكان، ليس فقط فى المعاناة الجسدية، بل فى الأرق الفكري والعقلي، وفي كآبة القلب وعدم اكتفائه.  إن شهوات الجسد المتنوعة لهى قاسية لا ترحم، كالمسخرين المصريين فى القديم.  وأوجاع عبيد الخطية اليوم، حادة كتلك التي كانت للإسرائيليين وسط كور مصر الحديدي.  أي بلية مخيفة تكمن حقًا وراء السطح الجذاب للمجتمع!  كم هو مخيف البؤس الذي أتى على كل الجنس البشرى من جراء الخطية!  كم عظيم هو الاحتياج إلى مخلص!  كم هو مريع ذنب رفض المُخلِّص واحتقاره الآن، بعد أن أتى وأكمَّل عمل الفداء!

 

«فَقَالَ الرَّبُّ: إِنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَذَلَّةَ شَعْبِي الَّذِي فِي مِصْرَ وَسَمِعْتُ صُرَاخَهُمْ مِنْ أَجْلِ مُسَخِّرِيهِمْ.  إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ» (ع7). 

إن المتكلِّم هنا يُدعى ”مَلاك الرَّبِّ“ (ع2).  ومن ملاخى3: 1، ومواضع أخرى، نعلم أنه الرب يسوع المسيح ذاته، فى الظهورات الإلهية.  ومن المُلهِم والمُفيد أن نتتبعه ”كمَلاك الرَّبِّ“ فى كل العهد القديم.  والمرة الأولى التي استُحضر أمامنا هكذا فيها فى تكوين16: 13 «فَدَعَتِ اسْمَ الرَّبِّ (مَلاك الرَّبِّ انظر عدد9، 10) الَّذِي تَكَلَّمَ مَعَهَا: أَنْتَ إِيلُ رُئِي.  لأَنَّهَا قَالَتْ: أَهَهُنَا أَيْضاً رَأَيْتُ بَعْدَ رُؤْيَةٍ؟».  الظهور الثاني فى تكوين21: 17 «وَنَادَى مَلاَكُ اللهِ هَاجَرَ مِنَ السَّمَاءِ وَقَالَ لَهَا: مَا لَكِ يَا هَاجَرُ؟ لاَ تَخَافِي، لأَنَّ اللهَ قَدْ سَمِعَ لِصَوْتِ الْغُلاَمِ حَيْثُ هُوَ».  وهكذا، فى القرينة الثالثة هنا فى خروج3 اجتمع كل مَن ”رَأى“ و”سَمِعَ“؛ الأمرين المحوريين فى القرينتين الأوليتين.  ليتتبع القارئ المهتم الإشارات الأخرى عنه.  كم هو مبارك لنا أن نعلم أن هناك فى العلا من لا ينعس ولا ينام، بل ”يسمع“ و”يرى“ كل مذلتنا!

 

 «إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ» (ع7).

يجب أن يقارن هذا بخروج 2: 23 «وَحَدَثَ فِي تِلْكَ الأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ مَاتَ.  وَتَنَهَّدَ بَنُو إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعُبُودِيَّةِ وَصَرَخُوا، فَصَعِدَ صُرَاخُهُمْ إِلَى اللهِ مِنْ أَجْلِ الْعُبُودِيَّةِ»، أو – كما جاء في ترجمة أخرى – ”وَحَدَثَ خِلال تِلْكَ الأَيَّامِ الْكَثِيرَةِ أَنَّ مَلِكَ مِصْرَ مَاتَ ... إلخ“.  كم تنبض تلك الكلمات بالمشاعر الإلهية!  لقد مر عليهم بين الـ14 والـ 15 ألف ”يوم“، أثناء الأربعين سنة لرحلة موسى فى مديان، وكان كل يوم منها يوم معاناة وحزن لهم.  لكن الله لم يتجاهلهم، ولا كان غير مكترث بنصيبهم الشاق، بل «إِنِّي عَلِمْتُ أَوْجَاعَهُمْ».  كم هو مبارك لنا، فى وقت الضيق والحزن، أن نتذكر أن هناك فى العلا مَن يُلاحظ.  هكذا طمأن أيوب نفسه «لأَنَّهُ يَعْرِفُ طَرِيقِي» (أي23: 10).

         

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com