عدد رقم 2 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
تأملات في راعوث 3  


    صحيح أن هذا السفر يُسمى سفر راعوث، لكن الحقيقة أن موضوع السفر يتجه إلى بوعز وليس إلى راعوث، أو بالحريّ إلى ذاك الذي ينحدر من نسل بوعز وهو داود.  ولذلك نقرأ في نهاية السفر أن «بوعز ولد عوبيد وعوبيد ولد يسّى ويسّى ولد داود».  هذا هو غرض الروح القدس الأساسي والجوهري من هذا السفر، باعتبار أن السفر في طبيعته سفرٌ نبويٌّ يتكلم عن رجوع البقية مستقبلاً إلى المسيّا، داود الحقيقي.  ولا شك أنه إلى جانب النواحي النبويّة في هذا السفر هناك دروس أدبيّة رائعة، ذلك لأن سياسة الله مع شعبه القديم هي نفسُها سياسته التي يدرّب بها النفس أدبيًا في تعاملها مع الله.  وسوف يتعامل الله مع الأمّة مستقبلاً ويجيزها في الامتحان لكي ينقيها، كما تعامل مع نُعمي في هذا السفر، حيث يُذكر في زكريّا 13 :8 «والثلث يبقى فيها»، أي لن يبقى فيها سوى الثلث بعد التنقية، والرب سوف يُحسن إلى هذا الثلث ويباركه كما يقول في صفنيا 3 :12 «وأُبقي في وسطك شعبًا بائسًا ومسكينًا، فيتوكلون على اسم الرب».

   لقد تعامل الرب مع نُعمي، التي تشير إلى الأمة، معاملات خاصة وشديدة حتى شعرتْ أنها أصبحت فارغة كما تقول في الأصحاح الأول.   وعند نقطة نهاية الإنسان تبدأ النعمة من هذه النقطة عملها.  وفي أصحاحنا هذا نجد، ليس عمل الله مع الأمة فقط ممثلاً في نعمي، بل أيضًا  ما يشير إلى عمل الله الفردي مع النفس لقيادتها لمعرفة ربنا يسوع المسيح. 

    قالت نُعمي لراعوث: «ألا ألتمس لك راحة ليكون لك خير...» (ع1).  ولكن نلاحظ أن هذا الكلام لم يظهر إلا بعد ظهور بوعز في المشهد، بمعنى أن نُعمي كانت قد نسيتْ بوعز تمامًا مع أنه وليّ، ولكن لكي يكتمل الرمز ظهرتْ راعوث التي تشير إلى البقية، وبظهورها ظهر بوعز في هذا الفصل وهو يذرّي بيدر الشعير ليلاً.

   نلاحظ أنه في بداية رجوعهم كان بوعز أيضًا في بداية حصاد الشعير.  وحصاد الشعير هو إشارة إلى القيامة.. وفي أع 13 يربط الرسول بولس قيامة المسيح مع مراحم داود الصادقة، أي أن هذه المراحم لن يتمتع بها الشعب إلا على أساس القيامة.  أما كوْن بوعز يذرّي بيدره فهذا إشارة إلى فترة التذرية التي سيجتازها الشعب، وهو ما قاله المعمدان عن الرب يسوع المسيح في افتتاحية إنجيل متى ص3 :12 «الذي رفشه في يده وسينقّي بيدره».  هذا هو مُلخَّص تاريخ معاملات الله مع شعب إسرائيل في المستقبل.  صحيح أنه على أساس قيامة المسيح أصبح لهم «مراحم داود الصادقة»، ولكن قبل البركة لا بد من التنقية أو التذرية، وهذا يعلمنا درسًا أدبيًا هامًا لنفوسنا وهو أن التنقية دائمًا وأبدًا تسبق البركة.

   «اغتسلي» .. نعلم أن المؤمنين قد اغتسلوا «بغُسْل الميلاد الثاني» (تيطس 3)، «مُغتسَلة أجسادُنا بماءٍ نقيّ» (عب10)، «الذي قد اغتسل فليس له حاجة إلا إلى غسل رجليه» (يو13).  هذا كله يقيني، ولكن الاغتسال الذي تقصده نُعمي هنا ليس هو الاغتسال الذي تشير إليه الشواهد السابق ذكرُها، وذلك لأن راعوث كانت وقتئذٍ مؤمنة، ولكنه يشير إلى الاغتسال من الناحية العمليّة الذي ورد في (أف5 :25، 26) «أحب المسيح أيضًا الكنيسة وأسلم نفسه لأجلها، لكي يقدّسها مُطهّرًا إياها بغَسْل الماء بالكلمة».  هذا هو الاغتسال الذي يحتاجه المؤمن كل الطريق، ويحتاجه بالأخص قبل وجوده في محضر الله لتهيئته لنوال البركة سواء في الاجتماعات أو الشركة الفردية أو العائلية.

   "اغتسلي عندما قال الله ليعقوب «قم اصعد إلى بيت إيل»، قال يعقوب لأهل بيته – بدون وصية من الله: «اعزلوا الآلهة الغريبة التي بينكم وتطهروا وأبدلوا ثيابكم» (تك35 :2).  فالوجود في محضر الله يتطلب التهيئة الأدبية المناسبة مع هذا المحضر.  وليس من الروحانية في شيء أن يعتاد  المؤمن حضور الاجتماعات الروحية من باب الاستخفاف، بل عليه أن يشعر بارتعاد مقدس أنه في محضر الله.

   "وتدهّني"، إذا  كان الاغتسال هو جمال القداسة والطهارة التي تعملها كلمة الله في النفس، فإن التدهن هو رائحة المسيح الزكية التي ينشئها الروح القدس، «مادام الملك في مجلسه أفاح نارديني رائحته» (نش1: 12).

  "والبسي ثيابك"، كان عليها أن تُبدّل الثياب التي اعتادت أن تلبسها سابقًا، وترتدي ثيابًا راقية ونظيفة تتناسب مع مقام بوعز الرفيع «لتكن ثيابك في كل حين بيضاء» (جا9 :8).  والثياب إشارة إلى السلوك الراقي غير الملوم في شيء.

   "وانزلي إلى البيدر"، كل ما سبق كان خطوات لازمة، لكن بقيَت هناك خطوة أخرى مهمّة جدًا في طريق البركة.  فقد كان من المُفترض أن يلي هذه الخطوات الهامة صعودٌ إلى أعلى، ولكننا نرى هنا نزولاً إلى أسفل.  في هذا الأصحاح نجد بوعز في مكانٍ منخفض، في البيدر،  بينما في ص4 نجد بوعز يصعد.  هذا هو فكر المسيح الذي نتعلمه من فيلبي 2 «فليكن فيكم هذا الفكر الذي في المسيح يسوع أيضًا».

   ثم نتعلّم شيئًا آخر وجميلاً عن الرب.  تقول لها نُعمي «ولكن لا تُعرفي عند الرجل حتى يفرغ من الأكل والشرب».  كان ينبغي أن يتمم المسيح مشيئة الآب أولاً قبل حصولنا نحن على كل الامتيازات بالنعمة المطلقة.  فقد كان تتميم مشيئة أبيه هو شبَعه وسروره.  المسيح كان له أكل وشرب خاص به «طعامي أن أعمل مشيئة الذي أرسلني وأتمم عمله» (يو4: 34).  لقد أكل وشبع على الصليب عندما قال «قد أكمل».  بالحقيقة كان هذا هو سروره واكتفاؤه وشبعه.

   "واعلمي المكان"، نلاحظ تدقيق نُعمي في طريقة تصرّف راعوث حتى ما يكون كل شيء بحسب فكر الرب تمامًا.  ما أبعد الفرق بين كلام نُعمي في الأصحاح الأول وكلامها هنا في الأصحاح الثالث، حيث يظهر هنا في الأصحاح الثالث تأثير التدريب الإلهي وقد عمل عمله في نفسها، وكأنها نظير يعقوب الذي - في نهاية حياته - «وضع يديه بفطنة» (تك48).

   "وادخلي"، وهي كلمة - بالنسبة إلى المؤمن -  تشير إلى الشركة مع الرب.  كل كلمة في هذا الفصل نجد أنها تحمل طابعًا عمليًا "اعلمي .. ادخلي .. اكشفي .. اضطجعي".  والنتيجة المؤكدة هي «وهو يخبرك بما تعملين».  إن الرب مستعدٌ دائمًا لتوجيهنا وقيادتنا وإرشادنا، ولكنه يريد – قبل ذلك – أن نكون في شركة معه.  «أعلّمك وأرشدك الطريق التي تسلكها، أنصحك عيني عليك» (مز32: 8).  هذا الامتياز العظيم والغالي لا يتحقق إلا عندما نكون في شركة معه، فكوْنه يخبرنا بما نعمل ولا يتركنا لأفكار جهالتنا، لهو بركة عظيمة لا تُقدَّر بثمن.

  «فقالت لها: كل ما قلت أصنع.  فنزلت وعملتْ حسب كل ما أمرتْها به حماتُها».  لقد أظهرت كل طاعة وتجاوب مع تعليمات نُعمي، والرب دائمًا يتجاوب مع الأشواق.  كانت هناك أشواق في قلب نُعمي، وقد تجاوب الرب مع أشواق قلبها حتى نقرأ أن «الرجل اضطرب».  لقد تحركتْ أحشاء الرب، وأثّر تأثيرًا مباشرًا على بوعز، حتى أنه «اضطرب والتفت».  وهذا يذكّرنا بأشواق قلب التلميذين اللذين تبعا يسوع، فتجاوب الرب مع أشواقهما، ودون أن يتكلما، التفت الرب ونظرهما وقال لهما «ماذا تطلبان»؟ (يو1).

   وفي يو20 نقرأ عن امرأة لم ترجع فارغة إزاء أشواقها وهي المجدليّة، فقد أرادت أن تحصل على جسد الرب مع أنه كان جسدًا ميّتًا، ولكن الرب أجاب على هذه الأشواق القلبيّة والحقيقيّة حتى ولو كانت مُختلطة بالجهل، فقد تجاوب بما يُشبع تمامًا قلب المجدليّة وأشواقها.  إن الرب يطلب أشواقًا حقيقية ويقدّرها حتى ولو كانت أحيانًا مُختلطة بالجهل، أكثر من تعليم صحيح دون أشواق.  ففي هذه الحالة الأخيرة تكون الأقوال ليست سوى عبارات جوفاء كنحاسٍ يطن أو صنجٍ يرن.

    فقال لها: «لا تخافي.. كل ما تقولين أفعل لك» (ع11).  وهذا عيْن ما وعد الرب به تلاميذه في يو15 «إن ثبتّم فيّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون فيكون لكم».  «مهما سألتم باسمي فذلك أفعله» (يو14: 13).  بمعنى أن الطلب الذي يُنشئه الروح القدس، أو الذي في الحقيقة يطلبه الرب نفسه، لا بد وأنه يُستجاب.

   في هذا الفصل نجد مكافآت رائعة لراعوث، من أجملها ما قاله بوعز نفسُه عنها «لأن جميع أبواب شعبي تعلم أنك امرأة فاضلة (ع11)».  فما أعظم وما أحلى الشهادة التي نتلقاها من الرب نفسه.  وما أجمل المديح، ليس من فم الناس، ولكن من فم الرب نفسه الذي له كل المجد آمين.                                                     

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com