عدد رقم 2 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أبْطَال وأفْعَال ... ودروسٌ للأجْيَال  

 (قراءة في أبْطَال داود)  (2صم23؛ 1أخ11، 12)  (13)
 تحدثنا فيما سبق عن بعض الصفات والسمات الأدبية التي يتشارك فيها أبطال داود، وعن مقاييس البطولة الروحية الصحيحة، ونواصل في هذا العدد حديثنا عن:

ثاني عشر: الأبطال الروحيون وعدم ضياع الفرصة لإكرام مسيح الرب (1أخ12: 19-22):

«وَسَقَطَ إِلَى دَاوُدَ بَعْضٌ مِنْ مَنَسَّى حِينَ جَاءَ مَعَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ ضِدَّ شَاوُلَ لِلْقِتَالِ وَلَمْ يُسَاعِدُوهُمْ، لأَنَّ أَقْطَابَ الْفِلِسْطِينِيِّينَ أَرْسَلُوهُ بِمَشُورَةٍ قَائِلِينَ: إِنَّمَا بِرُؤُوسِنَا يَسْقُطُ إِلَى سَيِّدِهِ شَاوُلَ.  حِينَ انْطَلَقَ إِلَى صِقْلَغَ سَقَطَ إِلَيْهِ مِنْ مَنَسَّى عَدْنَاحُ وَيُوزَابَادُ وَيَدِيعَئِيلُ وَمِيخَائِيلُ وَيُوزَابَادُ وَأَلِيهُو وَصِلْتَايُ رُؤُوسُ أُلُوفِ مَنَسَّى.  وَهُمْ سَاعَدُوا دَاوُدَ عَلَى الْغُزَاةِ لأَنَّهُمْ جَمِيعاً جَبَابِرَةُ بَأْسٍ، وَكَانُوا رُؤَسَاءَ فِي الْجَيْشِ.  لأَنَّهُ وَقْتَئِذٍ أَتَى أُنَاسٌ إِلَى دَاوُدَ يَوْمًا فَيَوْمًا لِمُسَاعَدَتِهِ حَتَّى صَارُوا جَيْشًا عَظِيمًا كَجَيْشِ اللَّهِ» (1أخ12: 19-22).

سُجّلَت القصة الكاملة، عن الوقت الذي كان فيه داود في صِقلَغ، في سفر صموئيل الأول 27-30.  كان قد وصل إلى مرحلة شعر فيها أنه لم يعد له ملجأ آمن في إسرائيل.  ومن المستغرب أن أَخِيشَ مَلِكِ جَتٍّ وفر له الملجأ، وخصَّص له مدينة صِقلَغ.  ولستة عشر شهرًا الأخيرة من نفيه، أقام داود ورجاله في هذه المدينة صِقلَغ (1صم27: 1-7).  وأثناء هذه الفترة كان هناك انحسار للمساندة والدعم لشاول، بينما كانت الوفود تتقاطر إلى داود أفواجًا (1أخ12: 1-15).

وفي 1أخبار 12: 19-22 نجد سجلاً لبعض مِن سبط مَنَسَّى انضموا إلى داود.  وهذه الحادثة لها أهمية خاصة، ولهذا استحقت إشارة بتفصيل دقيق، وقد حدثت هذه الحادثة قرب نهاية وجود داود في أرض الفلسطينيين، عندما مُنع من أن ينضم برجاله إلى الفلسطينيين الذين جمعوا جيوشهم لكي يُحاربوا إسرائيل (1صم28: 1، 2؛ 29: 1-11).  وقد حدث أنه أثناء وجود داود ورجاله مع أخيش ملك جت، أن العمالقة غزوا الجنوب وصِقلَغ التي كان قد أعطاها أخيش لداود ورجاله، وضربوا صِقلَغ وأحرقوها بالنار، وسبوا النساء اللواتي فيها.

ويبدو أن قصد هؤلاء الرجال الذين جاءوا إلى داود من مَنَسَّى كان أن يُدعموا داود ورجاله الذين انضموا للفلسطينيين، وكانوا على وشك أن يُهاجموا ويُحاربوا شاول ورجال إسرائيل!  ولكن العناية الإلهية تدخلت لمنع ذلك.  ومن وجهة النظر البشرية فإن عدم تورط داود في هذه الحرب كان راجعًا لمشورة أقطاب الفلسطينيين الحكيمة (1أخ12: 19؛ 1صم29: 3-5).  فلقد كان عند أقطاب الفلسطينيين قدر كاف من الإدراك ليتبينوا أن وجود مثل هؤلاء الإسرائيليين المتطوعين الذين لم يُمتحن ولائهم قبلاً، إنما يُمثل خطأً استراتيجيًا خطيرًا للغاية على جيش الفلسطينيين، ففي لحظة ما يستطيع هؤلاء الرجال أن يُغيّروا موقفهم، وينحازوا إلى الملك شاول.  والحقيقة أن ذات أقطاب الفلسطينيين كانوا أدوات في يد الرب استخدمهم ليُنقذ داود من وضعه الغريب، ضمن صفوف الفلسطينيين، على وشك أن يرفع سيفه لمحاربة صفوف الله الحيّ!  لكن لم يكن ممكنًا أن هذا يحدث، فالله في محبته كان يُراقب تائهه المسكين، وكانت لديه مراحم متنوعة مختزنة له، وأيضًا بعض الدروس المُذلة والتدريبات المؤلمة.

وعندما أقفل داود راجعًا وانطلق ليرجع هو ورجاله إلى أرض الفلسطينيين؛ إلى صِقلَغ، جاء إليه سبعة من القادة ورؤوس الألوف من مَنَسَّى، والمذكورة أسمائهم في ع20[1].  وقد كانت لمساعدتهم قيمة عظيمة في تعقب العمالقة وهزيمتهم (ع20، 21؛ 1صم30: 16-20).

ويجدر بنا أن نذكر أن هذا حدث في وقت كانت قد ثبطت عزائم رجال داود الأصلين، بدرجة كبيرة، وأصبحوا على حافة التمرد (1صم30: 6).  وبعض من هؤلاء الرجال وُصفوا بأنهم «كُلُّ رَجُلٍ شِرِّيرٍ وَلَئِيمٍ» (1صم30: 22)، ولذلك يجب ألا نفتكر قط أن كل رجل من السِّتّ مِئَة الرجل الذين كانوا مع داود، كان أمينًا ومُخلصًا، مثل هؤلاء الأبطال الذين تناولناهم بالتعليقات السابقة.  ففي كل جماعة يوجد البعض من ذوي الطباع المتسمة بالقسوة أو غير الأمناء، الذين يروا في القلاقل والمشاكل الحاضرة فرصة للاستفادة الشخصية.  والكثيرون من المُتضايقين ومَن كان عليه دَيْنٌ أو مُرِّ النَّفْسِ، الذين اُجتذبوا إلى مَغَارَةِ عَدُلَّامَ (1صم22: 2)، ربما كانوا ذوي طباع غير سليمة.  ولذلك ففي هذه الظروف، كان المتطوعون الذين جاءوا إلى داود من مَنَسَّى، لا يُقدرون بثمن.

لقد وصل هؤلاء الرجال إلى صِقلَغ في الساعات الأخيرة قبل المعركة التي قُتِلَ فيها شاول، والتي مهدت لأن يملك داود في حبرون، حيث لم يعد معروفًا من البعض فقط، بل من جميع الأسباط (ع23-40).  وكان هؤلاء الرجال جميعًا أقوياء وجبابرة بأس (ع21)، وجاءوا لكي يُشاركوا داود كرامة ليس ضئيلة عند رفضهم من الفلسطينيين.  ويا ليتنا نُسرع مثلهم في الاجتماع حول المسيح وهو في زمان رفضه، ولنُسرع بالاعتراف به ربًا ومُخلّصًا، قبل أن يأتي الجميع إليه خاضعين قهرًا عند ظهوره وملكوته!  إن خضوعنا طواعية له في زمان رفضه وعدم اعتراف العالم به، يُجلِب لقلبه مسرة خاصة.  إنه – تبارك اسمه – يُحب أن يُعلِن أن الذين يلتصقون به في آلامه ورفضه، سيكونون كنزه الخاص في يوم ملكه ومجده.

دَعْنِي أُكْرِمْ اِسْمَكْ وَأرْفَعْهُ الآنْ
فَمَرْيَمْ وَحْدَهَا قَدْ فَازَتْ بِالنِّيشَانْ

 

لِئَلاَّ تَمْضِي الْفُرْصَهْ وَيَنْتَهِي الزمانْ
وَطِيبُ الْمَرْيَمَاتِ فَاتَهُ الأوَانْ

ومِن أي قسم من سبط مَنَسَّى جاء هؤلاء؟  أَمِن شرق الأردن أم من الغرب؟  الحقية أننا لسنا متأكدين من الأمر تمامًا.  ولكن الإشارة السابقة إلى الجاديين (1أخ12: 8-15)، تُوحي بأن هؤلاء الرجال الذين من مَنَسَّى كانوا من جيرانهم.  فالأرجح أنهم كانوا يقطنون على الجانب الشرقي البعيد من الأردن.  وإذا كان ذلك كذلك، فماذا عن الأسباط الأخرى التي في عبر الأردن؟!  ماذا عن سبط رأوبين؟!  هل من المحتمل أن الجيل الحاضر عندئذٍ كانوا غير مبالٍ، شأنه شأن أسلافهم في أيام دبورة النبية؟!  فعند دعوة باراق بن أبينوعم للحرب، ورغم كل الجدال والأسئلة الفاحصة للنفس، لم يفعل رأوبين شيئًا، بل أقام ”بَيْنَ الْحَظَائِرِ“ «عَلَى مَسَاقِي رَأُوبَيْنَ أَقْضِيَةُ قَلْبٍ عَظِيمَةٌ.  لِمَاذَا أَقَمْتَ بَيْنَ الْحَظَائِرِ لِسَمْعِ الصَّفِيرِ لِلْقُطْعَانِ.  لَدَى مَسَاقِي رَأُوبَيْنَ مَبَاحِثُ قَلْبٍ عَظِيمَةٌ» (قض5: 15، 16).  ويبدو أن صفة عدم الثبات لسلفهم الأكبر؛ رأوبين، قد طبعت ملمحها الدائم على السبط (تك49: 3، 4).  كانوا جالسين خلف أسوار الحظائر، ولم يلقوا قرعتهم مع داود إلا بعدما ملك في حبرون (1أخ12: 23، 37).  وقد كان أمرًا جيدًا على كل حال أن السبطين ونصف السبط الذين في شرق الأردن قد تجمعوا أخيرًا إلى داود، لأن نظام حكم ”إِيشْبُوشَثَ بْنَ شَاوُلَ“  كان قد هُمِّشَ للغاية، حتى أنه تمركز في ذلك الجانب من الأردن (1أخ12: 23، 37).  والآن فإن الآثار القليلة من المعارضة قد استُبعدت تمامًا، إذ أقرت جميع الأسباط بحق داود في اعتلاء العرش (ع37).  فيا ليتنا نكون أقل ترددًا وخوفًا في التزامنا نحو الرب يسوع!

لقد وصل رجال مَنَسَّى متأخرين (ع19-21)، مثلما كان الرجال الذين استؤجروا في الساعة الحادية عشر، الذين فقدوا فرصة وشرف وفرح خدمة السَّيد الكريم، لجزء كبير من النهار (مت20: 6، 7).  ولكن في كلتا الحالتين كان اسهامهما نافعًا.  ومن المؤكد أن الوصول متأخرًا أفضل من ألا نصل مطلقًا.  ولقد كان وصول رجال مَنَسَّى إلى داود بداية لوصول المعونات إلى داود إلى مستويات قياس هائلة، فإذ تعاقبت الأيام يومًا فيومًا تدفقت المساندة، وأخذت الوفود تتقاطر وتتجمع «لأَنَّهُ وَقْتَئِذٍ أَتَى أُنَاسٌ إِلَى دَاوُدَ يَوْمًا فَيَوْمًا لِمُسَاعَدَتِهِ حَتَّى صَارُوا جَيْشاً عَظِيمًا كَجَيْشِ اللَّهِ» (ع22).

وعبارة «يَوْمًا فَيَوْمًا» لها نظيرها في العهد الجديد، فيما حدث عقب يوم الخمسين، إذ «كَانَ الرَّبُّ كُلَّ يَوْمٍ (يَوْمًا فَيَوْمًا) يَضُمُّ إِلَى الْكَنِيسَةِ الَّذِينَ يَخْلُصُونَ» (أع2: 47).  وكم كان عجيبًا أن نرى يوميًا التزايد الذي يحدث مع تقدم الإنجيل، في هذه المرحلة من عصر الكنيسة.

ولكن ماذا عن نصف سبط مَنَسَّى القاطن في غرب الأردن؟  بعدما ملك داود في حبرون، استطاع تجميع «ثَمَانِيَةُ عَشَرَ أَلْفًا قَدْ تَعَيَّنُوا بِأَسْمَائِهِمْ» - من إخوتهم - «لِيَأْتُوا وَيُمَلِّكُوا دَاوُدَ» (1أخ12: 23، 31).  ربما كان هذا يُشير إلى كل الذين كانوا لائقين أن يأتوا، أو الذين كانوا راغبين أن يأتوا.  كانت هناك شركة تامة بين جميعهم، فكانت هذه المشاركة في إرسال إخوتهم، إذ قد عرفوا الذين بينهم بما لهم من كفاءات خاصة لتتميم مسؤولياتهم.  فكان هؤلاء الرجال قد اُنتخبوا ليكونوا مُوفدين من السبط.  وهكذا كانوا قادرين أن يرفعوا رؤوسهم كممثلين مُكرَّمين لِمَنَسَّى.  وكان لهم شرط محدد بدقة، هو أن «يُمَلِّكُوا دَاوُدَ» (ع31)، وإنهم قد كرسوا كل ذرة من الطاقة والإقدام لهذا الهدف.  والآن أصبحت عليهم مسؤولية أن يُبرهنوا أنهم جديرون بالثقة التي وُضعِت فيهم.  إن الامتيازات تُجلِب المسؤولية، والمسؤولية تستوجب المراجعة والمحاسبة.  فكل خادم للرب يجب أن يكون لديه شعور بأنه مسؤول نحو الرب أولاً، ولكن يوازن ذلك أن الخادم عليه أن يشعر بالمسؤولية نحو أولئك الذين أظهروا ثقة فيه، ولهذا رجع بولس وبرنابا إلى اجتماعهم الذي دعاهم للعمل «وَلَمَّا حَضَرَا وَجَمَعَا الْكَنِيسَةَ، أَخْبَرَا بِكُلِّ مَا صَنَعَ اللهُ مَعَهُمَا» (أع14: 27).    

                                                                                (يتبع)


[1] معاني الأسماء الواردة في عدد 20: (1) عَدْنَاحُ معناه بهجة.  (2) يُوزَابَادُ معناه الرب أعطى.  (3) يَدِيعَئِيلُ معناه معروف من الله أو الله يعرف.  (4) مِيخَائِيلُ معناه مَن مثل الله؟  (5) يُوزَابَادُ معناه الرب أعطى. (6) أَلِيهُو معناه هو الله، أو الله هو، أو الله نفسه.  (7) صِلْتَايُ معناه يهوه ظل أو يهوه ملجأ أو ظل يهوه أو مُظلَّل. 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com