عدد رقم 2 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
بيلي جراهام الكارز البسيط  

   رحل رجل الله المقدس، بيلي جراهام، في فبراير 2018 بعد حياة حافلة مكرسة، وعمر ناهز المئة عام، فتكلم العالم المسيحي كله عن حياة هذا البطل الكارز والمؤثر.  ولا أكون مبالغًا لو قلت عنه إنه الأشهر والأكثر تأثيرًا وسط الكارزين على مستوى العالم في جيلنا المعاصر والأجيال التى سبقتنا، لأنه عاصر أكثر من جيل.  لقد حظي باحترام بالغ وتقدير عظيم، وكانت له هيبة سماوية، على مستوى كل رؤساء الولايات المتحدة الذين عاصروه.  لذلك استحق أن تُعمَل له جنازة ملكية يحضرها الرئيس الأمريكي ونائبه وكبار رجال الدولة. وكان هذا ما يليق به لأنه أفنى حياته في خدمة السيد الذي قال: «حاشا لي فإني أكرم الذين يكرمونني» (1صم2: 30)، وأيضًا «إن كان أحد يخدمني يكرمه الآب» (يو12: 26).  كان لا يحابي بالوجوه، ويدافع عن الحق بكل قوة ويتصدى لكل تيارات الشر الجارفة مهما كانت الكلفة، وكان يحترم كلمة الله إلى أقصى حد.  ولقد تابعت منذ سنوات بعض خدمات هذا البطل لأرى لماذا هذا التأثير الرهيب من وراء خدماته، للدرجة التي كان يحضر له مئات الآلاف، وربح في مدار حياته الملايين.  بالتأكيد هناك عدة أسباب وراء تأثير بيلي جراهام الطاغي، حيث أن الذين يلمعون تحت الأضواء الكاشفة عادة ما يكون وراء ذلك تدريبات في السر لا يعلمها أحد غيرهم والرب والمقربون منهم.  وبالتأكيد أنه كان رجل صلاة من الطراز الأول، وكان يعيش حياة تقوية مقدسة ومكرسة على أعلى مستوى، وكان مؤيدًا بقوة الروح القدس، وكان حقيقيًا لا يعرف التمثيل، وكان متضعًا لا يبحث عن النجومية، وكان رجل الكتاب ولا يُقدم للنفوس سوى كلمة الله دون غش.  لكن أحد هذه الأسباب يستطيع أن يلمحه أي مستمع له هو البساطة في الأسلوب، لدرجة أن أي متابع له يلاحظ أنه كيف بأبسط الكلمات تخلص النفوس.  فهو لا يقدم عظة دسمة كتابية على قدر ما يقدم رسالة الإنجيل واضحة للنفوس.  لا يقدم معلومات عسرة الفهم، بل يقدم عبارات يفهمها الجميع تصل للمستمع من أقصر طريق.  ولقد تعلمت منه أن العظمة الحقيقية للخادم، ليست في عمق البلاغة والفصاحة والفلسفة وقوة الإقناع، إنما في عمق التأثير والوصول للنفوس وما سيُترك فيهم.  هذا ما كان يفعله بولس حيث لم يعتمد قط على كلام الحكمة الإنسانية المقنع بل على برهان الروح والقوة (1كو2).  والواعظ يؤثر في الآخرين بقدر تواصله مع من يسمعونه.  ولنا في كلمة الله دروس عظيمة عن بساطة الخادم وأسلوبه:

1- طريق الخلاص بسيط: في إحدى الرموز لصليب المسيح نقرأ عن ”الحية النحاسية“ (عد21)، ومن ينظر إليها بإيمان كان يحيا رغم سم الحيات المحرقة.  كذلك ”مدن الملجأ“ في (يش20)، والرب أمر بأن يكون الطريق المؤدي لهذه المدن ممهدًا لكي يهرب إليها، ولا يجد عائقًا، من قتل نفسًا سهوًا، فيجد فيها الحماية.  فبأبسط الكلمات تخلص النفوس.  قال بولس بالوحي: «الكلمة قريبة منك في فمك وفي قلبك، أي كلمة الإيمان التي نكرز بها، لأنك إن اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات خلصت» ( رو10 : 8، 9).  

 2- بساطة الرب يسوع: ليتنا نعود للبساطة مرة أخرى، فكم من المرات علونا بالكلام أكبر من طاقة المستمعين ونسينا أن الرب يسوع، وهو أعظم كارز، كان يعظ ببساطة «وبأمثال كثيرة مثل هذه كان يكلمهم حسبما كانوا يستطيعون أن يسمعوا» (مرقس4: 33)، أي كان يراعي طاقتهم الاستيعابية ويراعي طاقتهم الذهنية.  لقد تجسد لكي يصل إلينا ويتكلم بلغتنا ويستخدم نفس تعبيراتنا ويوضح مفاهيم روحية عالية بأبسط التشبيهات: خمر وعجين وشبكة وسراج وخروف وزرع وبذور طيور وزهور... الخ.  ومرات لم يكتفِ ببساطة الأمثال، لكنه كان أيضًا يفسر لهم مدلولها.  في بساطة كان يسمعه الجميع، ألا يلفت انتباهنا وجود غلام، وهو صاحب الأرغفة والسمكتين، وسط الجموع الغفيرة التي جلست تسمع الرب.  لو كان الكلام عاليًا ولا يُناسبه، هل كان سيجلس ويبقى معهم هذه الفترة الطويلة؟!  فكلام الرب وحتى كلمات الكتاب المقدس يفهمها الطفل والعالِم في ذات الوقت، لكننا نحن الذين صعبنا الطريق على شعب الرب.

3- البساطة ونوعية المستمعين: الحديث الذي اتبعه الرب مع السامرية ( يوحنا4) أبسط من الحديث الذي انتهجه الرب مع نيقوديموس (يوحنا3)، ومادة الحديث مختلفة.  فالرب راعى احتياج المستمع، فاحتياج نيقوديموس المتدين كان للولادة من فوق ويستطيع الرب أن يكلمه بوضوح وباختصار عن حادثة الحية النحاسية التي رفعها موسى ويستوعب نيقوديموس، لكن مع السامرية الحديث اختلف، فاحتياج السامرية المزواجة كان للارتواء من مياه إذا شربت منها لن تعطش أبدًا.  فلكي نتواصل مع المخدومين علينا أن نخاطب تسديد احتياجهم الحقيقي من خلال كلمة الله.  ماذا لو خدمنا وسط القرويين؟  هل سنخدم بذات الأسلوب الذي نخدم به في المدينة؟  ماذا لو خدمنا الفقراء واجتماع الأرامل؟  هل سنقدم مصطلحات تعودناها وهم لا يفهمون أبعادها؟

4- بساطة بولس: البعض يقول عن بولس فيلسوف المسيحية لعمق المادة التي يقدمها، حتى بطرس نفسه قال عن إحدى رسائله: «فيها أشياء عسرة الفهم» (2بط3: 16).  لكن تعالوا نرى ماذا يقول بولس عن خدمته: «الذي من جهته الكلام كثير عندنا وعسر التفسير لننطق به، إذ صرتم متباطئي المسامع» (عبرانيين5: 11).  فما منع بولس عن عمق الكلام بطء استماع وفهم العبرانيين.  وقال لإخوة كورنثوس: «لم أستطع أن أكلمكم كروحيين، بل كجسدين كأطفال في المسيح، سقيتكم لبنًا لا طعامًا لأنكم لم تكونوا بعد تستطيعون، بل الآن أيضًا لا تستطيعون» (1كو3: 1، 2).  ومعروف أن اللبن العقلي للأطفال وأما الطعام القوي فللبالغين (عبرانيين5: 14).  البعض يقول إن بولس قال لقسوس كنيسة أفسس إنه لم يؤخر شيئًا من الفوائد إلا وأخبرهم بها (أعمال20: 20)، لكن راعي أن هذا حدث في ثلاث سنوات وليس في عظة واحدة.  البعض يريد أن يقول في العظة كل ما يعرفه! ويتوه معه المستمع في كم التفريعات والمعلومات الكثيرة.

   حقًا ليتنا نعود إلى بساطة المسيحية وبساطة رسالة الإنجيل، فإن كان التعقيد هو سمة العصر، فانعكس هذا دون أن ندري على الخدمة، ربما لأننا ظننا أن هذا هو الخادم العميق، أو لكي نرضي غرور بعض السامعين، لكن الرب كان في المجامع يخاطب البسطاء وليس الكتبة والفريسيين.

   ليتنا نراعي وقت الخدمة، فالعظة في تأثيرها ليس بطولها، لكن بعمق ووضوح كلماتها، فالرب يقدر أن يخلص بالقليل كما بالكثير (1صموئيل 14: 6)، فكونك مركزًا ومختصرًا ومهدفًا وواضحًا في خدمتك أفضل من أن تكون معقدًا ومملاً في أسلوبك، هذا سيفرق في استماعهم لك في المرات التالية.

   كوننا نقدم عظة بسيطة وتصل بنسبة 100% أفضل من عظة عميقة ومليئة بالتفاصيل وتصل بنسبة 50%.

   لقد رحل بيلي جراهام وترك أعظم الدروس التي لن تُمحى من التاريخ المسيحي.  فأعظم كارز ومبشر كان بسيطًا في عباراته وفي كلماته، محددًا ومهدفًا في رسالته.  فهل اتخذنا من حياته وخدمته عبرة؟

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com