عدد رقم 2 لسنة 2018
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مُوسَى عند العُلَّيْقَة المُشتعلة (خر3)  


في الأصحاح الثاني من سفر الخروج رأينا أن محاولة موسى لتخليص إسرائيل لم تكن في محلها، لأن وقت الله لم يكن قد أتى بعد، علاوة على ذلك فإن الشخص المُزمَع استخدامه كقائد، لم يكن قد أُكمِلَ تجهيزه، ولا حتى العبرانيين أنفسهم كانوا مستعدين لمغادرة مصر.

ورأينا أيضًا أن تهوُّر موسى قد دفعه لأن يتصرف بحماس وضعه في مأزق حرج، فالملك كان يطلب نفسه، فهرب موسى إلى مديان.  هذا من الناحية البشرية، ولكن دعنا الآن نلتفت إلى الناحية الإلهية، وقبل ذلك دعنا نتعجب، بل ونسجد أمام الحكمة الإلهية التي تُحوّل غضب الإنسان إلى تسبيح وحمد لله، وتُخرِج الخير من وسط الشر.  فالله كان لديه عمل هام للغاية لموسى كي يؤديه.  ولكن لكي يُؤدي ذلك كان لا بد من تجهيزه أولاً.  العمل هو قيادة شعب الله إلى خارج مصر، وتوصيلهم إلى الأرض الموعودة.  ولكن موسى لم يكن قد جُهِّزَ بعد لمثل هذا العمل.

إنها حقيقة أن هذا الشخص الذي أصبح ابن ابنة فرعون قد تلقى تعليمًا كافيًا؛ فقد تهذَّب بكل حكمة المصريين.  لم يكن مجرد شاب، ولكنه كان رجلاً ناضجًا في الأربعين من عمره، في أوج نشاطه.  ولم يكن مجرد تلميذ أو دارس، ولكنه كان مقتدرًا في الأقوال والأفعال.  فماذا الآن؟  ما هو الشيء الذي ينقصه؟  بالتأكيد نحن نرى هنا شخصًا يمتلك كل المؤهلات اللازمة للقيادة.  ولكن آه ... كم تختلف مقاييسنا عن الله!  «إِنَّ الْمُسْتَعْلِيَ عِنْدَ النَّاسِ هُوَ رِجْسٌ قُدَّامَ اللهِ» (لو16: 15).  إن كل ما اعتبرناه براعة ونبوغ بشري، كل هذا يضعه الله جانبًا «لِكَيْ لاَ يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ» (1كو1: 29).  ونتيجة كل هذا لا شيء، لأن حكمة هذا العالم هي جهالة عند الرب، فإن أبرع كليات البشر لا تستطيع أن تُجهّز أحدًا للعمل الإلهي، لأجل ذلك لا بد من التعلم في مدرسة الله.  «فَتَعَجَّبَ الْيَهُودُ قَائِلِينَ: كَيْفَ هَذَا يَعْرِفُ الْكُتُبَ، وَهُوَ لَمْ يَتَعَلَّمْ؟ (في جامعاتهم)» (يو7: 15).  فلكي يتعلَّم موسى في مدرسة الله، كان لا بد له أن يُدير ظهره لأرض مصر.  كان لا بد أن ينفصل عن العالم، فيد الإنسان لا يُمكنها أبدًا أن تُشكِّل وعاء يصلح لاستخدام السَّيِد، ولكن الذي سوف يستخدم الوعاء هو وحده يستطيع أن يُشكّله.

«وَأَمَّا مُوسَى فَكَانَ يَرْعَى غَنَمَ يَثْرُونَ حَمِيهِ كَاهِنِ مِدْيَانَ، فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ» (خر3: 1).   

من مصر إلى ما وراء البرية، من قصر فرعون إلى حظيرة الغنم، لقد كان كل هذا مجرد تغييرات جذرية حدثت في هذا الشخص المُزمع أن يشغل دورًا هامًا.  فرعاية الغنم كانت تبدو إعدادًا في غاية الغرابة لمن هو مزمع أن يُحرر أمة العبيد.  ومرة أخرى لا بد أن نتذكر كيف تختلف طرق وأفكار الله عن أفكار الإنسان.  كما أن طرق الله لا تختلف عن طرقنا فقط، لكنها مكروهة للجسد.  ففي تكوين 46: 34 يُخبرنا الكتاب «أَنَّ كُلَّ رَاعِي غَنَمٍ رِجْسٌ لِلْمِصْرِيِّينَ».  وهنا نرى كيف يأخذ الله خادمه ليشغل مكانًا من أكثر الأماكن المكروهة في نظر العالم «وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ»، حيث نرى الناس ومطاليبهم، العالم والذات، الظروف الحاضرة ونفوذها، الكل يُقيَّم كأنه لا شيء.  هناك، وهناك فقط، في مقادس الله، نستطيع أن نجد المقياس الذي به نزن كل ما حولنا.  هناك لا توجد مظاهر كاذبة، أو ادعاءات فارغة، أو حتى صور مستعارة، فعدو النفوس لا يُمكنه أن يطلي رمال البرية ذهبًا، فكل شيء يبدو على حقيقته، والقلب الذي يجد نفسه في محضر الله في «وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ» لديه نظرات صحيحة عن كل شيء.  فهو يرتفع عاليًا فوق التأثيرات المثيرة لأنشطة العالم، والضجيج والتلوث السمعي.  والضوضاء والبريق الذي في مصر لا يصل إلى الآذان والعيون في هذا المكان المنعزل.  ضجة العالم المادي والتجاري لا تُسمع هنا.  صوت الطموح يختفي، والعطش إلى الذهب لا يُشعَر به.  أكاليل العالم تتلاشى، فالعين لا تعمىَ بالشهرة، ولا القلوب تنتفخ بالكبرياء.  استحسان الإنسان لا يُبهج، ولا لوم البشر يُحبِط.  في كلمة واحدة: الكل يُوضَع جانبًا في ضياء وسكون محضر الله.  فصوت الله وحده هو الذي يُسمع، نوره يُبهج، وأفكاره تُستقبل.  هذا هو المكان الذي يجب أن نذهب إليه لكي نتعلَّم الخدمة.  وهناك لا بد أن نبقى إذا أردنا النجاح في الخدمة (ماكنتوش).

الشيء الأكثر غرابة هنا هو أن موسى كان يجب أن يبقى في مديان 40 سنة!  لكن الله ليس عنده استعجال.  ونحن يجب أن نكون هكذا «مَنْ آمَنَ لاَ يَهْرُبُ (لا يستعجل)» (إش28: 16).  وهنا نرى شيئًا يحتاج كل خادم للمسيح أن يتأمل فيه، خاصة الشباب.  ففي هذه الأيام أصبح اختيار خدام جُدد في النشاطات المسيحية المختلفة عادة شائعة، بدون إجراء أي تحقيق جدّي عن ملاءمتهم لهذه الخدمات الهامة والمُقدَّسة.  فإذا كان الشخص مُقتدرًا في الأقوال والأفعال، فإن هذا يكفي تمامًا.  بينما يقول الوحي «غَيْرَ حَدِيثِ الإِيمَانِ لِئَلاَّ يَتَصَلَّفَ فَيَسْقُطَ فِي دَيْنُونَةِ إِبْلِيسَ.  وَيَجِبُ أَيْضًا أَنْ تَكُونَ لَهُ شَهَادَةٌ حَسَنَةٌ مِنَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَارِجٍ، لِئَلاَّ يَسْقُطَ فِي تَعْيِيرٍ وَفَخِّ إِبْلِيسَ» (1تي3: 6، 7).

«وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ» ... في مكان التقاعد هذا أمضى موسى الأربعين سنة الثانية من حياته، حيث قُدمت له كل فرصة للاجتماع مع الله.  هناك تعلَّم كيف يمقت كبرياء القدرات البشرية، لكي يُصبح الاتكال الكامل هو على الله نفسه.

أول شيء ضروري يحتاجه الخادم هو أن يبقى منفردًا لفترة طويلة مع الرب.  ولكن ربما نتساءل: لماذا لا تُذكر أية تفاصيل عن معاملات الله مع خادمه في هذه الفترة؟!  تقريبًا لا تجد أي شيء من التجارب التي خاضها، أو النظام الذي اتبعه مثلما حدث في تدريب الرسل والأنبياء، كيوحنا المعمدان وبولس في العربية.  ونجد أن هذه الفترة مرّت في صمت تام!  أهذا بسبب أن معاملات الله مع أحد خدامه لا تتناسب البتة مع خادم آخر؟  ألا توجد هناك بعض الأشياء التي يمكن أن نتعلَّمها بالتشابه أو بمثال؟  بالتأكيد أنه لا يوجد هناك منهج تعليمي موَّحد في مدرسة الله، فكل خادم يُعامل طبقًا لاحتياجاته الخاصة بالنظر إلى العمل الخاص الذي يُجهزه الله له.

«فَسَاقَ الْغَنَمَ إِلَى وَرَاءِ الْبَرِّيَّةِ وَجَاءَ إِلَى جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ» (خر3: 1)

جبل حوريب هو سلسلة جبال تقع في سيناء.  وجبل سيناء الذي هو ”جَبَلِ اللهِ حُورِيبَ“ هو قمة من هذه السلسلة.  وهذا الجبل هو نفسه الجبل الذي تقابل فيه الرب مع إيليا بعد قرون (1مل19: 4-11).  بل ربما هو نفس المكان الذي أعلن فيه مجده للرسول بولس (غل1: 17؛ 4: 25).

«وَظَهَرَ لَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ بِلَهِيبِ نَارٍ مِنْ وَسَطِ عُلَّيْقَةٍ فَنَظَرَ وَإِذَا الْعُلَّيْقَةُ تَتَوَقَّدُ بِالنَّارِ، وَالْعُلَّيْقَةُ لَمْ تَكُنْ تَحْتَرِقُ.  فَقَالَ مُوسَى: أَمِيلُ الآنَ لأَنْظُرَ هَذَا الْمَنْظَرَ الْعَظِيمَ. لِمَاذَا لاَ تَحْتَرِقُ الْعُلَّيْقَةُ؟» (خر3: 2، 3).

هنا نرى أعجوبة لا تستطيع كل سحرة فرعون أن يصنعوا مثلها.  هنا نرى شيئًا يقف كل حكماء مصر في حيرة أمامه.  هنا نرى ظهور الله نفسه.  والكلمة ”عُلَّيْقَةُ“ لا تُذكر إلا في موضع واحد آخر في العهد القديم، في تثنية 33: 16 حيث نقرأ «وَمِنْ نَفَائِسِ الأَرْضِ وَمِلئِهَا، وَرِضَى السَّاكِنِ فِي العُليْقَةِ.  فَلتَأْتِ عَلى رَأْسِ يُوسُفَ وَعَلى قِمَّةِ نَذِيرِ إِخْوَتِهِ».  وكلمة ”السَّاكِنِ“ مُشتقة من كلمة ”الشكينة“ التي تعني ”سحابة المجد التي كانت تُستعلن وقتها أمام أعين موسى. 

و”مَلاَكُ الرَّبِّ“ لا يمكن إلا أن يكون هو الرب يسوع نفسه.  ولأجل ذلك نقرأ في ع4 عن ”الرَّبُّ“ و”اللهُ“ «فَلَمَّا رَأَى الرَّبُّ أَنَّهُ مَالَ لِيَنْظُرَ، نَادَاهُ اللهُ مِنْ وَسَطِ الْعُلَّيْقَةِ وَقَالَ: مُوسَى، مُوسَى!».  من هنا فصاعدًا نرى حقيقةً منظر محوري في حياة خادم الله موسى.  فقبل أن يُرسَل في مهمته الخطيرة كان لا بد أن يُشاهد أولاً مجد الرب الذي يفوق كل وصف.  فلكي تكون الخدمة مقبولة لا بد أن تتطلع العين فقط إلى مجد الرب، ولكي ما نعمل ذلك لا بد أولاً أن ننظر مجد الرب.  وهذا لم يحدث فقط مع موسى، وإنما مع إشعياء أيضًا (إش6).  وهذه هي نفس الحالة التي حدثت مع رسول الأمم العظيم (أع9: 3).  وتأكد - أخي خادم الرب – أن رؤية مجد الله هو منظر جوهري وأساسي إذا أردت أن تجعل خدمتك مقبولة.

وللحديث بقية


 

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com