عدد رقم 4 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
دروس من البرية خروج17  

    عندما عبر الشعبُ البحر الأحمر ووقفوا على الشاطئ الآخر، لم يتمالكوا أنفسهم من السعادة الغامرة وفاضتْ قلوبُهم فرحًا وألسنتُهم ترنّمًا (خر15: 1).  أعتقد أنه عند محطة كهذه وعند خلاص عظيم كهذا يظن الكثيرون أن متاعب رحلتهم قد انتهت.  مصر وقد خرجوا منها، والدينونة وقد عبرت عنهم، وفرعون المستبد القاسي وقد أُبيد بالموت.  إذًا فالمتوقع هو رحلة سعيدة وسلسة.  الرحلة السعيدة في مفهومهم هي رحلة بدون متاعب، كما أنها عادة هكذا في مفهومنا نحن أيضًا.

   ولكنهم ساروا ثلاثة أيام في البرية وإذا بهم لا يجدون ماء، وعندما عثروا عليه وجدوه مُرًا للغاية بشكل لا يُحتمل.  وربما تساءلوا: ماذا جرى؟ وما السبب؟ هل أخطأنا الطريق؟ لكن الكلام في أول الفصل يؤكِّد صحة الطريق: «ثم ارتحل كل جماعة بني إسرائيل بحسب مراحلهم على موجب أمر الرب».  السحابة تظللهم وعمود النار يهديهم، لكن العجيب أن تصطدم توقعاتُهم في بداية الرحلة بخيبة الأمل، فقد كان عليهم أن يواجهوا مارّة.

   ومارّة في حياة كل واحدٍ منا لها شكلها الخاص.  كلٌ منا له مارتّه الخاصة وبشكلها الخاص جدًا.  أحدنا مارتّه تقبع داخله، والآخر مارتّه تكمن خارجه، لكنها في كل الحالات مارّة.

   كان لا بد من مارة.  فمع أن الرب كان يستطيع أن يهديَهم إلى أرض كنعان في أيامٍ قلائل بسهولة ويُسْر وسرعة، لكنهم كيف كانوا سيعرفونه بدون مارة؟ وكيف كان يتأتّى لهم أن يعرفوا المسيح الذي فيه العلاج والحل لكل مشاكلهم ولكل ما يعترض طريقهم؟ ألم يكن الحل في مشكلة مارة هو الشجرة التي قُطعت لتُلقى في الماء.  ذلك العود الأخضر الذي تكلَّم عنه إشعياء، والذي نبت قدامه كفرخٍ وكعرقٍ من أرضٍ يابسة، وقُطع من أرض الأحياء ليُلقى في مرارة مائنا؟

   المسيح في اتضاعه وطاعته حتى الموت، موت الصليب، وقبوله لمشيئة الله، صار هو الترياق والعلاج للمياه المُرّة.  صرخ الشعب إلى موسى: لماذا أخرجتنا من مصر حتى أننا نسير ثلاثة أيام بدون ماء وعندما نعثر عليه نجده مُرًّا هكذا؟! وصرخ موسى إلى الرب متصوِّرًا أن الرب سيقوده إلى طريق آخر به ماءٌ عذب.  ولكن كلا .. كان قصدُ الرب أن يشربوا من ذلك الماء عينه وفي تلك البقعة عينها.  غير أن الرب "أراه شجرة".  "أراه"  تعني أنه فتح بصيرته ليرى ما هو موجودٌ أصلاً وإنما عجز هو عن رؤيته.

     هذه هي البريّة.  كلُها عبارة عن اختبارات واكتشافات، واختباراتها واكتشافاتها عجيبة.  فالبريّة هي مدرسة الله التي يلتحق بها المؤمن بعد نواله الخلاص.  النعمة التي بعدما تخلِّص، تعلِّم في مدرسة الله.  ومدرسة الله هذه تتضمن دروسًا لا يستطيع أحدٌ أن ينظمها ويدبرها ويرتبها إلا الله نفسُه.  والترنيمة المعروفة عندنا: "طريقك عند إلهي يُعرفُ .. ونورُه مسيرَك يكتنفُ" تعني أن كلَ طريق نسلكه به محطات، وفي كل محطة يكتنفنا النورُ الإلهي فنكتشف عجائبَ من صفات وقدرة إلهنا... مياه مُرّة؟  تُقطع شجرة وتُلقى في الماء، ويا للعجب تصبح المياه المُرّة حلوة!   لقد علموا وتعلّموا أن مَن عمَل هذا العجب لم يكن سوى الله الذي يتبعونه ويسيرون بموجب أمره.  بالطبع هم لم يكونوا مُدركين لرموز هذا الحَدَث، لكننا نحن مؤمني العهد الجديد نفهم معنى هذا الكلام الذي دُوِّن من أجلنا.  صحيح أنه طوال تلك الرحلة كان الرب يدرّب ويعلّم وينقّي الشعب، لكن الرسول يقول أنها «كُتبت لأجل إنذارِنا نحن الذين انتهتْ إلينا أواخرُ الدهور».

     بعد قصة مارة نجد أن الشعب يجوع، والرب يُرسل إليهم المَن الذي هو أيضًا عجيب (خر16)، فقد نزل إليهم من السماء بمواصفاته العجيبة، وكان الأمر يقتضي أن يكون هناك اجتهادٌ يوميّ لجمْعِ المَن قبل أن تحمى الشمس، وعليهم أن يجمعوا في يوم الجمعة قدرًا مُضاعفًا من المَن ويحفظوه لليوم التالي، يوم السبت، ليأكلوه دون أن يخرجوا ليجمعوه.  ولكن لو عملوا هكذا في يوم آخر لتولّد فيه دودٌ وأَنتَن.  أمورٌ عجيبة حقاً! ولكن لا عجب فالشعب يتعامل مع إلهٍ عجيب.

    ثم أتى الشعب إلى المحطة التي أمامنا في خروج17 التي فيها نجد بني إسرائيل، بعدما ارتحلوا من بريّة سين، يصلون إلى رفيديم، وإذ بهم مرة أخرى لا يجدون ماءً للشرب.  يا للمأزق! لقد تجرّبوا بالمياه المُرّة وأُلقيت الشجرة وانتهت المشكلة، ثم تجرّبوا بمعاناة الجوع وأرسل الرب لهم المَن وانتهت أيضًا المشكلة، والآن لا يجدون أمامهم ماءً على الإطلاق لا مُرًا ولا عذبًا .. التجارب لا تنتهي.  كل الطريق على هذا المنوال، عطش وجوع ومياهٌ مرة وأشواك، فهل كانت تلك التجارب ضرورية لهم ولازمة؟  نعم.  كانت لازمة.. ألم يقل لهم في تثنية 8  «وتتذكر كل الطريق التي فيها سار بك الرب إلهك هذه الأربعين سنة في القفر ... فأذلك وأجاعك وأطعمك المن الذي لم تكن تعرفه ولا عرفه آباؤك ... لكي يحسن إليك في آخرتك» (تث8: 2 – 6).  هل طريق المؤمنين صعبٌ في الدرس والتدريب؟ نعم هذا صحيح، ولكننا نجتني من ورائه مكسبًا عظيمًا، سعى الرسول طوال حياته ليبلغه قائلاً: «لأعرفه» (في3: 10).  وهذا ما عبر عنه المرنم قائلاً: "يُبدي لك في القفر مولاك الأمين .. أن تعرفيه أنه الرب الرحيم .. حصن وقدوس صبور .. إنعامه كل الدهور".

    أليس في استطاعة الرب أن يُجنِّب المؤمنين كل هذه المتاعب التي تواجههم بعد الخلاص؟ بالطبع في استطاعته ذلك، ولكن المؤمن الذي يسير طريق رحلته بلا مشاكل ولا متاعب ولا آلام ولا اختبارات سيظل طفلاً ضعيف الإدراك، وبالتالي ضعيف التمتّع بالشركة مع الآب ومع الرب يسوع المسيح.  غير أن الرب يريد أن يستعرض أمامنا من خلال التجارب ذخائرَ نعمته التي لا تنضب، فمهما تعددتْ الدروس، ومهما تكررتْ المشاكل، فإن لديه لكل منها حلاً رائعًا، كما أننا نجني من ورائها فائدةً عُظمى.

   وفي الكتاب نجد أن الله يرتب ويُجهّز توالي الأحداث ليطابق الرموز على نور العهد الجديد، فالصخرة المضروبة تأتي بعد نزول المن.  والعجيب أن الصخرة الجافة تُخرج ماءً للإنعاش! هذا أمرٌ غير طبيعي، ذلك لأنها صخرة غير طبيعية، فهي صخرة روحية، والماء الذي خرج منها كان رمزًا للروح القدس.  كان لزامًا على المسيح أن يُضرب على الصليب ويقول: «أنا عطشان» حتى يصل الماء الحي، الروح القدس، للمؤمنين، ويكون سبب إنعاشٍ لهم في برية ناشفةٍ وجافة.  فالروح القدُس موجودٌ لإنعاشنا تمامًا كما كانت المياه المتفجّرة من الصخرة سبب إنعاش للشعب الكليل الذي أعيا بسبب العطش وشدة الحر والجدوبة، فروَتْ ينابيعُه غليلهم وأطفأتْ ظمأهم وأنعشتْ قلوبَهم.

   هذا عظيم! فهم الآن في حالٍ أفضل جدًا، ولكن مباشرةً بعد ذلك يقول الكتاب: «وأتى عماليق وحارب إسرائيل في رفيديم» (خر17: 8).  دائمًا وأبدًا يقف الشيطان ضد كل عمل إلهي ويقاومه.  وبالطبع نرى في الرمز بوضوح أن كل مقاومة من جانب الشيطان كان هدفها تعطيل الشعب في البرية عن بلوغ أرض كنعان.  لكن الله الذي أخرج الشعب بنعمته، بذات النعمة كان يسير معهم ولا يمكن أن يتخلّى عنهم.

    فقال موسى ليشوع: «انتخب لنا رجالاً» (خر17: 8).  ومعنى هذه العبارة أن الأمر الذي نحن بصدده يحتاج إلى نضوجٍ روحي.  الرجال هنا يشيرون إلى النموّ والإدراك الروحي....«انتخب لنا رجالاً واخرج حارب عماليق».  وكما نعرف فإن "يشوع" هو نفس اسم "يسوع" وهو رمزٌ إلى المسيح الحاضر والساكن وسط شعبه بالروح القدس.  الروح القدس في وسط المعركة يمنح القوة اللازمة للنصرة، ولكن – مع أن الروح القدُس هو الذي يقاوم الجسد كما نقرأ في غل5 «الروح ضد الجسد»، إلا أن النصرة ذاتها مرتبطة بموسى فوق رأس التلّة، أي بالمسيح الجالس عن يمين الله.  هذا معناه أنه بينما أنا أجاهد، بالروح القدُس في داخلي ضد كل معطلات عمل الله في الطريق، يجب أن تكون عيناي شاخصتيْن نحو ذلك الشخص الموجود في الأعالي رافعًا يديه لأجل نصرتي، والذي يُمثّلني في ضعفي وعجزي واحتياجي ويستجلب لي المعونة اللازمة للمقاومة في الطريق ضد حروب الجسد.  لذلك فإن كان يشوع يحارب في الوادي على رأس الشعب، فإن موسى كان هناك على رأس التلّة يضمن النصرة.

     لكن ما لزوم كل هذه الحروب؟ أليس في استطاعة الله القادر أن يُخلِّص إلى التمام أن يخلصنا من الخطية الساكنة فينا كما خلصنا من دينونتها؟ لماذا يترك الخطية والجسد بكل فساده بداخلنا في هذه البريّة حيث العالم والأعداء من كل ناحية، ولماذا يسمح لنا أحيانًا بالسقوط؟ لماذا، عندما طلب الشيطان أن يغربل التلاميذ كالحنطة، لم يسمح له بالغربلة ولم يسمح لبطرس بالسقوط؟ لكنه قال لبطرس: «ولكني طلبتُ من أجلك لكي لا يفنى إيمانك»؟  معنى هذا أن هناك أوقاتًا يسمح فيها الرب للمؤمن بالسقوط عندما يرى ضرورة لهذا، حين يرى أمورًا دفينة غير مرضية لا يمكن علاجها إلا بالسقوط.

    ألم يقل بطرس إن شك فيك الجميع فأنا لا أشك أبدًا، ألم يقل أنا أذهب معك حتى إلى الموت؟ ولكن الرب كان يعلم أنه مهما تكلم مع بطرس في هذا الأمر فلن يُجدي كلامُه نفعًا.  كان لا بد لبطرس أن يجتاز التجربة لكي يتعلّم الحقيقة.  وكانت نتيجة هذا الاختبار مكسبًا لبطرس لا خسارة.  صحيح أنه قد صاحب هذا الاختبار ألمٌ ومرارة إذ خرج إلى خارج وبكى بكاءً مرًا، لكنه تعلم الدرس الذي لا يُنسى أن الاتكال على الجسد لا يحفظ المؤمن في ساعة التجربة.  بالطبع نحن لا نشجّع السقوط وعلينا أن نتجنبه بقدر استطاعتنا، ولكن إن رأى الرب في حكمته لزومَه لعلاجنا، فلنعلم أن من ورائه فائدة كبيرة لنا وربما لإخوتنا أيضًا.  «وأنت متى رجعت ثبّت إخوتك».  ما أعظم نعمة المسيح التي تستطيع أن تتخذ من ضعف المؤمن تدريبًا على الرثاء والعطف على الآخرين المساكين.  لقد منح ذلك الاختبار الإمكانية لبطرس أن يُثبّت إخوته بعدما رجع.  ونحن نشكر الله من أجل الإمكانيات الإلهية الموجودة لحسابنا بسكنى الروح القدُس فينا، وهذه الحرب التي نخوضها هي واحدة من الأدلة على سكنى الروح القدس داخلنا، ولكن المُستند الأساسي في إيماننا هذا هو قول الكتاب: «الذي فيه أنتم أيضًا إذ آمنتم خُتمتم بروح الموعد القدوس» (أف1: 13).

  وأود أن أنبّر أيضًا على أن هناك فرقًا بين الصراع في رومية 7 وبين الحرب في غلاطية 5 .. الصراع في رومية 7 بين الطبيعتين، الطبيعة الجديدة والطبيعة القديمة.  قد يتعجب أحد المؤمنين لأنه ربما كانت حالته قبل الإيمان أفضل مما هي عليه بعد الإيمان، لأنه اكتشف أخطاءً وعيوبًا ظهرتْ فيه بعد الإيمان أكثر من ظهورها قبل الإيمان.

  نعم يا صديقي كلامُك صحيح.  لكن تذكّر أن إسماعيل لم تبدأ طبيعتُه في الظهور إلا بعدما ظهر إسحاق في المشهد وصُنعتْ له وليمة الفطام.  فالطبيعة الجديدة هي التي تكشف وجود الطبيعة القديمة، كما يقول الرسول «أما أنا فكنتُ بدون الناموس عائشاً قبلاً .. لكن لما جاءت الوصية (في قوتها الأدبية بالولادة الثانية) عاشت الخطيّة فمتُ أنا».  أي أنها قتلتني بالشعور بالمذنوبية، لأن ضغط الشعور بالمذنوبية على ضميري كان قاتلاً لمعنويّاتي.  لكن شكرًا لله لأن رسالة رومية لا تنتهي بالأصحاح السابع، لكن هناك في مطلع الأصحاح الثامن نقرأ أن «ناموس روح الحياة في المسيح يسوع قد أعتقني من ناموس الخطية والموت» (رو8: 2).

    لذلك فإن الحرب في غلاطية 5 ليست بين الطبيعتين، والتي لا بد أن تنتصر فيها الطبيعة القديمة على الطبيعة الجديدة، لأنه – عكس ما يعتقد الكثيرون – الطبيعة القديمة ليست أضعف من الطبيعة الجديدة (مع أنها من الله) بل هي أقوى.  لذلك أعطانا الله الروح القدُس كالقوّة التي تُمكّن الطبيعة الجديدة من الانتصار على الطبيعة القديمة، فيقول: «لأن الجسد يشتهي ضد الروح والروح ضد الجسد وهذان يقاوم أحدُهما الآخر حتى لا تفعلون ما تريدون (بالجسد)» (غل5: 17).  

    فكم نشكر الله لأجل الروح القدُس، ولأجل المسيح الموجود عن يمين الله لإعانتنا وتشجيعنا وتقويتنا.. نشكر الله من أجل إمكانيات النعمة التي فيها كل الكفاية لأعواز الطريق  -  آمين

   

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com