عدد رقم 4 لسنة 2017
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المفهوم الصحيح لتبعية المسيح (6)  


  تدبير الناموس

   لقد أشرت في المقال السابق إلى أن العمل بتدبير الناموس كان لا بد له أن ينتهي بصليب المسيح وليس قبل ذلك، وقد أجلت تقديم الإثبات من الكتاب على هذا التعليم إلى هذا المقال.

   يقول الرسول بولس: «فلماذا الناموس؟ قد زيد بسبب التعديات إلى أن يأتي النسل الذي قد وُعد له مرتبًا بملائكة في يد وسيط» (غل3: 19)، يخبرنا الرسول هنا أن الناموس يهدف إلى إعطاء الخطية صفة التعدي، كما أنه لم يكن ضمن مقاصد الله لكن تم إضافته إلى تاريخ معاملات الله مع البشر مُمَثَّلين في إسرائيل لتحقيق هذا الهدف، ويوضح أن الناموس كان لا بد أن يُسلَّم ليد موسى شخصيًّا لكونه وسيط العهد الأول، إلا أنه لم يأخذه من الله مباشرة لكن من خلال من أنابهم الله عنه في هذا الموقف وهم الملائكة، على أن العمل به يبقى ويستمر إلى أن يأتي نسل إبراهيم الذي جاء ذكره في الفقرة السابقة (غل3: 18-15)، تلك الفقرة التي أوضح فيها الرسول أن الوعد ببركة جميع الأمم لا يتحقق في كل من انتسب لإبراهيم بالجسد، لكن في واحد من هذا النسل وهو المسيح، والسؤال: هل عند ميلاد المسيح أم عند موته وقيامته ؟ والإجابة: بالرجوع للنص المقتبس من العهد القديم (تك22: 18) نجد أنه قيل على خلفية أخذ إبراهيم لإسحاق ابنه من على المذبح وتقديم الكبش عوضًا عنه، ومن (عب11: 17 - 19) نفهم أن إسحاق في هذا المشهد كان رمزًا للمسيح في قيامته، كما أن الرسول يؤكد في (رو7: 1 - 4) على ذات الحقيقة، وهي أن المؤمن مات بالنسبة للناموس وأن الناموس مات بالنسبة له عند موت المسيح، وبقيامة المسيح صار المؤمن ممكنًا له أن يرتبط به وأن يثمر لله.

  ولعل القارئ يتذكر أني بنيت على هذا المبدأ الإجابة على السؤال حول السبب الذي جعل المسيح لا يشير صراحة إلى أن التبرير يكون بالإيمان دون أعمال الناموس مثلما فعل الرسول بولس بعده، فلم يكن لائقًا بالمسيح في كمالاته الأدبية أن يحكم بفشل الناموس في تبرير الإنسان لأنه هو نفسه وُلد تحت الناموس (غل4: 4)، ليس فقط لأنه بذلك يستبق الحكم على الناموس، لكن بالنظر إلى أن الناموس في ذاته عادل وصالح ومقدس (رو7: 12)، وأن العيب ليس في الناموس بالأساس، فإن حكمًا كهذا يعني ضمنًا فشل الشعب نهائيًا في تتميم الناموس، فمع أن الحكم سواء بعجز الناموس عن إحياء الإنسان أو بفشل الشعب في تتميمه هو حكم صحيح تمامًا، إلا أن استباق إصداره قبل إصداره من قِبل الله نفسه هو من قبيل اندفاع الطبيعية الإنسانية التي تميل إلى الاستقلال عن الله، حتى وإن بدا هذا الحكم هو من قبيل الروحانية، إن هذه الطبيعة الساقطة لم تكن في المسيح مطلقًا.  وعلى القياس ذاته تعلمنا أن كل واحد فينا إذا شعر بانحدار الحالة الروحية للكنيسة – طالما أنها تجتمع إلى اسم الرب حسب الترتيب الكتابي - كمنارة شاهدة لله على الأرض وأنها فشلت في هذه المسؤولية، فليس من الصواب أن نطلق الدعوة للخروج منها وتركها بدعوى أنه بإمكاننا أن نبني أنفسنا روحيًّا بدونها، ولا أن نطلق الاتهامات بشكل عام على فشلها، ولا أن نكف عن خدمة الرب فيها وتحريض إخوتنا فيها على العيشة التقوية حسب الحق بدعوى أن الكنيسة شبعت من الوعظ والتعليم ولم تستفد منهما، لكن علينا أن نلتصق بإخوتنا وأن نعتبر ضعفاتهم هي ضعفاتنا، وأخطاءهم هي أخطاؤنا، وكما كان الكاهن يأكل من ذبيحة الخطية مشاركًا من يقدمها في شعوره بالانكسار بسبب ما بدر منه (لا6: 29،26)، علينا بذات الروح الكهنوتية أن نتعامل مع أخطاء إخوتنا، وهكذا نتبع المسيح إذا كنا قد فهمنا تبعيته فهمًا صحيحًا، أما الحكم النهائي بفشل الكنيسة في مسؤوليتها كشهادة الله على الأرض ليس من اختصاصنا نحن.

   إن ربنا يسوع المسيح له كل المجد لم يتعجل الحكم على الناموس أو على الشعب مع أنه العليم بحتمية فشل الناموس في أن يحيي وفشل الشعب في أن يطيع، لكنه ومع كونه ابن الله كان له روح العبد الخاضع للتدبير الحاكم لعلاقة الله بشعبه، نعم كان هو عبد يهوه الكامل الذي اتخذ هذا المركز بإرادته، ويظهر هنا مجد المسيح الأدبي إذا قورن بموسى عبد الرب، ولقد عقَد الرسول هذه المقارنة في (عب3: 6،5)، حيث نجد أن المركز الطبيعي لموسى هو مركز العبد، وإن ما يتشرف به موسى هو أن يستأمنه الله على بيته باعتباره مجرد خادم له، أما المسيح وهو له مركز الابن من الأزل وإلى الأبد لكنه ارتضى أن يأخذ مركز العبد باختياره (في2: 7) كان وسيظل أمينًا باعتباره ابن على بيت الله الذي هو نحن.

تبعية المسيح دون الإيمان به:

   ننتقل هنا إلى مفهوم خاطئ آخر، وهو أن حياة المسيح كانت نموذجًا لما ينبغي أن تكون عليه حياة الإنسان، ولذا فإن كل ما يفعله الروح القدس هو أن يجعل الحياة أكثر شبهًا بالمسيح.  ولأن هذا الفكر يبدو في ظاهره صحيح، فإنه يخدع الكثيرين، والخداع يظهرفيما يمكن أن نكتشفه عندما نتناقش مع من يتبنى هذا الفكر، ولعل ما نكتشفه يمكننا أن نوجزه فيما يلي:

أولاً:

  لأن المسألة تم اختزالها في التشبه بأخلاقيات المسيح، تم رفض فكرة أن تكون المسيحية عقيدة وإيمان، بحيث يكون هذا الإيمان شرطًا لنوال الخلاص، وما يجب أن نعترف به هنا: أن التباين الشديد بين حياة من يؤمنون بالمسيح وحياة المسيح نفسه أوجد تلك الثغرة، غير أن القارئ المبتدئ في كلمة الله يمكنه أن يجزم بأن الإيمان بالمسيح شرط لنوال الخلاص، وهذا واضح في كلام المسيح نفسه الذي يدَّعي هؤلاء أنهم يتبعونه.

ثانيًا:

  كذلك تم رفض أن تقوم كل جوانب الحياة الروحية الصحيحة على الحق الكتابي، طالما أن المسألة اختُزلت إلى الحياة الفضلى، فإن المعيار الذي به تحكم على هذا التصرف صحيح أم لا، أو على هذه الطريقة في العبادة والخدمة صحيحة أم لا ليس هو ماذا يقول الكتاب، لكن ما هو يتناسب مع القيم الإنسانية أكثر، وما هو يكون أكثر نفعًا للناس، وما هو واقعي ومنطقي أكثر.  ولما كانت الحياة التي تُبنى فعلاً على الحق الكتابي ليس فيها ما يضاد الإنسانية ولا الواقع أو المنطق في شيء، تم افتعال الهجوم على هذه المنهجية للحياة بوصفها على أنها دعوة للتخلف والهروب من الواقع، غير أن الحقيقة هي أن من يعيش حسب الحق الكتابي فإن حياته هذه تدين من لا يريد أن يُخضع إرادته لكلمة الله، ومن يريد أن يتبع المسيح سيكتشف أن ما يقوله الكتاب كان حاكمًا له في كل موقف.

ثالثًا:

  وأخيرًا تم رفض أن تُحكم الحياة المسيحية بوصايا محددة بدعوى أنها حياة وليست دين، وهذه النقطة تكلمنا عنها بإسهاب في المقال السابق، على أننا أجلنا الكلام عن علاقة المسيحية بالدين إلى هذا المقال.

 

هل المسيحية دين؟

  في أوقاتٍ سابقة كنا نقول إن المسيحية ليست دينًا دون أن نشعر بوجود مشكلة فكرية نتجت عنها، لكننا يجب أن نعترف أننا لم نتوخى الدقة في تناولنا لهذه القضية مما أدى لاستغلال هذه الثغرة استغلالاً رديئًا.  وللإجابة على هذا السؤال نقول إن لأي دين تقريبًا يوجد أربعة أعمدة رئيسية يقوم عليها، وهي:

أولاً: وجود عقيدة أو إيمان محدد.

ثانيًا: وجود وصايا أدبية.

ثالثًا: وجود فرائض طقسية وممارسات.

رابعًا: وجود مجازاة بأبدية سعيدة لمن ظل متمسكًا بالعقيدة مجتهدًا في تتميم الوصايا الأدبية وملتزمًا بالفرائض والممارسات، والعكس صحيح.

وإذا بحثنا داخل المسيحية عن هذه الأربعة أعمدة، هل سنجدها؟ هل نحن عندنا عقيدة أو إيمان محدد؟ بالطبع نعم، فهناك إيمان مُسَلَّم مرة للقديسين (يه3) وبولس الرسول تسلَّم هذا الإيمان (1كو15: 1 - 4) بل ودافع عنه (2تي4: 7)، ونحن مطالبون ألا ننكره (مت10: 33،32)، ولدينا في الكتاب شهادة عن أمناء لم ينكروه (رؤ2: 13)، ثم هل عندنا وصايا؟ بالطبع نعم، ومحبتنا للرب لا يمكن أن تقودنا لغير حفظها (يو14: 21،15)، هل عندنا فرائض وممارسات؟ لا يوجد عندنا فرائض طقسية غير مفهوم معناها كما هو الحال عند اليهود، لكن عندنا ممارسات نفهم معناها تمامًا وهي المعمودية وعشاء الرب، ففي هذه النقطة تختلف المسيحية عن الدين.  هل عندنا مجازاة بأبدية سعيدة؟ الإجابة لا، لأن مبدأ المجازاة يعني أن الإنسان يفعل شيئًا لله يعطيه شيئًا من الاستحقاق ولو نسبي في الأبدية السعيدة.  لكن الأبدية السعيدة في المسيحية هي على مبدأ النعمة، إلا أن هذه النعمة بها يمنحنا الله قبول الإيمان المسيحي (أف2: 8) والتمسك به (1بط5: 8 - 11)، الأمر الذي بدونه لن نصل للأبدية السعيدة، وليس كما ينادي البعض أن هناك إمكانية لمن لم يؤمن بالمسيح أن ينال الخلاص (يو3: 36)، كما وأن هذه النعمة تقودنا في طريق حفظ الوصايا (تي2: 12،11)، أما الممارسات المسيحية، وهي المعمودية وعشاء الرب، فليس لها ارتباط بالأبدية السعيدة نهائيًّا، لأنها ترتبط بوجود المؤمن على الأرض، إذًا في هذه النقطة أيضًا تختلف المسيحية عن الدين، وهكذا نرى أن المسيحية ليست دينًا بالمعنى الكامل، إلا أنها تحمل بعضًا من ملامح الدين، بل إن يعقوب في رسالته لم يرفض الدين بشكل مطلق لكنه أشار إلى ما أسماه «الديانة الطاهرة النقية»، وشجع المؤمنين على السير بموجبها وحذَّرهم من الديانة الباطلة (يع1: 27،26).

إذًا صحيح أن المسيح لم يأتِ ليؤسس دينًا جديدًا، لكن ما أسسه المسيح، وإن كان يتعارض في بعض النقاط مع منهجية الدين بوجه عام، لكنه لا يتعارض معه في نقاط أخرى، إذًا من يريد أن يتبع المسيح ليس عليه أنه كلما رأى مبدأ أو فكرة موجودة في منهجيات الدين أن يرفضها أو يسير عكسها بدون فحصها ظنًّا منه أن بذلك يتبع المسيح.

  فضلاً عن أن المسيح وإن لم يكن قد أسس الكنيسة عندما كان هنا على الأرض، إلا أن هذا لا يعني أنها لم تكن في فكره، بل إنه أعلن عنها للرسول بطرس، كما أن الروح القدس الذي نزل من السماء قد أسسها، وهو الذي يرشدنا إلى جميع الحق.  إذًا نحن نتبع الروح القدس الذي يقود كل مؤمن ليمارس الشركة الكنسية بكامل مظاهرها، وهذا ليس فقط لا يتعارض مع تبعية المسيح بل إنه يدخل في صميم مفهومها الصحيح.


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com