عدد رقم 2 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الشهادة  

الله لم يره أحد قط وهذا حق صحيح، ولكنه يُسر بأن يُعبِّر عن نفسه ويعلن ذاته.  وهذا ما نراه في الخليقة.  «السموات تحدث بمجد الله والفلك يُخبر بعمل يديه» (مز1:19).  ولأن الله ”محبة“ (1يو4: 8، 16)، وهي ليست مجرَّد صفة من صفاته، بل هي طبيعته، فلقد سُرَّ بأن يُوجِد خليقة يغمرها بمحبته، بخلاف الملائكة، والتي هي مجرد أرواح خادمة عليها أن تطيع خالقها، هذه الخليقة مُمثلة في الإنسان.


    وهكذا خلق الله ”آدم“، ثم صنع له ”حواء“، «وَبَارَكَهُمُ اللهُ وَقَالَ لَهُمْ: أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ وَأَخْضِعُوهَا وَتَسَلَّطُوا عَلَى سَمَكِ الْبَحْرِ وَعَلَى طَيْرِ السَّمَاءِ وَعَلَى كُلِّ حَيَوَانٍ يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ» (تك1: 28).  وهكذا نجد آدم يحظى بعلاقة مُتميِّزة مع الرب الإله، إذ كان يأتيه ماشيًا في الجنة ليتواصل معه، ويُعلن له محبته وصلاحه (تك3: 8)، الأمر الذي كان يُسِر الرب أيضًا، وهذا ما عبَّر عنه بالقول: «لذَّاتي مع بني آدم» (أم8: 31).  ولكن بكل أسف تشوَّه هذا المشهد الجميل بتدخل الشيطان، والذي نجح في أن يشكك في صلاح الله ومحبته ويُشوِّه صورته، بكلماته المسمومة للمرأة (تك3: 1).  ومع ذلك ظل الله يتواصل بصورة أكبر وأوسع مع الإنسان عبر كل العصور ليُعلن له المزيد عن صفاته وطبيعته، وبالتالي فإن الإنسان يعكس هذه الصفات وينقلها لمن حوله من الخلائق العاقلة المدركة حتى تعرف من هو الله.  وهذا ما نجده بداية من ميلاد أنوش ابن شيث، إذ نقرأ: «حينئذ ابتدئ أن يُدعى باسم الرب» (تك4: 26) أي بدأت أن تكون هناك شهادة لله في العالم مُمثلة في الأجيال الثلاثة: آدم، شيث، أنوش.  ففي وسط هذه القبيلة الصغيرة آنذاك ابتدأ اسم الله يُعلَن وينكشف، وإن كان في نطاق محدود وفردي، إذ بعد ذلك نقرأ عن أخنوخ  أنه ”سار مع الله“ (تك5: 24)، ثم عن نوح والذي قيل عنه أيضًا أنه ”سار مع الله“ (تك6: 9).  وهكذا ظلت الشهادة في العالم القديم قبل الطوفان على مستوى الأفراد، ولهذا قصد الرب أن تطول أعمارهم بشكل خاص لتصل إلى التسع مئة سنة.  إلا أن الرب سُرَّ أن علاقته بالإنسان لا تكون قاصرة فقط على أفراد، بل على عائلات، فبعد أن دعا الله إبراهيم من ظلام الوثنية، وصار لإبراهيم شركة مُتميِّزة مع الرب، وصار له هذا الاسم المتفرِّد ”خليل الله“، نقرأ القول: «وإبراهيم يكون أمة كبيرة وقوية، ويتبارك به جميع أمم الأرض، لأني عرفته لكي يوصي بنيه وبيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برًّا وعدلاً لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلَّم به» (تك18: 19).  ثم امتدت الشهادة بعد ذلك لتشمل ”الشعب“ الذي افتداه من أرض مصر وأخرجه لنفسه، (إسرائيل)، ليشهد عنه وسط غياهب الوثنية بآلهتها العديدة والمتنوعة بأنه هناك إله واحد حي حقيقي جدير بأن يُعبد ويُقدَّس، «أَنْتُمْ شُهُودِي يَقُولُ الرَّبُّ ...» (إش43: 9-11)، راجع أيضًا (إش44: 6-23).
ومن خلال هذا الشعب أقام الرب لنفسه شهادة على الأرض، ومن خلال ما ورد في سفر المزامير نستطيع أن نستخلص بعض خصائص هذه الشهادة:

    إنها شهادة تتوارثها الأجيال:
«أَقَامَ شَهَادَةً فِي يَعْقُوبَ وَوَضَعَ شَرِيعَةً فِي إِسْرَائِيلَ الَّتِي أَوْصَى آبَاءَنَا أَنْ يُعَرِّفُوا بِهَا أَبْنَاءَهُمْ لِكَيْ يَعْلَمَ الْجِيلُ الآخِرُ. بَنُونَ يُولَدُونَ فَيَقُومُونَ وَيُخْبِرُونَ أَبْنَاءَهُمْ» (مز78: 1-8). ما أروع هذا الفكر، فقصد الرب أن هذه الشهادة تمتد وتستمر من جيل إلى آخر، تمامًا كما نرى في مسابقات ”الأولمبياد“ حينما تُسلَّم الشعلة من شخص إلى آخر حتى تصل أخيرًا لمقصدها النهائي!!

    إنها شهادة عن خلاص الله العظيم،
ومعاملاته الرائعة: «جَعَلَهُ شَهَادَةً فِي يُوسُفَ عِنْدَ خُرُوجِهِ عَلَى أَرْضِ مِصْرَ. سَمِعْتُ لِسَانًا لَمْ أَعْرِفْهُ. أَبْعَدْتُ مِنَ الْحِمْلِ كَتِفَهُ. يَدَاهُ تَحَوَّلَتَا عَنِ السَّلِّ. فِي الضِّيقِ دَعَوْتَ فَنَجَّيْتُكَ. اسْتَجَبْتُكَ فِي سِتْرِ الرَّعْدِ. جَرَّبْتُكَ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ» (مز81: 1-8). وما أجمل هذه الشهادة! نعم إنها أتت بلسان لم نكن نعرفه، فاللسان الذي سبق وسمعته حواء كان مختلفًا تمامًا، كان لسان الكذاب وأبو الكذاب، أعني الشيطان، وكانت كلماته كلها زيف وافتراء على الله.  ولكن ها صوت آخر لم يكن معروفًا أيضًا من قبل، ولكن ما أعذبه صوت وما أجمله، إنه صوت يكشف عن قلب الله وصلاحه، إنه صوت النجاة والعتق والخلاص، «أَبْعَدْتُ مِنَ الْحِمْلِ كَتِفَهُ. يَدَاهُ تَحَوَّلَتَا عَنِ السَّلِّ. فِي الضِّيقِ دَعَوْتَ فَنَجَّيْتُكَ». كما أنه صوت يكشف عن طول أناة الرب وغنى نعمته في تعاملاته المتمهلة مع شعب متذمر ومعاند «جَرَّبْتُكَ عَلَى مَاءِ مَرِيبَةَ». إنها شهادة تحمل في طياتها أمرين رائعين عن الله: ”الله وخلاصه الكامل“، و”الله وصلاحه الفائض“.

    إنها شهادة مركزها بيت الله: «أُورُشَلِيمُ الْمَبْنِيَّةُ كَمَدِينَةٍ مُتَّصِلَةٍ كُلِّهَا، حَيْثُ صَعِدَتِ الأَسْبَاطُ؛ أَسْبَاطُ الرَّبِّ شَهَادَةً لإِسْرَائِيلَ لِيَحْمَدُوا اسْمَ الرَّبِّ» (مز122: 1-5). وما أخطره مركزًا، إنه مكان لا يضاهيه أي موضع آخر، فمن كل المسكونة شاء الله أن يكون له في أورشليم مقدسٌ يسكن فيه، ومن خلال هذا البيت يشع نورٌ يكشف شيئًا عن صفات الله وأعماله، «في هيكله الكل قائل: مجدٌ» (مز29: 9). إنه المكان الذي اختاره الرب ليحل اسمه فيه، فأي مركز في كل الأرض أسمى وأعظم من هذا؟ أين في كل المسكونة نبصر ”الشكينة“؛ سحابة المجد التي تُعبِّر عن حضور الله سوى على هذا البيت؟ ولأنه بيت الله، فالقداسة فيه أمرٌ حتمي، «ببيتك تليق القداسة يا رب إلى طول الأيام» (مز93: 5).  وهنا يكمن خطورة هذا المركز، فلكي تتوارث الأجيال الشهادة، ولكي تشدو الشهادة بأعذب لحنين، ”الله وخلاصه“، و”الله وصلاحه“، كان ينبغي أن يُغمر بيت الله بالقداسة، الأمر الذي بكل أسف لم يحدث، إذ اجتاز هذا البيت في مراحل متعددة، حتى وصل إلى أردأ حالاته في زمن وجود الرب تبارك اسمه بالجسد على الأرض، فعندما دخله في بداية خدمته وجده بكل أسف ابتعد كثيرًا عن القداسة، وبدلاً من أن يكون مركزًا يشع منه نور الشهادة عن الله، صار بيتًا للتجارة (يو2: 16)، كما نجد الأمر ازداد سوءًا بعد ذلك، ففي نهاية خدمة الرب دخله مرَّة أخيرة وقال عنه: «بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص» (مت21: 13).  وهكذا تحول البيت عن مساره وعن الغرض الذي من أجله أقيم، فجاء حكم الرب الحاسم والصريح: «هوذا بيتكم يترك لكم خرابًا» (مت23: 38؛ لو13: 35).  وما عاد البيت يصلح بعد ذلك ليكون مركزًا للشهادة لله.

ولكن هل يكف الله عن تحقيق غرضه في أن يكون له شهادة على الأرض؟ هذا ما سنتكلم عنه بمشيئة الرب في العدد القادم.     
                                                                      



© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com