عدد رقم 2 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
المشهد السادس: قليلاً عن قمة جبل الزيتون (2صم16: 1-4)  

«وَلَمَّا عَبَرَ دَاوُدُ قَلِيلاً عَنِ الْقِمَّةِ إِذَا بِصِيبَا غُلاَمِ مَفِيبُوشَثَ قَدْ لَقِيَهُ بِحِمَارَيْنِ مَشْدُودَيْنِ، عَلَيْهِمَا مِئَتَا رَغِيفِ خُبْزٍ وَمِئَةُ عُنْقُودِ زَبِيبٍ وَمِئَةُ قُرْصِ تِينٍ وَزِقُّ خَمْرٍ.  فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: مَا لَكَ وَهَذِهِ؟ فَقَالَ صِيبَا: اَلْحِمَارَانِ لِبَيْتِ الْمَلِكِ لِلرُّكُوبِ، وَالْخُبْزُ وَالتِّينُ لِلْغِلْمَانِ لِيَأْكُلُوا، وَالْخَمْرُ لِيَشْرَبَهُ مَنْ أَعْيَا فِي الْبَرِّيَّةِ.  فَقَالَ الْمَلِكُ: وَأَيْنَ ابْنُ سَيِّدِكَ؟ فَقَالَ صِيبَا لِلْمَلِكِ: هُوَذَا هُوَ مُقِيمٌ فِي أُورُشَلِيمَ، لأَنَّهُ قَالَ: الْيَوْمَ يَرُدُّ لِي بَيْتُ إِسْرَائِيلَ مَمْلَكَةَ أَبِي.  فَقَالَ الْمَلِكُ لِصِيبَا: هُوَذَا لَكَ كُلُّ مَا لِمَفِيبُوشَثَ.  فَقَالَ صِيبَا: سَجَدْتُ! لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ» (2صم16: 1-4).
تأملنا في العددين السابقين في مشهد ابتعاد داود قليلاً عن قمة جبل الزيتون، وذكرنا أن المشهد مليء بالدروس الأدبية النافعة.  وقد تحدثنا فيما سبق عن درسين:
الدرس الأول: حذار من الانحدار.
الدرس الثاني: «لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلاً» (يو7: 24).

ونواصل تأملاتنا في هذا العدد عن:
الدرس الثالث: المباينة بين الناموس والنعمة: مفيبوشث وصِيبَا يُمثلان فريقين من الناس إلى يومنا هذا؛ فريق الحاصلين على الخلاص بالنعمة، وفريق الذين يُحاولون أن يحصلوا على الخلاص بحفظ الناموس
.
ففي قصة داود ومفيبوشث نرى نموذجًا لـ«بِشَارَةِ نِعْمَةِ اللهِ» (أع20: 24).  لقد أظهر داود اللطف لمفيبوشث، ابن يوناثان، وحفيد شاول، الذي كان «أَعْرَجَ مِنْ رِجْلَيْهِ كِلْتَيْهِمَا» (2صم4: 4)، فكان لا بد مِن حمله كيما يأتي إلى حضرة الملك.  وهكذا لا يستطيع الخاطئ أن يأتي للرب بقوته الشخصية.  ولقد أراد داود أن يُظهر لمفيبوشث لطف الله ومحبته، مِن أجل خاطر يوناثان الذي أحبه والذي قطع معه عهدًا (2صم9: 1، 3)، وفي الوقت الحاضر يقول الله: ”هل بقى أحد من نسل آدم، فأصنع معه معروفًا من أجل المسيح؟“ وهكذا يُنقذ الله المساكين والخطاة العرج من أجل خاطر المسيح، فنقرأ عن شعب الله، أنه «خَلَّصَهُمْ مِنْ أَجْلِ اسْمِهِ» (مز106: 8).  ونقرأ أيضًا في العهد الجديد «سَامَحَكُمُ اللهُ أَيْضًا فِي الْمَسِيحِ» أو من أجل خاطر المسيح (for Christ’s sake) كما جاءت في ترجمة Authorized version الإنجليزية (أف4: 32).

ومعنى اسم مفيبوشث ”خزي“ أو ”مخزي“ أو ”ينفث عارًا“، وعندما سمع من داود عن الإحسان الذي أُعِد له، اعترف مفيبوشث بفمه بخزيه وتفاهته قائلاً: «مَنْ هُوَ عَبْدُكَ حَتَّى تَلْتَفِتَ إِلَى كَلْبٍ مَيِّتٍ مِثْلِي؟» (2صم9: 8).  ورُفع مفيبوشث من مكانته الوضيعة ومن خزيه إلى مائدة الملك، كأحد أبناء الملك.  واليوم نعمة الله مُعلنة في الإنجيل، فهو رفعنا من خزينا وجعلنا أبناء له.

لم يكن مفيبوشث مستحقًا لهذه البركة.  ولكنه حصل عليها بالنعمة، بالضبط كما يصل إحسان الله إلى أناس يستحقون الجحيم «فَسَكَنَ مَفِيبُوشَثُ فِي أُورُشَلِيمَ لأَنَّهُ كَانَ يَأْكُلُ دَائِمًا عَلَى مَائِدَةِ الْمَلِكِ. وَكَانَ أَعْرَجَ مِنْ رِجْلَيْهِ كِلْتَيْهِمَا» (2صم9: 13)؛ فداود مَثَّل له «إلهُ كُلَّ نِعْمَةٍ» (1بط5: 10).

وإذا كان مفيبوشث يُمثل لنا فريق الحاصلين على الخلاص بالنعمة، فإن صيبا يُمثل فريق الذين يحاولون أن يحصلوا على الخلاص بحفظ الناموس:

(1)     فأول شيء نلاحظه في مشهدنا أن هناك استعراضًا كبيرًا للهدايا التي قدّمها صِيبَا للملك؛ حِمَاران مشدودان محملان بالخبز والأثمار والخمر.  فقال الْمَلِكُ لِصِيبَا: «مَا لَكَ وَهَذِهِ؟ ... وَأَيْنَ ابْنُ سَيِّدِكَ؟».  فقال صِيبَا للملك إن مفيبوشث مُقيم في أورشليم، وهو يحاول أن يأخذ المملكة.  وهكذا بحسب المظهر الخارجي يبدو وكأن صِيبَا له غيرة شديدة وتكريسًا تامًا لمسيح الرب.  وهكذا أيضًا يبدو رجل البر الذاتي كأنه الأفضل تدينًا.  ولكن كل هذه مظاهر خادعة.

(2)     كما أن رجل البر الذاتي يُحاول دائمًا أن يُظهر الآخرين في صورة سيئة، كيما تُتاح له الفرصة ليظهر أنه الأفضل، وهو ما يبدو للوهلة الأولى أمام النظرة البشرية (2صم9: 3، 4؛ 16: 3).  ولكن الله يعلم خفايا وأسرار كل القلوب.  وألا يُذكرنا هذا بِمَثَل الفريسي والعشار (لو18: 9-14)؛ فالفريسي كان يتباهى بإنجازاته الدينية والخُلقيِّة، وعوضًا عن مقارنة نفسه بمقياس الله الكامل لكي يرى مدى انغماسه في الشرور والمعاصي، قارن نفسه بأناس آخرين في المجتمع، واعتزَّ بأنه أفضل منهم.  وتكرار ضمير المتكلّم في حديثه إنما يكشف أية حالة من العجرفة والاكتفاء الذاتي كان قلبه يتخبط فيها.

بينما العشَّار يطلُّ علينا بشكل مختلف تمامًا؛ فلدى وقوفه أمام الله، أحسَّ بأنه ليس أهلاً على الإطلاق أن يكون في هذا المحضر الجليل، لذا تذلل وانسحق حتى إنه «وَقَفَ مِنْ بَعِيدٍ، لاَ يَشَاءُ أَنْ يَرْفَعَ عَيْنَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، بَلْ قَرَعَ عَلَى صَدْرِهِ قَائِلاً: اللهُمَّ ارْحَمْنِي، أَنَا الْخَاطِئَ»؛ فهو لم يرَ نفسه خاطئًا بين خطاة كثيرين، بل اعتبر أنه الخاطئ (مع أل التعريف)، الذي لا يستحق أن يحصل على أي شيء من الله.

(3)     ونلاحظ أيضًا أن كل طموحات صِيبَا إنما تتعلَّق ”بالحقل“ (2صم9: 7؛ 16: 4؛ 19: 29)، «وَالْحَقْلُ هُوَ الْعَالَمُ» (مت13: 38).  وهو يعتمد في الحصول على ما يُريد على مجهوده الذاتي وعطاياه!  وهذا هو الطريق الذي ما زال يسلكه الإنسان، والذي يتخذه دائمًا لكي يحصل على البركة!  لقد اتخذ قايين هذا الطريق عندما أتى بثمار تعبه وأراد أن يقدمه لله (تك4: 3).  واتخذ بنو إسرائيل نفس هذا الطريق عندما قالوا: «كُلُّ مَا تَكَلَّمَ بِهِ الرَّبُّ نَفْعَلُ» (خر19: 8).  وهو أيضًا الطريق الذي اتخذه ذلك الناموسي الذي جاء إلى الرب أثناء وجوده على الأرض، وقال له: «أَيُّهَا الْمُعَلِّمُ الصَّالِحُ، مَاذَا أَعْمَلُ لأَرِثَ الْحَيَاةَ الأَبَدِيَّةَ؟» (لو18: 18).  وبالرغم من أننا في زمان النعمة، ما زال الإنسان يتبع نفس هذا الطريق المُهلك، إذ نقرأ أنه في آخر أيام المسيحية، يوجد قوم يقول عنهم الكتاب إنهم «سَلَكُوا طَرِيقَ قَايِينَ» (يه11).

(4)     ونلاحظ أيضًا أن كل ما قدَّمه صِيبَا لداود لم يعطي لقلبه الثقة والطمأنينة والراحة، فقد قال في النهاية لداود: «سَجَدْتُ! لَيْتَنِي أَجِدُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيْكَ يَا سَيِّدِي الْمَلِكَ» (2صم16: 4).  فهو يأمل في نعمة داود لكي تعوّض ما نقص مِن أعماله!  وهذه هي نفس الطريقة التي يتعامل بها الإنسان مع الله إلى هذا اليوم.  فالله في رحمته أرسل ابنه الوحيد الذي أكمل عمل الفداء العظيم، ولكن الإنسان لا زال متمسكًا بأعماله الذاتية، وينظر إلى نعمة الله ورحمته، وإلى عمل المسيح كشيء مُكمِّل لأي نقص أو قصور في أعمال الإنسان.  ولكن كل هذه الخطط لا تُعطي للإنسان أي يقين، بل تتركه في شك ويأس وحيرة، لعل وعسى أن نعمة الله ورحمته تعوض أي فشل في مجهوداته، في المستقبل.  وهذا ما يحدث مع كل مَن يتكل على أعماله الذاتية إلى الآن.

(5)    وأخيرًا جاء يوم عودة داود المرفوض «وَنَزَلَ مَفِيبُوشَثُ ... لِلِقَاءِ الْمَلِكِ» (2صم19: 24-30).  ولا بد أن يأتي سريعًا اليوم الذي يجيء فيه ثانية المسيح المرفوض الآن، وسوف يلاقيه في الهواء كل أبناء النعمة، سواء الأحياء منهم أو الراقدون (1تس4: 15-18)، وعندئذٍ ستظهر حقيقة كل إنسان.
                                              (يتبع)
                                     
 


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com