عدد رقم 2 لسنة 2014
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
قالت له الحق كله  

    في إحدى بلاد المهجر كانت تعيش السيدة (س) وهي أرملة مؤمنة تقية، وكانت تعول شابين في العشرينات من عمريهما.  ولماذا تعولهما في هذا السن وهما قادران على العمل وكسب عيشهما؟ السبب أن أحدهما وهو الأكبر اعتشر بأشخاص أردياء قادوه إلى الإدمان حتى لم يعد لعقله سيطرة على تصرفاته.  أما الابن الأصغر فقد وُلد مُعاقًا عليلاً لدرجة أنه كان يحتاج لمن يُطعمه ويعتني به.  هذا هو حال تلك السيدة التقية.  أما ما زاد من ألمها ومرارة قلبها هو أن الابن الأكبر كان قد نشأ نشأةً تقوية رائعة، بالإضافة إلى ما أظهره من نبوغ واضح شهد به الجميع، حتى أن مدرسيه بمدارس الأحد والشباب الناشئ كانوا يتوقعون أن يصبح هذا الصبي يومًا خادمًا للرب، وظل هكذا إلى أن بلغ الثامنة عشر من عمره عندما بدأ في مصادقة رفقاء السوء.  وبالحق قال الحكيم: "رفيق الجهال يُضَر".

   هكذا كان حال تلك السيدة المسكينة المُجرَّبة، ولكنها قط لم تتوقف عن الصلاة من أجل ولديها، واستطاعت أن تشرح لابنها الأصغر قصة الفداء وطريق الخلاص.  ولأن ذهنه كان أكثر أجزاء الجسم سلامةً استطاع أن يفهم وأن يقبل المسيح مخلصًا شخصيًا لحياته، ومع أن حياته كانت كلها معاناة شديدة وصراعًا دائمًا مع المرض، إلا أنه كان دائمًا فرحًا، فلا تراه إلا مُتهللاً ومترنمًا ببعض الترنيمات التي علمتها إياه أمه.
   وذات يوم، في ثورة غضبٍ شديدة، أقبل الابن الأكبر على أمه يطلب منها نقودًا ليشترى ما يحتاجه من مخدرات.  رفضت الأم طلبه لأن ما تبقى معها من نقود لم يكن يكفي إلا ما يسد رمقهم ويفي باحتياجات أخيه من علاج.

  هنا جُنّ جنون ابنها وصاح بأعلى صوته: "العلاج .. العلاج .. دائمًا العلاج هو المبرر لرفضك .. ولكنني سأُنهي هذه المشكلة الآن".


   اندفع الشاب إلى المطبخ، وفي لحظة واحدة عاد وقد تملّكه الجنون ليغرس السكين الحادة في عنق أخيه المريض، بينما الصرخات المُفزعة التي صعدت من قلب الأم المنكوبة تشق عنان السماء.

   في المحكمة وأمام القاضي كان على الأم المسكينة أن تجيب على عدة أسئلة:
  "يقول ابنك إنه كان خارج البيت أثناء وقوع الجريمة.  فما قولك؟"
  "كما يذكر أنك طلبت منه أن يشتري علاجًا لأخيه المريض فذهب على الفور.  فهل هذا صحيح؟"
  "يؤكد ابنك أن هذه السكين لا تخصّكم.  فما قولك أنت؟"
  "وهل رأيت هذه السكين من قبل؟"
  "هل ابنك يتعاطى أي نوع من المخدرات؟"


   كان كل سؤال من هذه الأسئلة بمثابة خنجر حاد يمزق قلبها ويستقر في أعماقها، فدارت بها الدنيا وشعرت بالغرفة حولها تُظلم رويدًا رويدًا وبدأ جسمها يفقد توازنه، فهي حتى تلك اللحظة لم تفقد أبدًا محبتها الغامرة لابنها الأكبر، ولم يفتر تعلقها الشديد به حتى وإن كان قلبها المكسور يبكي بمرارة حاله المحزن.

   أمر القاضي على الفور بكوب من الماء كما أمر بكرسي لتجلس عليه المرأة، وبعد أن جلست رفعت صلاة قصيرة إلى الله من قلب سحقه الحزن سحقًا شديدًا، تطلب فيها من الرب أن يمنحها قوة هائلة مُعجزية لتقول الحق، ثم رفعت رأسها وبثبات عجيب قالت له الحق كله.
   كان من مبادئ القضاء في تلك الدولة أن يُعرَض المتهم على طبيب نفسي قبل النطق بالحكم، وهكذا كان.

  أسفرت نتائج الخبير النفسي عن هذا التقرير:" هذا الشاب يتمتع بجينات فاضلة ولكنه يعاني من اضطراب نفسي شديد أدى به إلى الإدمان، وإذ تحكم الإدمان في نفسيته وعقله قام بارتكاب الجريمة بدون وعي منه، وبمجرد علاجه من الإدمان سيصبح شخصًا مثاليًا فاضلاً".

   كان هذا التقرير كافيًا لأن يُنقل الشاب من غياهب السجن وحبل المشنقة إلى إحدى مصحات معالجة الإدمان.
   أما الأمر الرائع في هذه القصة فهو ما حدث بعد ذلك.

   فبعد تماثله للشفاء زاره أحد أصدقاء الطفولة في مدارس الأحد في بلدتهم.  جلس الصديق بقرب سرير الشاب محاولاً أن يضبط نفسه حتى يستطيع أن يتكلم، ولكن عندما طالت المدة اضطر أن يترك دموعه تنهمر بغزارة على وجنتيه حتى تحول بكاؤه إلى نحيب وشهقات متلاحقة، وما هي إلا لحظات حتى انهارت صلابة الشاب الجالس على سريره، واختلطت شهقاتهما ونحيبهما حتى لتسمعها عن بعد، وتحول نحيب الشاب  إلى صراخ مرير طالبًا من الرب عفوًا وغفرانًا وقبولاً أبديًا على مبدأ النعمة ليس إلا.

   أما الأم، وهي بطلة قصتنا، فهي الآن في غاية السعادة وراحة البال فقد أكرمت الرب بصدقها في أصعب امتحان للصدق تمر به أمٌ مُحبة تُسلِّم ابنها لقضاء الموت، بينما يفيض قلبها حُبًا وعطفًا وحنانًا عليه.  إنها تُجيب كل من يسألها عن هذا الأمر قائلة: "كن صادقًا مهما كلَّفك الأمر، وهو قادر أن يتكفل بنفسه بالأمر كله.  يكفي أن تمجده بصدقك".  لقد وقفت بجانب الرب ضد مشاعر الأمومة الطبيعية، وكانت على وشك أن تفقد الإثنين، لكن الرب أكرمها فربحت الإثنين في السماء.
                                                                         

 
 
         
    


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com