عدد رقم 3 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
هز العش والغربلة  

تشهد حياة المؤمن الكثير من الهزات والتقلبات وعدم ثبات الأحوال المُحيطة به، وهذا ما نُطلق عليه بلغة الكتاب المقدس هز العش، «كما يُحرِّك النَّسْرُ عُشَّهُ وعلى فراخه يرفُّ، ويبسط جناحيه ويأخذها ويحملها على مناكبه» (تث32: 11)، والغربلة كما قال الرب لبطرس: «هوذا الشيطان طلبكم لكي يُغربلكم كالحنطة!» (لو22: 31).
  والحقيقة أن الرب يسمح لنا بهز العش أوالغربلة، والشيطان يريد لنا هز العش والغربلة أيضًا، ولكن الهدف بالقطع مختلف.  فالرب يسمح بهذا لكي يدرِّبنا ويقوِّينا، ويُنقِّينا من أي أثر للتبن (أعمال الجسد)، وينمينا، ويثبِّتنا لكي نكون رجالاً في الإيمان، كما حدث مع يوسف إذ قيل عنه: «أَرسل أمامهم رجلاً»
 (مز105: 17).

 وما أكثر ما قاساه يوسف! ومن الناحية الأخرى، الشيطان يطلب هذا ويفعله وهدفه أن يُسقط المؤمن من العش، ليُصيبه باليأس ويحطمه.  لكن شكرًا للرب، إن الشيطان لا يستطيع أن يلمسنا، بدون أن يطلب ذلك من الرب، وبدون أن يحدد الرب له الجُرعة التي يستخدمها، وبدون أن تكون عين الرب علينا وقت التجربة ليتدخل في الوقت المناسب!! (انظر أي1: 12، 2: 6، 2:42 و5، 10 -13). 

نحن نريد الهدوء واستقرار الأحوال من حولنا، في كل الأوقات وفي كل الأمور، بل إن أحد أهداف الصلاة، أن نُصلِّي لأجل الرؤساء والسلاطين لكي نقضي حياة هادئة مطمئنة في كل تقوى ووقار (1تى1:2 و2) وهذا أمر طبيعي.  على أن الهدوء والاستقرار المستمر لا يقودنا إلى الأعماق ولا يغيرنا.  ونحن نتذكر ما قيل عن موآب: «مستريح موآب منذ صباه، وهو مستقر على درديه، لم يفرغ من إناء لإناء، ولم يذهب إلى السبي، فبقيت رائحته فيه وطعمه لم يتغير» (إر11:48).

ولكن عندما يسمح الرب لنا في حكمتة بهز العش والغربلة، فهذا لبركتنا، فليس المهم هو استقرار الظروف بل بنياننا وقوَّتنا الروحية من خلال علاقتنا القوية وشركتنا مع الرب.  وما أكثر الأمثلة على ذلك! ودانيآل مثال واضح على ذلك، فكم تقلبت به الحياة وتغيَّرت الأحوال في أيامه! فقد تغيَّرت ممالك وملوك، وتغيَّرت ظروفه من النقيض للنقيض، من شخصٍ من حُكماء ومُشيري المَلك، إلى شخص معرَّض للقتل، ثم مرة أخرى في باب الملك، وأخذ يتقدم في المملكة، إلى أن أصبح واحدًا من أكبر ثلاثة بعد المَلك، وفجأة تهوي الأمور به إلى جُب الأسود، وهكذا! لكن رغم كل هذه المتغيرات، المرتفعات والمنخفضات، فإن دانيآل كان مستقرًا نفسيًا وسلوكيًا وروحيًا لثقته في الله وعمق علاقته وشركته معه. 

وداود مثال آخر يؤكد هذه الفكرة، فبمقارنة حياة داود بحياة سليمان، نجد أن حياة داود كانت سلسلة من المتاعب، من مطاردة وبُغضة شاول له، ثم تمرُّد إيشبوشث ابن شاول ثم مطاردة ابنه أبشالوم له.  ونتيجة لذلك كان له الكثير من الصلوات والمزامير التي تحكي هذه الاختبارات ومعاملات الرب معه، ولم يكن هذا لفائدة داود فحسب، بل كانت فيه دروس رائعة لفائدة كل المؤمنين على مر العصور! وعلى العكس من ذلك، ابنه، الملك سليمان الذي أراحه الرب من كل جهة، وكان السلام هو طابع أيام مُلكه، لكن نجد أن داود فاقه بمراحل من ناحية الاختبارات والعمق الروحي والعلاقة مع الله!

بعض الدروس المستفادة من:

هز العش: 
إذا رجعنا إلى الآية السابقة  (تث 11:32)، من المعروف أن النَّسْر عندما يريد أن يُعلِّم صغاره الطيران، فلا بد أن يُدرِّبهم على ذلك! كيف؟ في الوقت المناسب، وفي يوم من الأيام يأتي إلى صغاره وهم هانئون في عشهم، ويهز العش بعنف، للدرجة التي فيها يسقطون من العش، من هذا الارتفاع الشاهق إلى أسفل، إلى هوة عميقة، فيشعرون بالضياع، ولو تخيلنا أحدهم يسأل أخاه: أين عواطف أبينا؟ كيف يفعل هذا بنا وهو الذي ما أهمل في حقنا يومًا، ولم يقصِّر في إحضار الأكل والشرب لنا، وتوفير الدفء والحماية؟! كل هذا وفراخ النَّسْر تحاول أن تُحرِّك أجنحتها الصغيرة وترفرف بها لعلها تستطيع أن تفعل شيئًا، وعندما تقترب من الارتطام بالأرض أو الصخور،  ترتبك وتضطرب وترفرف بأكثر قوة، وكأنها تصرخ بأعلى صوتها: أين أنت أيها الأب؟! «أَمَا يهمك أننا نهلك؟» (مر4: 38).  ولكن يا للمفاجأة السارة! إذ أنه قبل الاصطدام بالأرض بأمتار قليلة، وإذ بأجنحة الأب القوية العريضة تنفرد أسفلهم حاملة إيَّاهم وحامية لهم من الارتطام بالأرض، وراجعة بهم إلى العُش مرة أخرى حيث الأمان والاستقرار، وتتساءل فراخ النسر، لماذا حدث هذا وما معناه، إن أبانا لم يكن بعيدًا عنا على الإطلاق؛ بدليل ظهوره وتدخله في الوقت المناسب تمامًا!! عمومًا هو حدث عصيب ولا نظن أن أبانا سيسمح لنا أن نواجهه مرة أخرى.  وبعد أيام حدث ما لم يكن في الحسبان، إذ اقترب الأب من العش مرة أخرى وهزَّه بعنف شديد وسقط الصغار، وحدث ما حدث في المرة الأولى، من اضطراب وحيرة وصراخ ومحاولة النسور الصغيرة تحريك أجنحتها، وتدخل الأب في الوقت المناسب، للإنقاذ بعد مراقبة دقيقة منه، ويتكرر هذا الأمر عدة مرات، وفي المرة الأخيرة لم يصرخ الصغار كما كانوا يفعلون من قبل، فقد استطاعوا أن يطيروا، ورأوا أباهم يطير بجانبهم، وكم كانت فرحتهم غامرة غير مصدقين أنهم يستطيعون الطيران، بل إن الطيران أصبح متعتهم حيث يحلقون في الأجواء المرتفعة.  

إن الصغير لم يعد صغيرًا، والنسور الصغيرة خرجت من هذه الهزات الشاقة لعشها وهي تستطيع الطيران والتحليق في الأجواء العالية.  نفهم من هذا أن غرض الرب من وراء هز العش، هو التدريب، فلربما يريد الرب أن يُدرِّبنا على الصلاة بلجاجة، أو على الثقة والإيمان، أو على الخضوع والشكر رغم التجربة.  وكل هذه تدريبات نافعة في الحياة المسيحية!

غربلة الشيطان: 
قال الرب لبطرس: «سمعان، سمعان، هوذا الشيطان طلبكم لكي يغربلكم كالحنطة! ولكني طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك. وأنت متى رجعت ثبِّت إخوتك» (لو 31:22 و32).

فالمشهد هنا مختلف تمامًا، فإن كانت اليد التي تهز العش هي يد الأب، فاليد التي تُغربل هنا هي يد الشيطان، والرب أعطاه الإذن بذلك، بل ويراقب الموقف عن قرب. 
وإن كان الشيطان هو الذي يغربل، فليس بدون إذن الرب الذي رسم له حدودًا لا يستطيع أن يتعداها.  وقصة أيوب توضح لنا ذلك.  فالشيطان لا يقدر أن يعمل مع المؤمن شيئًا كبيرًا أو صغيرًا إلا بعد أخذ الإذن من الرب!

كم هي مهمة هذه الغربلة، لإزالة كل ما هو أرضي وعالمي وجسدي من حياتنا، بل إن هذا كثيرًا ما يكون طلبتنا في الصلاة.  لقد خرج بطرس من الغربال أكثر نقاءً، ومفرَّغًا من ذاته تمامًا، بعد أن كان مملوءًا من الثقة في الذات، وكان يظُن أنه أفضل التلاميذ وأكثرهم إخلاصًا للرب: «وإن شكَّ فيك الجميع فأنا لا أشكُّ أبدًا» (مت26: 33). ثم تمَّم رسالته على أكمل وجه، وذلك بعد أن رد الرب نفسه (يو21: 15-18)، سواء كصيَّاد للناس (أع2: 41)، أو بتثبيت وإطعام قطيع الرب. 

وقد كان للرب معاملات وقائية خاصة مع الرسول بولس أيضًا، الذي كتب: «ولئلا أرتفع بفرط الإعلانات، أُعطيتُ شوكةً في الجسد، ملاك الشيطان ليلطمني، لئلا أرتفع»  (2كو 7:12).  وإن كنا لا نعرف ماهية تلك الشوكة،  فنحن نعرف هدف الشيطان عندما يُعطَى الإذن بذلك، ولكن ما أروع قصد الرب «تكفيك نعمتى، لأن قوَّتي في الضعف تُكْمَلُ» لذا يهتف الرسول بولس مسرورًا: «فبكل سرورٍ أفتخر بالحريِّ في ضعفاتي، لكي تحل عليَّ قوة المسيح.  لذلك أُسرُّ بالضعفات والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح. لأني حينما أنا ضعيفٌ فحينئذٍ أنا قوىٌّ» (2كو9:12 و 10).
  ويستطيع كل متألمٍ أن يضع شوكته مكان شوكة بولس، أيًا كانت هذه الشوكة، فكلٌٍُ له شوكته، على قدر ما يستطيع أن يحتمل.
ونعتقد أن الشيطان لو عرف أن المُعاناة والغربلة وما يفعله معنا سوف يجلب لنا قوة الرب ونعمته لتوقف عن فعل ذلك.

وبدون معرفة قصد الرب من وراء معاملاته معنا، قد نُصاب باليأس والإحباط والوهن، فجميل أن نُصلِّي ونطلب مثل بولس ليعلن لنا الرب فكره. 

والسؤال: هل كان بولس عُرضة للارتفاع، رغم أنه قبل ذلك مباشرة اختطف إلى السماء الثالثة؟ 

الإجابة: نعم.  لماذا؟ لأن «القلب أخدع من كل شيءٍ وهو نجيسٌ، مَنْ يعرفه؟ أنا الرب فاحص القلب مختبر الكُلَى» (إر9:17 و10).  ثم إن الجسد هو الجسد حتى بعد الرجوع من السماء الثالثة.  والشيء الرائع الذي يؤكد لنا أن الشيطان ما هو إلا أداة في يد إلهنا، يستخدمها لخيرنا، أن هذا الشيطان الذي سقط بداء الكبرياء هو نفسه الذي استخدمه الرب لحفظ عبده بولس من ذات داء الكبرياء.  وما يدعونا للاطمئنان أن الرب شافع لنا قبل الغربلة أيضًا هو قوله لبطرس: «طلبت من أجلك لكي لا يفنى إيمانك».  وهذا يوافق الأقوال التي جاءت في سفر عاموس عن الشعب والرب الذي كان يقوم بالغربلة لهم: «لأنه هأنذا آمُرُ فأُغربل بيت إسرائيل بين جميع الأُمم كما يُغرْبَل في الغربال، وحبَّةٌ لا تقعُ إلى الأرض» (عا9:9).  فالمؤمن لا يسقط من الغربال، لكن الذي يسقط فقط هو التبن!

لذلك دعونا لا نرتعب من الغربال أو هز العُش، بل نبتغي من القلب استقرار العلاقة مع الرب الصالح الذي يقصد دائمًا خيرنا.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com