المشهد الثالث: في وادي قدرون
(2صم15: 23-29)
«وَكَانَتْ جَمِيعُ الأَرْضِ تَبْكِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ، وَجَمِيعُ الشَّعْبِ يَعْبُرُونَ. وَعَبَرَ الْمَلِكُ فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ نَحْوَ طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ. وَإِذَا بِصَادُوقَ أَيْضًا وَجَمِيعُ اللاَّوِيِّينَ مَعَهُ يَحْمِلُونَ تَابُوتَ عَهْدِ اللهِ. فَوَضَعُوا تَابُوتَ اللهِ، وَصَعِدَ أَبِيَاثَارُ حَتَّى انْتَهَى جَمِيعُ الشَّعْبِ مِنَ الْعُبُورِ مِنَ الْمَدِينَةِ. فَقَالَ الْمَلِكُ لِصَادُوقَ: أَرْجِعْ تَابُوتَ اللهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُرْجِعُنِي وَيُرِينِي إِيَّاهُ وَمَسْكَنَهُ. وَإِنْ قَالَ هكَذَا: إِنِّي لَمْ أُسَرَّ بِكَ، فَهَأنَذَا، فَلْيَفْعَلْ بِي حَسَبَمَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ. ثُمَّ قَالَ الْمَلِكُ لِصَادُوقَ الْكَاهِنِ: أَ أَنْتَ رَاءٍ؟ فَارْجِعْ إِلَى الْمَدِينَةِ بِسَلاَمٍ أَنْتَ وَأَخِيمَعَصُ ابْنُكَ وَيُونَاثَانُ بْنُ أَبِيَاثَارَ. ابْنَاكُمَا كِلاَهُمَا مَعَكُمَا. انْظُرُوا. أَنِّي أَتَوَانَى فِي سُهُولِ الْبَرِّيَّةِ حَتَّى تَأْتِيَ كَلِمَةٌ مِنْكُمْ لِتَخْبِيرِي. فَأَرْجَعَ صَادُوقُ وَأَبِيَاثَارُ تَابُوتَ اللهِ إِلَى أُورُشَلِيمَ وَأَقَامَا هُنَاكَ» (2صم15: 23-29)
«وَادِي قَدْرُونَ» ... والاسم معناه ”وادي الكدر“ أو ”الوادي الأسود“. وهو وادي متسع شرق أورشليم، ويفصل بينها وبين جبل الزيتون، ويتصل بوادي ”ابن هنوم“ ليكونا معًا ”وادي النار“ الذي يسير متعرجًا في برية يهوذا إلى أن يصل ليصب في البحر الميت. وكان ”وَادِي قَدْرُونَ“ قديمًا عبارة عن مجرى مائي ضحل (The Brook Kidron - نهر قدرون)، لكنه الآن جاف، ربما بسبب تراكم الأتربة التي ملأته.
وكان ”وَادِي قَدْرُونَ“ يُعتبَّر مكانًا نجسًا وكريهًا للنفس القدوسة (لا14: 40، 45)، فقد كانت تُلقى فيه نفايات وقاذورات مدينة أورشليم، وأيضًا مُخلفات الذبائح التي كانت تُقدَّم في الهيكل، لتُحمل هذه المُخلفات بعيدًا بواسطة الجدول المائي العكر الذي يعبر هذا الوادي. وفي هذا نجد صورة لنجاساتنا وخطايانا وحماقاتنا التي غُسلنا منها، وحملها المسيح – بنعمة الله – بعيدًا عن وجه الله في هيكله.
ونفهم مما جاء في 2ملوك23: 6؛ إرميا31: 40 أنه في ”وَادِي قَدْرُونَ“، كانت تُوجد قبور عامة الشعب، وكانت يُلقى فيه رماد الأوثان والرجاسات التي يُحطمها الملوك الأتقياء ليُطهروا أورشليم منها. وهذا ما فعله الملك آسا (1مل15: 13؛ 2أخ15: 16)، والملك حزقيا (2أخ29: 16؛ 30: 14)، والملك يوشيا (2مل23: 4، 6، 12).
وبالرغم من كل ذلك يتنبأ إرميا نبوته السعيدة عن ”وَادِي قَدْرُونَ“، والمُرتبطة بالعهد الجديد الذي سيقطعه الرب مع بيت إسرائيل ومع بيت يهوذا، فيقول: «هَا أَيَّامٌ تَأْتِي، يَقُولُ الرَّبُّ، وَتُبْنَى الْمَدِينَةُ لِلرَّبِّ ... وَيَكُونُ كُلُّ وَادِي الْجُثَثِ وَالرَّمَادِ وَكُلُّ الْحُقُولِ إِلَى وَادِي قَدْرُونَ ... قُدْسًا لِلرَّبِّ ... إِلَى الأَبَدِ» (إر31: 38-40).
وعبور ”وَادِي قَدْرُونَ“ كان معناه الخروج خارج حدود أورشليم، فقد توعد سليمان الملك ”شَمْعِي بْنُ جِيرَا“ قائلاً له: «ابْنِ لِنَفْسِكَ بَيْتًا فِي أُورُشَلِيمَ وَأَقِمْ هُنَاكَ، وَلاَ تَخْرُجْ مِنْ هُنَاكَ إِلَى هُنَا أَوْ هُنَالِكَ. فَيَوْمَ تَخْرُجُ وَتَعْبُرُ وَادِيَ قَدْرُونَ، اعْلَمَنَّ بِأَنَّكَ مَوْتًا تَمُوتُ، وَيَكُونُ دَمُكَ عَلَى رَأْسِكَ» (1مل2: 36، 37).
وفي 2صموئيل15: 23 ذُكر ”وَادِي قَدْرُونَ“ يوم كان داود مُطاردًا من أبشالوم، محزونًا هو ورجاله الأوفياء، وكانت جميع الأرض تبكي بصوت عظيم، وجميع الشعب يعبرون، كما قيل: «وَعَبَرَ الْمَلِكُ فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ نَحْوَ طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ» (2صم15: 23).
وآخر إشارة لِوَادِي قَدْرُونَ في الكتاب المقدس، هي ما جاء في إنجيل يوحنا عندما غادر الرب يسوع العُليَّة التي صنع فيها العشاء مع تلاميذه، وعبر نفس الوادي لكي يصل إلى بستان جثسيماني، فنقرأ: «قَالَ يَسُوعُ هَذَا وَخَرَجَ مَعَ تَلاَمِيذِهِ إِلَى عَبْرِ وَادِي قَدْرُونَ، حَيْثُ كَانَ بُسْتَانٌ دَخَلَهُ هُوَ وَتلاَمِيذُهُ» (يو18: 1).
وهكذا في عبور داود - الملك المرفوض من شعبه - لِوَادِي قَدْرُونَ العكر البشع، يُمكننا أن نرى صورة ورمزًا لعبور الرب يسوع به. وهكذا نجد في آلام داود من أجل الخطية صورة عجيبة للمشاهد المرتبطة بصليب المسيح، مع هذا الفارق الهائل الهام أن داود في آلامه كان يحصد ما زرع هو من خطايا، أما المسيح فكانت آلامه بسبب خطايانا نحن.
ومن مشهد وَادِي قَدْرُون نتعلَّم:
أولاً: حتمية الآلام: «وَعَبَرَ الْمَلِكُ فِي وَادِي قَدْرُونَ، وَعَبَرَ جَمِيعُ الشَّعْبِ نَحْوَ طَرِيقِ الْبَرِّيَّةِ» (ع23): في هذا المعبر الكئيب سار داود المُطارد، وبعده بنحو ألف سنة اجتاز المسيح نفس هذا الوادي.
عبر داود ذلك الوادي الأغبر طريدًا هاربًا – مع رفقائه – من ابنه العاق؛ فالرَجُل الذي حَسَبَ قَلْبِ الله لم يُستثنَ من التجربة. لا بل كل حياته كانت تجربة طويلة. كان داود ممسوحًا من الرب، وكان أيضًا مُجرَّبًا من الرب. فلماذا إذن نترجى المُعافاة؟ وعلى طريق الأحزان عبر أشراف الجنس البشري باكين ونائحين، فلماذا إذن نشكو كأنه أصابنا أمرٌ غريب؟ (1بط4: 12).
وملك الملوك نفسه لم يحظَ في هذا العالم بطريق بلا آلام، بل قد عبر ذلك الوادي الأغبر نفسه؛ وَادِي قَدْرُون، الذي فاضت عليه شرور أورشليم. ولقد قال مرة تشارلس سبرجن: ”ليكن معلومًا أن الله له ابن وحيد بلا خطية، لكن ولا واحد من ”أولاده“ اُستُثنى من الآلام“.
لكن مما يُفرح نفوسنا أن الرب يسوع قد جُرِّبَ في كل شيء مثلنا بلا خطية. فما هي تجربتنا في الوقت الحاضر؟ قد تكون خيانة صاحب غادر، أو شرًا وقع أو نتوقعه. والرب عبر في كل هذه. أو قد تكون أوجاعًا جسمانية أو عوزًا أو اضطهادًا أو تحقيرًا؛ والرب عبر في كل هذه أيضًا «فِي كُلِّ ضِيقِهِمْ تَضَايَقَ» (إش63: 9). ولنا أن نثق أن الرب يرثي لنا وسط الضيق والتجربة لأنه اختبر الأحزان كلها لما كان هنا على الأرض، واختبر حياة الخضوع والطاعة كعبد الله وخادمه، لذلك يرثي لضعفاتنا، ويتداخل ليضع بلسمًا للجراح بأسلوبه الإلهي الحكيم (عب2: 18؛ 4: 15).
وبغض النظر عما لاقاه داود فقد رجع هذا الملك إلى مدينته وإلى عرشه ظافرًا. ورب داود قام من القبر غالبًا؛ إذن فلنثق بأننا سنغلب أيضًا، وسنستقي ماءً حيًا من آبار الخلاص، حتى وإن كنا الآن - وإلى حين - ينبغي أن نجتاز مخاضات من الأحزان. فلنثبت يا جنود الرب؛ فالرب نفسه ظفر عبر وَادِي قَدْرُون، وإننا أيضًا لظافرون. وعندما يأتي إلينا معبودنا المجيد ستُمسح كل دمعة من عيوننا، وسينتهي كل أنين، وستتبدل الحالة، وسيتغيّر المشهد، وتحل الأفراح محل الأتراح. ويا له من تبديل!
ثانيًا: «اخْضَعُوا للهِ» (يع4: 7): بينما كان داود يعبر وَادِي قَدْرُون كان هناك بكاء كثير «كَانَتْ جَمِيعُ الأَرْضِ تَبْكِي بِصَوْتٍ عَظِيمٍ ... أَمَّا دَاوُدُ ... كَانَ يَصْعَدُ بَاكِيًا» (ع23، 30)، وقد عبر ربنا المبارك أيضًا ذلك الوادي قاصدًا بستان جثسيماني (يو18: 1)، حيث هناك «قَدَّمَ بِصُرَاخٍ شَدِيدٍ وَدُمُوعٍ طِلْبَاتٍ وَتَضَرُّعَاتٍ» (عب5: 7).
ولقد أتى صادوق وأبياثار مع جميع اللاويين، ومعهم تابوت الله، وأرادوا اتباع داود، وأن يُصاحب التابوت الموكب الباكي. ولكن داود يرفض ذلك. ولم يُرد أن يُكرِّر غلطة أولاد عالي (1صم4). والتابوت كان قد دخل إلى راحته، ولا يمكن أن يبدأ مرة أخرى رحلة التيهان في البرية مع داود. وإذ رأى يد الرب في كل ما هو حادث، فقد قَبِلَ مِن يده كل هذه الأمور، وفي خضوع كامل قال لصادوق: «أَرْجِعْ تَابُوتَ اللهِ إِلَى الْمَدِينَةِ، فَإِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُرْجِعُنِي وَيُرِينِي إِيَّاهُ وَمَسْكَنَهُ. وَإِنْ قَالَ هكَذَا: إِنِّي لَمْ أُسَرَّ بِكَ، فَهَأنَذَا، فَلْيَفْعَلْ بِي حَسَبَمَا يَحْسُنُ فِي عَيْنَيْهِ» (ع25، 26). ولنا في هذا صورة لصلاة الرب يسوع الرائعة لأبيه: «يَا أَبَتَاهُ، إِنْ شِئْتَ أَنْ تُجِيزَ عَنِّي هَذِهِ الْكَأْسَ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ لاَ إِرَادَتِي بَلْ إِرَادَتُكَ» (لو22: 42).
ولكن من الجانب الشخصي، ما أجمل أن نرى داود وهو في شدة أحزانه عالمًا أنها يد الرب التي خرجت عليه للتأديب، فلم ينسَ الرب في آلامه، لكنه يُعلن عن ثقته في رحمته ونعمته، وهكذا نرى هذه الكلمات تكشف عن خضوعه العميق.
ويا لنبل مشاعر التوبة الصادقة والخضوع لله التي يُظهرها داود في كلماته لصادوق! ويا لها من نتيجة عجيبة لعمل روح الله في قلب يجتاز التدريب! ويا لها من ثقة كاملة في صلاح الله الذي يحتمل ويصبر إلى التمام، ويجد مسرته في خاصته، مع أنهم لا يستحقون ذلك! وكل ما يحدث هو عدل وبر، ولكن داود يستند على النعمة، ويقبل هذه المذلة، ويترك لله مسألة تبريره، لأن «اللهُ هُوَ الَّذِي يُبَرِّرُ!» (رو8: 33)، واسمعه يقول: «إِنْ وَجَدْتُ نِعْمَةً فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ فَإِنَّهُ يُرْجِعُنِي وَيُرِينِي (ليس مسكني، ولكن) إِيَّاهُ وَمَسْكَنَهُ». إن تفكير داود ليس في عرشه وقصره، ولكن في الرب وَمَسْكَنَهِ.
إننا أمام واحد من أعظم المشاهد المؤثرة في تاريخ داود كمؤمن تائب، يتألم بسبب خطيته، فشهادة ضميره كانت ضده. هو الآن شخص خاطئ. لقد كشفته الخطية، وأتت به إلى محضر الله، وليس من المناسب لمن هو في مثل حالته أن يفرح ويُعيّد بالتابوت، بل يجب أن يحني رأسه ويقبل التأديب. وهذا ما يفعله ليُنتج الحزن ثمرًا لائقًا في حينه. إنه يطلب من صديقه ”إِتَّاي“ أن يرجع ويتركه ليواجه حزنه بمفرده، لأنه هو الذي أخطأ وجعل يد الرب تمتد عليه، ولكن ما ذنب تلك الخراف؟ وبنفس الروح يُعيد التابوت كمَنْ هو مصدر فرح لا يليق به الآن أن يتذوقه.
كان التابوت - رمز حضور الله في وسط شعبه – هو أعظم فرح له، لكنه لم يكن مستحقًا الآن أن يمتلكه، ولذلك يُرجعه إلى المدينة. كان هذا بكل تأكيد هو الحزن الذي يناسبه الآن. فلم يكن له نصيب من الفرح في الوقت الحاضر. فليرجع تابوت عهد الله إلى المدينة أورشليم لكي ينشر فرح حضوره هناك، أما هو فيصعد في مصعد جبل الزيتون باكيًا، ورأسه مُغطى وحافيًا «لأَنَّ الْحُزْنَ الَّذِي بِحَسَبِ مَشِيئَةِ اللهِ يُنْشِئُ تَوْبَةً لِخَلاَصٍ بِلاَ نَدَامَةٍ» (2كو7: 10).
وما أروع ما يتحدث به ع24 إلى قلوبنا عن الكهنة واللاويين الذين ألقوا قرعتهم مع داود، في يوم رفضه؛ وهل يُمكن أن ينسوا خدمة داود – مرنم إسرائيل الحلو – الوثيقة الارتباط بخدمتهم في بيت الله. إنهم لم يُخدعوا بقبلات أبشالوم الغاشة، والتصقوا بمسيح الرب، بالرغم من التغيير العنيف والقاسي في أوضاعه. ويا ليتنا جميعًا هكذا مع ربنا المجيد المعبود!