عدد رقم 3 لسنة 2013
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
سُبُل الله فِي المِيَاهِ الكَثِيرَةِ  

   استطاع الإنسان أن يصنع طُرقًا مُعبَّدة وممهدة تعبر البراري المقفرة كما تشق الغابات المشجرة.  مهَّد الناس طرقًا فوق الجبال والمرتفعات كما في السهول والمنحدرات.  عبْر العصور تعلَّم الإنسان كيف يتغلب على العوائق الطبيعية فشيد الجسور وطورها، جسورًا عملاقة تربط جُزرًا في قلب البحر ونظيرها فوق الأرض ممتدة لتعبر الوديان بل الأنهار والخلجان.  عمل الناس شبكات من الطرق عبر أنفاق تحت الأرض، ووفر في هذه الطرق كل وسائل التأمين والحماية والإنارة اللازمة.  لكن هل من طريق في البحر وسُبلٍ في المياه العميقة بكثافة ظلامها وعجيج أمواجها؟

   يقول المرنم للرب: «فِي الْبَحْرِ طَرِيقُكَ، وَسُبُلُكَ فِي الْمِيَاهِ الْكَثِيرَةِ، وَآثارُكَ لَمْ تُعْرَفْ ».(مز 77: 19،20).  عندما نجتاز في ظروف صعبة وشائكة بملابساتها المربكة وأجوائها الحالكة، عندما تشتد الأزمات ويكون من الصعب أن نستوعب متى بدأت وكيف تفاقمت فصارت في عداد المعضلات التي حيَّرت العقول فتعقدت الحلول، عندئذ نسمعه يقول: «لست تفهم أنت الآن ما أنا أصنع، ولكنك ستفهم فيما بعد».

  علق ف . ب ماير على معاملات الله العجيبة، التي لم يجد لها تفسيرًا فخرج بهذا الاستنتاج: ”يبدو أن الله يُفضِّل أن يستخدم طرقًا غريبة عن التي يألفها البشر لأن لديه رصيدًا من العجائب يريد أن يظهرها لقديسيه فينشدون بها ويشهدون عنها“.

 هذا الاستنتاج ليس بعيدًا عما يعلنه الكتاب بالفعل عن طرق الله التي تسمو عن أفكارنا بقدر ارتفاع السموات عن الأرض.  يقصد الرب أن أحباءه يرون عجائبه في العمق ليحمدوه على عجائبه وسط شعبه في محفل عظيم.  فقد« أَمَرَ فَأَهَاجَ رِيحًا عَاصِفَةً فَرَفَعَتْ أَمْوَاجَهُ. ... يُهْدِئُ الْعَاصِفَةَ فَتَسْكُنُ، وَتَسْكُتُ أَمْوَاجُهَا.  فَيَفْرَحُونَ لأَنَّهُمْ هَدَأُوا، فَيَهْدِيهِمْ إِلَى الْمَرْفَإِ الَّذِي يُرِيدُونَهُ، فَلْيَحْمَدُوا الرَّبَّ عَلَى رَحْمَتِهِ وَعَجَائِبِهِ لبَنِي آدَمَ. وَلْيَرْفَعُوهُ فِي مَجْمَعِ الشَّعْبِ، وَلْيُسَبِّحُوهُ فِي مَجْلِسِ الْمَشَايِخِ» (مز 107: 25- 31).

 أمرٌ غريب! أليس هو الذي أهاج الريح العاصفة وهو الذي هدأها، وهو الذي رفع الأمواج ثم بعد ذلك سكتها! لكن بين هذه وتلك أراد أن يكشف عجائبه في العمق.  الإنسان قد يكون مضطرًا أن يختار الحل الأصعب نظرًا لمحدودية الاختيارات ومحدودية العلم والقدرات، ثم يهون عن نفسه لاحقًا عندما تتاح له الفرصة أن يفعل ذلك.  لكن ليس الله كذلك.  الله في قدرته يصنع الصعاب ليظهر فيها أفعاله العجاب. 

   التاريخ المدون على صفحات الوحي يشهد أن الرب هو ملك الدهور الذي يصنع التاريخ ويحرك الأحداث المتوالية بحكمة وسلطان فائق.  فهو المكتوب عنه «حسب قصد الذي يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته» (أف11:1).

   حُرم يوسف من أبيه وغدر به إخوته، ثم بيع عبدًا، وظُلم من امرأة فوطيفار فألقي في السجن، ثم نسيه رئيس السقاة.  توالت الأزمات وبمرور الأيام تعقدت وزادت إظلامًا، لكن بينما كانت النكبات تتوالى كان المخطط الإلهي ينُفَّذ بمنتهى الإتقان، لأن الله له طريق في حياة يوسف وله سُبله في  تلك الظروف الطاحنة.  علق أحد منتجي الأفلام على قصة يوسف بقوله: ”حبكة القصة ما كانت تخطر على بال إنسان، وإدارة أحداثها تشهد عن خبرة وإتقان من رسم تفاصيلها، وقدرة وسلطان من قام بتنفيذها“.  

   إن كنا نعيش في أيام وصفها رجال الساسة أنها أيام ضبابية، وقادة البلاد يتلمسون الطريق وسط مخاوف من كل نوع، فنحن لا ننزعج لأن راعينا هو صاحب السلطان الذي يصنع الأحداث، هو الذي يُرسل الريح الشديدة ليحدث نوء عظيم، وهو الذي تهدأ بأمره الرياح وتسكن البحور الهائجة، هو الإله القدير الذي يعلم منذ البدء بالأخير، لا يهم إن كان الأفق محاطًا بالضباب  فله في الغمام مسالك وفي العاصف طريق وسبل في المياه الكثيرة.  ويده الرحيمة تجتاز بنا في مضايق الزمان.  له النهار وله أيضًا الليل، فالضيق ليس سوى وسيلة يحقق بها مشيئته الصالحة.  وهو أعظم من الإنسان.  «هُوَذَا اللهُ يَتَعَالَى بِقُدْرَتِهِ. مَنْ مِثْلُهُ مُعَلِّمًا؟ مَنْ فَرَضَ عَلَيْهِ طَرِيقَهُ، أَوْ مَنْ يَقُولُ لَهُ: قَدْ فَعَلْتَ شَرًّا» (أي36: 22، 23).  

   إننا بالطبيعة نميل إلى المياه الهادئة وليست المياه الكثيرة، نميل للنهار ونخشى الليل، وننسى أن للرب النهار وله أيضا الليل. «لَكَ النَّهَارُ، وَلَكَ أَيْضًا اللَّيْلُ. أَنْتَ هَيَّأْتَ النُّورَ وَالشَّمْسَ» (مز74: 16).

    ما أجمل النهار! ، في النهار نرى النور ونسمع تغريد الطيور، في النهار نحظى بالدفء، نقطف الثمار وأجمل الزهور.  لكن ما أرهب الليل، فحينما يرخي سدوله، يخيم ظلام الحيرة ويسود الجمود بحلوله، بينما تستيقظ وحوش الهواجس لتحوم وسماء الفكر قد اسودَّت بغيوم الشكوك.  في الليل تبرد القلوب وينقطع الغناء، وتعلو زفرات الأنين.  لكن أليس الذي أبدع النهار هو الذي صنع الليل أيضًا،  وهو المقتدر الذي يدير الليل ويسود عليه بحكمته.  بل جاء في نعمته وعاش تحت الشمس مشاركًا خليقته، فاجتاز الليل ليبطل رهبته، وليضيء لنا في ظلمته، ويخرج من جفائه حلاوة ومن صمته شدوًا وخلف غيومه ادخر نعمًا.

   ما أهدأ وأهنأ الليل في ستره، وما أبهى إشراق وجهه وسط عتمة الليل الرهيب إذ يرتسم ثغره البسام الذي يفيض بالحنان، ويهمس بالإعلان، ويبث في القلوب الفرح والسلام.  ألم يأمر تلاميذه الأحباء أن يسبقوه إلى العبر، وهو يعلم أنهم سوف يقضون ليلة ليلاء ويذوقون فيها مر العناء لكي في الأخير يعلن لهم أنه الإله القدير الذي له الليل كما له النهار، هو الذي كساه بالظلام ودعا الرياح العاصفة ورفع الأمواج الهائجة المتلاطمة، لكي يستعرض ــ في الهزيع الرابع من الليل ــ  قدرته و سلطانه ويظهر أيضًا رحمته وحنانه.

   عندما يميل النهار ليس لنا ملاذ إلا حضنه الرحيب والدفيء، فالليل صورة للأزمات التي قصد إلهنا الصالح والحكيم أن نجتاز في دروبها الوعرة لكي نستند عليه ونلتمس معونته ونتذوق حنانه ورحمته.  كما أنها فرصة نرى فيها يده القديرة التي ترفع المصائب وتصنع العجائب.  الليل فرصة لنا أن نضيء كأنوار، فنشهد بالسلوك القويم، كما نشهد عن صلاح إلهنا بصبرنا وشكرنا في ألمنا المرير، كما أن الليل فرصة أن نقوم ونحمد الرب الذي يجود ويعطي أحباءه وهم نائمين، كما أنه نبع الفرح الثمين الذي يؤتي الأغاني في الليل. 

   كفاك من السؤال: لماذا الليل؟ «لأَنَّ اللهَ أَعْظَمُ مِنَ الإِنْسَانِ. لِمَاذَا تُخَاصِمُهُ؟ لأَنَّ كُلَّ أُمُورِهِ لاَ يُجَاوِبُ عَنْهَا»(أي33: 12)، إنه لا يعطينا تعليلاً وتفسيرًا لكل ما يفعله، لأن أفكارنا ليست كأفكاره، فكيف إذًا نفهم أبعاد حكمته؟ لكن أمام صلاحه ومراحمه الكثيرة التي يظهرها طول الطريق، لا يسعنا سوى أن نهتف مع المرنم في خشوع وخضوع: «الرَّبُّ بَارٌّ فِي كُلِّ طُرُقِهِ، وَرَحِيمٌ فِي كُلِّ أَعْمَالِهِ» (مز145: 17)  الذي يطمئن القلب أن الرب بنفسه يسير معنا في دروب البرية الموحشة إلى أن يوصلنا ديار المجد عن قريب.                                                                                         

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com