”أَبْشَالُوم“ هو الابن الثالث لداود من ”مَعْكَة بِنْتِ تَلْمَايَ مَلِكِ جَشُور“ والتي أخذها داود بعدما مَلك في حبرون (2صم3: 3). ومعنى اسم ”مَعْكَةَ“ هو ”ظلم“ أو ”اضطهاد“. أما ”أَبْشَالُوم“ فمعنى اسمه ”أب السلام“، لكنه - على عكس اسمه - كان قاتلاً! فعندما حدثت المصيبة وأذل أمنون - أخوه غير الشقيق - أخته ثامار (2صم13)، وأغمض داود عينيه عن هذه الجريمة الشنيعة، وأهمل توقيع القصاص المناسب، اغتاظ أبشالوم، وقتل أمنون. ثم ظل أبشالوم ثلاث سنوات هاربًا ولاجئًا عند ملك جشور، جده لأمه، ثم بواسطة يوآب رجع إلى أورشليم وبقى سنتين دون أن يرى وجه الملك أبيه. ثم أيضًا وبتأثير كلام يوآب يوافق داود ويقابل أبشالوم، ويتغاضى داود عن توقيع العقوبة على أبشالوم إزاء جريمته التي ارتكبها بقتل أخيه، بل نراه عند لقائه يُقبِّله (2صم14: 33)، مع أن أبشالوم يأتي متعجرفًا متكبرًا دون أن يعترف بجرم أتاه، أو يحكم على نفسه كمذنب. ولو كان داود حازمًا ومتوكلاً على الله لما لاقاه هذا اللقاء. ولأن داود كان يتصرف طبقًا لمشاعره، وليس طبقًا لبر الله وأحكامه، فإنه سامح أبشالوم دون أن تظهر في هذا الشاب توبة حقيقية، نظير تلك التوبة التي تبرهنت من داود في مسألة قتله لأوريا الحثي. فكم ناح داود وانسحق، واتضع وخضع، وهو يعترف بخطيته تائبًا ونادمًا. أما أبشالوم فلم يذرف دمعة واحدة على أخيه الذي قتله، ولا نقرأ أنه اعترف وتاب أو قدم ذبيحة عن خطيته.
وبعد رجوعه، نسي أبشالوم مركزه كابن ليكرم أباه، وعلى العكس سعى لاغتصاب المُلك من أبيه، وأثار ثورة وحربًا أهلية ضده، ولكنه قُتل في هذه الحرب. وكم كان وقع خبر موته أليمًا على قلب داود؛ الأب الشيخ! لقد انسحق قلبه في ذلك اليوم لأنه كان يحب هذا الابن العاق، وأوصى قادة جيشه الثلاث يوآب وأبيشاي وإتاي الجتي أن يترفقوا بأبشالوم. ورغم عقوق هذا الابن، فقد كان موته تحت قضاء الله أفدح نازلة حاقت بقلب داود.
أما عن الدروس الأدبية التي نتعلَّمها من ثورة أبشالوم على داود أبيه، فنقول:
أولاً: حذار من النير المتخالف ...
بعد موت شاول، صعد داود إلى حبرون، هو وامرأتاه ”أَخِينُوعَم وأَبِيجَايِل“ (2صم2: 2). وأخيرًا وجد داود نفسه في بيت ومن حوله ذويه يستأنس بهم هادئ البال. فلماذا إذن يتخذ لنفسه نساءً أخريات في حبرون بجانب ”أَخِينُوعَم وأَبِيجَايِل“، اللتين رافقتاه في كل تيهانه. هل سأل الرب قبلما فعل ذلك؟ هل قرأ كلمة الرب؟ لقد كانت لديه أسفار الناموس، وكان عليه فقط أن يتأمل فيها ليرى طريقه. أَ لم يقل الرب في تثنية 17: 17 بخصوص الملك «وَلا يُكَثِّرْ لهُ نِسَاءً لِئَلا يَزِيغَ قَلبُهُ»؟ ورغم ذلك نجد أن داود أخذ لنفسه زوجات كثيرات في حبرون أولاً (2صم3: 2-5؛ 1أخ3: 1-4)، ثم في أورشليم (2صم5: 13-16؛ 1أخ3: 5-8؛ 14: 3-7). ولو أنه اكتفى بزوجته الأمينة أَبِيجَايِل «جَيِّدَةَ الْفَهْمِ وَجَمِيلَةَ الصُّورَةِ»، والتي معنى اسمها ”مصدر الفرح“ (1صم25: 3)، لما قرأنا في 2صموئيل 3: 2، 3، 4 عن ثلاثة أسماء كانوا مصدر حزن كثير له، وهم: أمنون النجس الشهواني (2صم13)، وأبشالوم المنافق القاتل (2صم14، 15)، وأدونيا المتمرد المتكبر (1مل1، 2).
وإذا كانت الأختان – ليئة وراحيل – لم تستطعا العيش معًا في بيت واحد بسلام. وإذا كانت حَنَّة قد رأت الويل من ضرتها فننة، فهل يمكن لبيت داود إلا أن يكون بيتًا ممتلئًا بالانقسام والغيرة والتحزب، والحسد والعداوة، والمعارك الظاهرة والخفية؟ وهل يمكن أن نرى الأولاد إلا في الصورة المنعكسة المحزنة لكل هذا؟! وأغلب الظن أن داود لم يكن عنده من الوقت ما يُعطيه لأولاده ليعلمهم الطريق الصالح ليسيروا فيه لكي يخافوا الرب كل أيامهم، لكنه أسرف في تدليلهم.
ولكنني بصفة خاصة أتساءل: لماذا أضاف داود إلى زوجاته ”مَعْكَةَ بِنْتِ تَلْمَايَ مَلِكِ جَشُورَ“؛ الملك الوثني؟ (2صم3: 3). ربما رأى في مصاهرة الملوك مجدًا وكرامة في عيون الناس والشعوب، لكن أيمكن أن تكون هذه نظرة الله أو نظرة إنسان الله؟! وربما هذا الزواج الخاطئ لم تكن له في البداية وحسب الظاهر نتائج مُرَّة، ولكن فيما بعد، وعن طريق أبشالوم وثامار، نضجت الثمرات المُرَّة. إنه لا يوافق على الإطلاق، وفي أية ظروف، أن يرتبط أيٌّ من أولاد الله بزوجة غير مؤمنة حتى لو كانت ابنة ملك، أو كانت ملكة جمال. إن ”النير المتخالف“ لا يجلب إلا المتاعب والمخاطر. وفي كل الكتاب المقدَّس نرى دور الأم وتأثيرها على أولادها، سلبيًا أو إيجابيًا؛ للشر أو للخير. لقد أصبحت ”مَعْكَةَ“ أُمًا لأبشالوم، الاسم الذي يكفي أن يذكرنا بكل النتائج السيئة لمثل هذا الاتحاد.
في تثنية22: 11 نقرأ كلام الرب إلى شعبه: «لا تلبس ثوبًا مختلطًا صوفًا وكتانًا معًا». وفي لاويين19: 19 نقرأ «لا يكن عليك ثوبٌ مُصنَّفٌ من صنفين» ... ألعل الله يهمه أن لا يلبس شعبه ثوبًا مُصنَّفًا من صنفين، أم أنه في ذلك يدين بشدة ارتباط الشخص المؤمن بغير المؤمن، خاصة في أمر الزواج، حيث يكون الاثنان جسدًا واحدًا (مت19: 6). فكيف يتوافق الجسد الواحد إذا كان يتكون من شخصين مختلفين، أحدهما مؤمن والآخر غير مؤمن. وإذا كانت هذه وصية الله، فكم لمسنا صدقها عمليًا! وكم اختبر المؤمن الذي تهاون في إتمام هذه الوصية أن النير المتخالف لا يجر إلا الأحزان والمتاعب! وكم من أشخاص أرهقهم الندم والحزن بسبب عدم طاعتهم لهذه الوصية «لا تكونوا تحت نيرٍ مع غير المؤمنين»! (2كو6: 14).
وفي تثنية7: 3، 4 يقول الرب لشعبه، بخصوص شعوب الأرض: «لا تصاهرهم. بنتك لا تعطِ لابنه، وبنته لا تأخذ لابنك، لأنه يَردُّ ابنك من ورائي فيعبد آلهةً أخرى، فيحمى غضب الرب عليكم ويُهلككم سريعًا» (اقرأ أيضًا خر34: 15، 16). إذًا فالأمر ليس تفضيلاً؛ ليس أننا نفضل المؤمنة على غير المؤمنة، وإنما هي وصية صريحة وقاطعة تمنع مثل هذا الزواج منعًا باتًا.
أيها الأحباء: إن زواج داود من هذا العدد الكبير من النساء، حتى وإن لم يكن خطية صريحة، فإنه قاد إلى خطية داود الكبرى، إذ أفرط في إرضاء وإشباع رغباته. لقد زرع لجسده، ومن الجسد حصد فسادًا (غل6: 8). وكانت ثورة أبشالوم هي إحدى الثمرات الناضجة التي سقطت فوق رأسه، ليحصد ما زرع.