عدد رقم 5 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
جدعون.. نفس صغيرة لا نقائص كثيرة  

«فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الرَّبُّ وَقَالَ: اذْهَبْ بِقُوَّتِكَ هذِهِ وَخَلِّصْ إِسْرَائِيلَ مِنْ كَفِّ مِدْيَانَ. أَمَا أَرْسَلْتُكَ؟ فَقَالَ لَهُ: أَسْأَلُكَ يَا سَيِّدِي، بِمَاذَا أُخَلِّصُ إِسْرَائِيلَ؟ هَا عَشِيرَتِي هِيَ الذُّلَّى فِي مَنَسَّى، وَأَنَا الأَصْغَرُ فِي بَيْتِ أَبِي.  فَقَالَ لَهُ الرَّبُّ: إِنِّي أَكُونُ مَعَكَ، وَسَتَضْرِبُ الْمِدْيَانِيِّينَ كَرَجُل وَاحِدٍ» (قض6: 14-16).

توقفنا المرة الماضية عند إرسالية جدعون المباشرة وذهنه المفكر، واعتبرنا كلا الأمرين عمودًا أساسيًا في نجاح خدمة ذلك الشاب.  وفي هذا العدد نتناول شعوره العميق بصغره، ونرى أهمية ذلك فيمَنْ يستخدمهم الرب، ونقابله مع شعور سلبي مختلف وهو الشعور بالنقص لنتعلَّم ونتحذَّر في آنٍ معًا.

صغر النفس المطلوب:

لقد جاءت إجابة جدعون على دعوة الرب وإرساليته لتنفي أي استحقاق أو مقدرة، لا في حسبه ونسبه، أو في شخصيته وقدراته.  ورغمًا عن أن الكثيرين قد يرون في ذلك شعورًا سلبيًا من جانب جدعون، لا يليق– بحسب وجهة نظرهم – بأن يكون إجابة على دعوة الله وإرساليته من الوجهة الروحية، ولا يصح أن يكون من شِيَمِ الأبطال والقادة من الناحية النفسية، إلا أننا من الوجهة الكتابية، والخبرة الواقعية يمكننا أن نؤكد أن رد جدعون كان يحمل قيمة إيجابية عالية؛ بل ولازمة.

إن كل الذين استخدمهم الرب نظير جدعون وموسى وأليشع وإرميا وغيرهم، عندما جاءت لحظة الإرسالية الحاسمة شعروا بصغرهم الشديد وعدم استحقاقهم أو نفعهم، باعتبار أنه «من هو كفؤ لهذه الأمور؟» (2كو2: 16).  ولمثل هؤلاء تجيء إجابة الرب الفورية «إني أكون معك»، و«لكن كفايتنا هي من الله» (2كو3: 5).

أحبائي الشباب..

إن ملء الله يتطلب إناءً فارغًا، وقدرة الله تستلزم آنية خزفية تعرف عن يقين هشاشتها وضعفها، وكفاية الله مُتاحة لمَنْ يشعرون بصدق بعدم كفايتهم في ذواتهم، وحياة الله تنساب فيمن يختبرون الموت وهو يعمل فيهم، وهذا عكس ما تُعلِّمه مدارس وفلسفات العالم على خط مستقيم، حيث أنها تُعمق وتغرس الشعور بالقيمة الذاتية والكفاية البشرية التي تقود للاستغناء عن الله والاتكال على الجسد.

إن الشعور بأننا شيء، لسبب الحَسَبْ والنَّسَبْ، أو لسبب الإمكانيات الذهنية أو الكتابية أو المادية أو النفسية أو...الخ هي في الواقع مُعطِّلات، أكثر من كونها مؤهلات، أمام استخدام الرب لنا.  إننا لا نقلل مطلقًا من قدر وقيمة هذه الإمكانيات، إن وجدت بالفعل، ولكن – في مدرسة الله وتدريباته – هناك فارق شاسع بين وجود الإمكانيات من جهة، وشعور الشخص بوجودها واتكاله عليها من الجهة الأخرى.

إخوتي الأعزاء..
من فينا كشبان وشابات، إلا ويُقِر بأنه في مرات عديدة تَصَدَّى للمشهد، وتَصَدَّر الصورة وتَدَخَّّل في القرارات، وحسم المواقف بشعور عميق بالأهلية والأفضلية عن الآخرين الذين بدوا أمام أعيننا أقل منا، فهم – بحسب نظرتنا – لا يمتلكون مؤهلاتنا الفكرية والتكنولوجية مهما كانت لهم خبرة الأيام والسنين، أو هم أقل منا في مؤهلاتهم العلمية ومعلوماتهم الكتابية، أو عائلاتهم التي لا يمكن أن تقارن بتاريخ عائلاتنا في الإيمان أو الخدمة!

إن درس اختبار "لا شيئيتنا" مُذل لكنه لازم.  إن الشعور بصغرنا في ذواتنا: خبرة وإمكانيات قد يرفضه المجتمع، بل وحتى بعض القادة في مسيحية ابتعدت كثيرًا – بكل
أسف – عن المبادئ الكتابية والأصالة الروحية والتدريبات التقوية.  لكننا نؤكد أن شعورنا بصغرنا الشديد إزاء دعوة الله وإرساليته وخدمته هي النقطة الأولى – والوحيدة – التي يصلح معها الإنطلاق لخدمة حقيقية نافعة وبناءة ليكون فضل القوة لله لا منا.

الشعور بالنقص المرفوض:

لكن ربما تَبَايُنْ وجهات النظر من جهة رد جدعون «ها عشيرتي هي الذُّلَّى في منسى، وأنا الأصغر في بيت أبي» (ع15) يكون مرجعه التباس بين "صغر النفس" وبين ما يسمى "الشعور بالنقص".  فبينما يذخر الرب تشجيعات للفريق الأول – نظير جدعون – بل ويدعونا معه لتشجيع أمثال هؤلاء «شجعوا صغار النفوس» (1تس 5: 14)، فإن الفريق الثاني لديه بالفعل مشكلة تحتاج إلى علاج ذهني وروحي.  

صغر النفس يعني أن لا أشعر في نفسي بقيمة عالية أو تميُّز عن الآخرين.  وهو شعور إيجابي يدفع للاتكال على الرب.  لكن الشعور بالنقص هو شعور سلبي ناتج عن مقارنة نفسي بالآخرين، والخروج بنتيجة مفادها أنني لا أملك ما يملكون مما يؤدي إلى شعور عميق بالمرارة، هي في الواقع مرارة من نحو الله.  فهو يَشْعُر بأنه ليس مقبولاً كآخرين كثيرين من أصدقائه، أو لا يملك نفس مؤهلاتهم العلمية أو إمكانياتهم المادية.  وهي تَشْعُر بالنقص بين صديقاتها اللواتي يبدون أكثر جمالاً وجاذبية منها (بحسب وجهة نظرها) أو من عائلات ذات حَسَبْ ونَسَبْ وليس من عائلة عادية نظيرها....والأمثلة تَجُلُّ عن الحصر كما نعرفها كلنا.

إن صغر النفس إن سُكِبَ أمام الله في محضره مثلما فعل جدعون يكون أمرًا إيجابيًا عظيمًا ولازمًا للخدمة لأنه يقود صاحبه للارتماء على الرب والتعلق به، حيث لا يجد في نفسه شيئًا يؤهله للخدمة.  أما الشعور بالنقص فهو يحتاج إلى علاج مزدوج:

روحي: بأن أتعلم أن أنظر إلى نفسي ومقامي في المسيح، وأدرك مكانتي وقيمتي عنده، وأفكر في علاقتي بالرب عوضًا عن النظر إلى الآخرين.

ونفسي: بأن أتعلم التفكير الإيجابي في نفسي وفي أحوالي.  ولأفرح بما سيعمله الله بي عوضًا عن الحزن بما لم يعمله الله معي.  أسعد بكون ظروفي تحت سيطرة العناية الإلهية عوضًا عن الفشل الناتج عن نظرتي المحدودة لنفس هذه الظروف مقارنة بالآخرين.

ونحن يمكننا القول أن رد جدعون حَمَلَ صغرًا للنفس بأكثر من الشعور بالنقص حيث لم يكن هدفه مقارنة سبطه أو عشيرته بالآخرين ولا حتى نفسه بسائر إخوته، فجميعهم برهنوا على الفشل في أيامهم: أيام القضاة.  فقط أراد أن يؤكد أن الكبار لم ينجحوا فكيف ينجح "الصغير" فيما فشل فيه "الكبار" بحسب وجهة نظره.  ولم يكن يدرك أن ليس عند الرب مانع في أن يُخلِّص بالقليل أو بالكثير.

نعم يا جدعون، أيها الشاب الجميل، هنيئًا لك شعورك بصغرك وإقرارك بإفلاسك أمام الرب، وهنيئًا لك التشجيع الإلهي الذي لا غنى عنه لأي منا قبل التحرُّك والتصدِّي لعمل الله «إني أكون معك».  وكم يحمل هذا الوعد الضمان الكافي لمواجهة كل المخاطر والصعوبات.  إنه مسؤول عن النتائج كلها طالما هو معك ويملأ المشهد.  إن نعمته تكفيك وقوته في ضعفك ستُكمَل.  وساعتها فقط ما أروع النتائج التي لا تخطر على بال «ستضرب الميديانيين كرجل واحد»!!
                                                                                                                                             

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com