عدد رقم 5 لسنة 2011
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
لا .. لن أكون جاحدًا  
كان وليم دكسون رجلاً، وحتى لو آمن بوجود الله – الأمر الذي يرتاب فيه – فإنه لن ينسى له أنه اختطف منه زوجته الشابة ماري بعد عامين من زواجهما وأنه أخذ غلامهما الوحيد.  ومن هنا كان دكسون يشعر بالوحشة والمرارة من نحو الله.

بعد وفاة ماري بعشر سنوات، حدث في القرية حادث: شبَّت النار في منزل لعجوز واحترق المنزل عن آخره، لكن الجيران استطاعوا أن ينقذوا العجوز صاحبة المنزل، وقد كاد الدخان يخنقها.  إلا أنه لدهشتهم سمعوا صرخات أليمة لطفل في المنزل أيقظته ألسنة اللهب فأسرع إلى إحدى النوافذ.
تألم الواقفون من رؤية الطفل على هذه الصورة، ولكنهم أحسوا أنهم قد تأخروا في إنقاذه لأن سلالم المنزل قد تداعت جميعها فسقطت.  لكن دكسون اندفع إلى المنزل المحترق وتسلَّق ماسورة المياه ثم حمل الطفل المذعور بين يديه وعاد بنفس الطريق، حاملاً الطفل بذراعه اليمنى، وممسكًا بالماسورة  باليسرى.  وهكذا وصل الاثنان إلى الشارع بسلام وسط هتافات القوم وقد هوت الحوائط جميعها.

لم يصب الطفل بأي أذى، لكن يد مُخلِّصة التي أمسكت بالماسورة الملتهبة احترقت بصورة مزعجة.  شُفيت من الحروق بعد فترة من الزمن لكن الحروق تركت بعض الآثار في اليد، لتلازمه إلى القبر.

أما العجوز فلم تحتمل الصدمة وماتت سريعًا.  وهنا تساءل القوم: ماذا يكون من أمر الطفل الذي يُدعَى توني والبالغ من العمر أربع سنوات؟ وهنا تقدم أحد أغنياء القرية واسمه روبرت وطلب من السلطات المحلية أن تُسلِّمه توني لكي يتبنَّاه، سيما وأنه متزوج وليس لديه أطفال بعد موت طفلهما الوحيد.

ولدهشة القوم تقدم دكسون بنفس الطلب.  وفي سبيل الوصول إلى قرار اجتمعت هيئة مكونة من قسيس القرية وصاحب مزرعة وبعض الأهالي.
قال صاحب المزرعة: ’’جميل من روبرت ودكسون أن يتبنيا الطفل اليتيم.  وأنا في حيرة مَنْ منهما أفضل؟ إن دكسون له فضل نجاته من الموت فهو أولى به.  لكن روبرت متزوج ومن الضروري أن امرأة تقوم بالعناية بالطفل توني‘‘. 

وقال القسيس: ’’إن رجلاً مثل دكسون له آراء إلحادية لا يمكن أن يكون وليًا ملائمًا للغلام، أما روبرت وزوجته فهما مسيحيان حقيقيان وفي مقدورهما أن يربياه في الطريق السليم.  صحيح إن دكسون أنقذ حياته، لكننا نغامر بمستقبله إن نحن عهدنا إلى ذات الشخص الذي خلَّصه من المنزل المحترق أن يقتاده إلى الهلاك الأبدي‘‘.
وقال ثالث: ’’دعونا نستمع إلى الحجج التي يستند إليها كلاهما ثم نأخذ الأصوات‘‘.

قام روبرت ليقول: ’’لقد مات لنا أنا وزوجتي طفلنا الوحيد، وأظن أن هذا الغلام سيملأ مكانه وأتعهد لحضراتكم أن نبذل غاية الجهد في تنشئته وتربيته في خوف الرب.  وفضلاً عن ذلك إن طفلاً صغيرًا مثل توني، تعوزه رعاية المرأة‘‘.

قال المجتمعون: حسنًا أيها السيِّد، والآن ما هي حجتك يا مستر دكسون؟

- ’’هي حجة واحدة يا سادة‘‘ قالها دكسون بهدوء، ثم أزال الضمادة من يده اليسرى وأراهم إيَّاها وقد شوَّهتها الحروق.

ساد الغرفة الصمت لبضع دقائق، فقد كان في تلك اليد ما يتطلب حكمًا عادلاً.  نعم فقد كان له حق في الغلام بفضل ما تحمَّل لأجله من آلام.  وعند التصويت قررت الهيئة أن يُعطَى الغلام لوليم دكسون.  ومن ذلك الوقت بدأ عهد جديد في حياة دكسون.  فقد أخذ يقوم بدور الآب والأم لتوني.  وحوَّل نحوه كل عواطف طبيعته القوية.  وأما توني فكان طفلاً ذكيًا، سريع الاستجابة لتدريبات أبيه الجديد.  أحبه بكل حماسة قلبه الصغير.  فما نسي مطلقًا أن ’’بابا‘‘ أنقذه من النار وأنه استحقه بتلك الآثار التي انطبعت على يده بسببه – الأمر الذي كان يغمره بالدموع، ومن ثم كان يغمر تلك اليد بالقبلات.

بعد سنوات قليلة، أُقيمَ في الصيف معرض للصور في المدينة، فأخذ دكسون غلامه، وقد كبر، إلى ذلك المعرض.  فأخذت الغلام روعة الصور وتعليقات دكسون التاريخية على هذه الصور فقد كان غزير المعرفة وواسع الاضطلاع.  وأما الصورة التي كان لها نصيب الأسد من التأثير في نفس توني فهي صورة الرب يسوع موبِّخًا توما.  وتحت الصورة كُتبت هذه الآية:  «هات إصبعك إلى هنا وأبصر يديَّ».

قرأ توني الآية وقال لأبيه: هل لك يا بابا أن تخبرني بتاريخ هذه الصورة؟
أجاب دكسون: ’’دعك منها‘‘ .. تساءل توني: لماذا؟ قال دكسون: ’’لأنها قصة لا أصدقها‘‘.  فقال توني: هذا لا يهم فأنت لا تصدق قصة العملاق القاتل لكنها إحدى القصص التي أحبها.  فهل لك أن تحدثني عن قصة هذه الصورة من فضلك يا بابا؟ ومن هنا أخذ دكسون يحدثه عنها، وكان يعرفها جيدًا رغم عدم اقتناعه بها، وقد أُعجب بها الغلام توني للغاية وقال: هي قصة شبيهة بقصتنا نحن يا بابا، أنت وأنا.  فلما أراد مستر روبرت أن يأخذني، لم يسعك إلا أن تكشف للقوم عن يدك.  وهكذا توما، فمن يدري ربما رأى الجروح في يدي ذلك الإنسان الصالح وعرف أنها من أجله فأحس أنه ملكٌ له.

قال دكسون: ’’ربما‘‘ .. واستطرد توني قائلاً: إن الأسف يبدو على محيا الرجل الصالح.  ويُخيَّل إليَّ أنه حزين لأن توما لم يؤمن من أول الأمر.  وبالحق إنه جحود منه ألا يؤمن بعدما مات هذا الإنسان الصالح نيابة عنه.

أما دكسون فلم يُجب على هذه الملاحظات.  وأما توني فقد واصل كلامه: هو أمر مُرعب لو أنني وقفت منك مثل هذا الموقف بعدما حدثني الشهود عنك وعن النار ... فحينما أرى يدك يا بابا أحبك أكثر من ذي قبل ملايين المرات.

لما جاء الليل كان الإعياء قد أضنى الصغير فنام قبل أن يُعبِّر عن عواطفه الشاكرة التعبير الكامل.  أما دكسون فقد جافاه النعاس فترة طويلة تلك الليلة ولم يستطع أن ينتزع من أفكاره صورة ذلك الوجه اللطيف الأسيف الذي كان يطل عليه من خلال حوائط المعرض.  ثم نام فحلم بغريمه روبرت ينازعه ملكية الغلام، ولكنه بعدما كشف عن يده المحروقة تحوَّل عنه الغلام، وعندئذ ملأت قلبه حاسيات المرارة والأسف.  فاستيقظ من نومه ولم يضع نفسه تحت هذا الشعور بالمرارة، لأن حب الغلام له قد رطَّب عواطفه فلم تسقط بذار اليوم السابق على أرض مُحجرة.  

كان دكسون رجلاً أمينًا، فرأى أن الحُجة التي قدمها بالأمس لكي يفوز بملكية توني، ها هي ضده اليوم وهو ينكر اليدين اللتين تعبتا من أجله وسُمِّرتا على الصليب من أجله.  وبعدما لمس تقدير الغلام الحار للخلاص الذي صنعه أبوه هذا، أحس بأنه جاحد .. وأن غلامه أفضل منه بكثير.

وبعد وقت قصير صار قلبه كقلب طفل صغير قد ذاب في محبة المسيح المضحية، ووجد بمطالعة الكتاب المقدس أنه – نظير غلامه – مِلكٌ لذلك المُخلِّص الذي جُرِحَ من أجل معاصيه، وقال في نفسه: لا لن أكون جاحدًا، فقدم نفسه روحًا ونفسًا وجسدًا بين هاتين اليدين اللتين سُمِّرتا من أجله.

«محتقرٌ فلم نعتد به ... وهو مجروحٌ لأجل معاصينا، ومسحوقٌ لأجل آثامنا».
 
















© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com