عدد رقم 2 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
الكنيسة ورياح التعليم  

«كَيْ لاَ نَكُونَ فِي مَا بَعْدُ أَطْفَالاً مُضْطَرِبِينَ وَمَحْمُولِينَ بِكُلِّ رِيحِ تَعْلِيمٍ، بِحِيلَةِ النَّاسِ، بِمَكْرٍ إِلَى مَكِيدَةِ الضَّلاَلِ»

(أف 4: 14)

من الطبيعي أن يقف الشاب مُتحيِّرًا وهو يرى تيارات ورياح تأتي عليه من كل ناحية، فإذا لم نتثبَّت راسخين على الكلمة، فليس غريبًا أن نُحمَل ذات اليمين وذات اليسار وراء كل تعليم نسمعه ويُقدَّم لنا في صورة مُقنعة للعقل البشري.

هل هذا يعني أن ألغي عقلي، وأرفض أن أسمع كل ما يخالف ما نشأتُ عليه من تعاليم؟ هذا عكس ما تطلبه منا كلمة الله، فالرسول يقول: «امْتَحِنُوا كُلَّ شَيْءٍ.  تَمَسَّكُوا بِالْحَسَنِ» (1تس5: 21) وكيف أمتحن الشيء إن لم أفهمه بعقلي؟ ولكن فهم الأمور بالعقل ليس معناه أن أجعل عقلي هو الحَكَم الذي يُحدِّد الصالح من الرديء، بل بالعقل آتي بكل فكر أسمعه، وأضعه في نور الكلمة، فأتمسك به إن كان يوافقها وأرفضه إن لم يوافقها.

بعدما قام الرب من الأموات ظهر للتلاميذ مجتمعين في العلية، وأخذ مكانه في وسطهم وشرح لهم بنفسه جميع ما هو مكتوبٌ عنه في الكُتُب.  "حِينَئِذٍ فَتَحَ ذِهْنَهُمْ لِيَفْهَمُوا الْكُتُبَ" (لو24: 45).  ولا زال ربنا المجيد يفعل هذا عندما نجتمع إلى اسمه، فيحضر في وسطنا حسب وعده، ويفتح أذهاننا لنفهم الكتب.  فإن كنا نخضع لتعليمه، ونكتفي بكلامه، فلا شك أنه سيُعلِّمنا الحق كاملاً، وهكذا نستطيع أن نُميِّز بين الغث والسمين، ونرفض ما ليس من عنده.

ويرسم لنا الأصحاح الرابع من رسالة أفسس صورة كنيسة محلية تجتمع إلى اسم المسيح كمن هو رأس الكنيسة، وفيها المواهب التي أعطاها لها لأجل «تكميل (أي بلوغ) القديسين». والنتيجة الحتمية لو أننا نوجد أمامه بإخلاص هي أن تصل الكنيسة إلى صورة «إنسان كامل (بالغ)»، رأسه المسيح، وأعضاء جسده هم المؤمنون أفرادًا، وكلهم بالغون وليس فيهم طفلٌ تحمله رياح التعاليم الغريبة والأفكار المُستحدَثة.

لكن العدو لن يسكت على حالة كهذه، فسيحاول دائمًا هدم سور الانفصال، الذي يجمع الكنيسة بالمسيح خارج المحلة، من الداخل.  فمحاولة هدمه من الخارج ستكون مكشوفة، ولكن الهدم من الداخل لا تظهر فيه المعاول أنها منه (أي من العدو).  والآن لننتبه إلى أحد معاول الهدم الخطيرة، ألا وهو محاولة تحويل القديسين، سواء كأفراد أو ككنيسة خرجت من العالم لتكون مع الرب، عن صفة الاغتراب التي ينبغي أن تلازمنا في رحلتنا.  وسأضع الأفكار التي تتردَّد كثيرًا في هذا المجال في صورة مناقشة هادئة مع المكتوب.

1- ألم يُحبَّ الله العالم، فلماذا ننفصل نحن عنه؟

كلمة "العالم" تعني في يوحنا 3: 16 البشر الساكنين على الأرض، وليس العالم كنظام مُستقل عن الله.  ويؤكد الرب هنا أن الله أحبهم، ونحن كأولاد الله علينا أن نحبهم، ولكن كما تعامل الله بقداسته ومحبته مع العالم، هكذا نحن لا تُفقدنا محبتنا لأهل العالم قداستنا التي تجعلنا في شركة مع الله القدوس.

2- ألم يرسلنا الرب يسوع إلى العالم، فكيف نتمم إرساليتنا دون أن نختلط بهم؟

إن المؤمنين سفراء المسيح إلى العالم (2كو20:5). والسفير يذهب ليتغرَّب في دولة أخرى، لكنه يُظهِر في كل حين أنه ينتمي إلى دولته وليس إلى الدولة التي بُعث إليها.  فتقاليده وسلوكياته تُعبِّر عن أنه غريب.  ولن يستطيع السفير أن يؤدي مُهمته على النحو الصحيح لو أنه تخلَّى عن فكر الاغتراب واندمج مع شعب الدولة المبعوث إليها.  ومع ذلك، فهناك ضرورات يلزمه أن يتعامل فيها معهم، فهو لا بد أن يشتري طعامه وشرابه منها، وسيضطر إلى السكن هناك، وخلاف ذلك من التعاملات الطبيعية اللازمة لتواجده في بلد الغربة.  لذلك يقول الرسول بولس: «كَتَبْتُ إِلَيْكُمْ فِي الرِّسَالَةِ أَنْ لاَ تُخَالِطُوا الزُّنَاةَ. وَلَيْسَ مُطْلَقًا زُنَاةَ هذَا الْعَالَمِ، أَوِ الطَّمَّاعِينَ، أَوِ الْخَاطِفِينَ، أَوْ عبده الأَوْثَانِ، وَإِلاَّ فَيَلْزَمُكُمْ أَنْ تَخْرُجُوا مِنَ الْعَالَمِ» (1كو5: 9-10). أي أن المطلوب هو الانفصال الأدبي والروحي، ولكن ليس الخروج من العالم إلى الصحراء، وإلا فكيف أُتمِّم مهمتي وأدعو الآخرين إلى المسيح؟

3- هل يعني هذا أنه علينا ككنيسة أن نكون على اتصال بالعالم كبشر، ونختلط بهم في حدود الضروريات؟

ما هو من ضروريات وجودنا في العالم كأفراد لا ينطبق علينا ككنيسة.  فالكنيسة لا تأكل ولا تشرب ولا تعمل.  لذلك فإن الرسول الذي قال لقديسي كورنثوس إن تعاملاتنا مع العالم في حدود ما يلزم لعدم خروجنا من العالم، هو نفسه الذي قال لذات الكنيسة: «لِذلِكَ اخْرُجُوا مِنْ وَسْطِهِمْ وَاعْتَزِلُوا، يَقُولُ الرَّبُّ. وَلاَ تَمَسُّوا نَجِسًا فَأَقْبَلَكُمْ» (2كو6: 17).  فبالنسبة لنا ككنيسة ليس أقل من الاعتزال، لأن المجال فيها هو العبادة والخدمة.

4- هذا الفكر متَّهم بأنه من روح العهد القديم، ونحن تعلَّمنا أننا لا علاقة لنا بذلك العهد، فهم كانت إرساليتهم قضائية بالنسبة لسكان أرض الموعد، وأما نحن فلنا رسالة المحبة والخلاص، وهم كانوا فعلاً عليهم أن ينفصلوا، لأن الله لم يُرسلهم إلى العالم، أما نحن فقد أرسلنا إلى العالم.  فنحن كما تعلَّمنا من رجال الله لا علاقة لنا على الإطلاق بنظام العهد القديم.

صحيح إنه لا علاقة لنا بترتيب العهد القديم، فالكنيسة ليست امتدادًا لإسرائيل، ولكن هذا لا يلغي أن كل العهد القديم كُتِبَ لأجل تعليمنا (رو15: 4).  فكل كلمة، أو واقعة أو رمز في العهد القديم له معناه في العهد الجديد.  فكما أخطأ البعض عندما خلطوا بين إسرائيل والكنيسة، في المقابل أخطأ البعض في أنهم تعاملوا مع العهد القديم كمجرد قصص أو تاريخ.  ولم يُعلِّم أبدًا رجال الله مثل داربي أو كلي بأن التمييز بين إسرائيل والكنيسة معناه أن نلقي بالعهد القديم جانبًا.  فمثلاً كان إسرائيل شهادة الله على الأرض، لأن مسكن الله الحرفي كان في وسطهم.  ونحن لسنا شهادة الله على الأرض إلا لحضور المسيح في وسطنا.  كانت لهم حرب مع سكان أرض الموعد، كذلك لنا حرب مع إبليس وجنوده، الذين هم الآن في السماويات.  كان الله يسكن في وسطهم في خيمة، ثم بعد أن امتلكوا الأرض ومَلَكَ سليمان بن داود سكن في هيكل.  ونحن الآن ككنيسة «مسكن (أي خيمة) الله في الروح» (أف 22:2).  وهكذا كل ما في تدبير الناموس له مقابله الروحي والأدبي بالنسبة لنا.  والاختلاف هو في أن ترتيب العهد القديم مادي ورمزي، أما ترتيبنا فروحي وحقيقي.

5- هل معنى أن الكنيسة الآن تمثَّل بالخيمة المتنقلة أننا بالفعل كنيسة مُرسَلة إلى العالم؟

لا نجد في كلمة الله، لا في الرموز في العهد القديم، ولا في تعاليم العهد الجديد أن الكنيسة مُرسَلة إلى العالم.  وقول الرب عن الذين أرسلهم إلى العالم ينصرف حرفيًا فقط إلى الرُّسل كأفراد وليس ككنيسة، سواء في كلامه إلى الآب في يوحنا 18:17 أو وهو معهم في العلِّية في يوحنا 21:20. ونلاحظ أن الرب في الموضعين يستخدم ذات الألفاظ، لأنه يتكلَّم عن ذات الإرسالية.  ففي ص17 يُصلِّي لأجل مَنْ سيُرسلهم، ثم في ص20 بعد القيامة يُرسلهم فعلاً.

إن الكنيسة هي منارة في وسط ظلمة هذا العالم، تنير لتجتذب الخطاة إلى المسيح، فأنا كفرد أذهب إلى العالم لأدعو الآخرين إلى المسيح، وأن ينفصلوا عن العالم إليه.  فإن كانت الكنيسة تذهب إلى العالم، فكيف نطلب منهم أن يخرجوا منه إلى المسيح الذي في وسط كنيسته؟ لذلك يتكلَّم الرسول في كورنثوس الأولى 14: 23-25 عن الكنيسة وقد اجتمعت كلها في مكان واحد، ثم دخل عاميون أو غير مؤمنين، أي أن اجتماع الكنيسة في مكان واحد، وليس أن تذهب إلى العالم، هو ما يجذب أهل العالم ليأتوا إليها. ومع أن الجميع كانوا يتنبأون (أي يتكلَّمون ببنيان وليس بكلام تبشيري) شعر العاميون بالحضور الإلهي وأن خفاياهم صارت ظاهرة، فتوبَّخوا.  هذه مُهمة الكنيسة تجاه العالم عندما تجتمع بشكل صحيح، وهي أحد وسائل الروح القدس لجذب النفوس، وهي تسير بالتوازي مع عمل المبشرين الذين يذهبون إلى العالم، ليأتوا بنفوس أخرى إلى المسيح الذي في وسط كنيسته.

ومسيرة الكنيسة لا تُعبِّر إلا عن كونها مُتغربة.  فمسيرتها كلها في البرية، وليس في أماكن سكن كما نرى في الشعب الخارج من مصر كرمز لنا.  والكنيسة لها هدفٌ واحد تسير نحوه، وهو ليس في العالم، بل في السماء حيث المسيح.  فالله لم يسمح للشعب بالرجوع إلى مصر، وإنما قادهم في السحابة نحو كنعان.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com