داود، البطل المغوار منذ شبابه، الذي وضع حياته على يده من أجل مجد الله، والذي كانت شاة واحدة من قطيعة ليست رخيصة عنده، وشعب الله غاليًا على قلبه للغاية، رجل الإيمان، صاحب الاختبارات، والمرنم الحلو، الحاصل على شهادة الله أنه ”رجلٌ حسب قلبه“؛ رجل له كل هذه المواصفات الحميدة، وأكثر، مَن مِنّا كان يظن أنه يسقط؟! لكنه سقط، وأكثر من مرة!!
ولنا أن نتعلَّم من سقوطه، لنضيف أسبابًا للتي سبق وتكلَّمنا عنها في العدد الماضي. وهي للتذكرة: الثقة في القدرة الذاتية، وعدم السهر في الصلاة، ومسك العصا من المنتصف، والمعاشرات الرديَّة. وأدعوك أولاً لقراءة القصة في 2صموئيل 11، 12، ثم قراءة السطور التالية.
خطورة ما بعد الانتصار
المدهش أن هذه الحادثة لم تحدث وداود حَدَثٌ صغير، ولا وهو مُطَارَدٌ وواقعٌ تحت ضغوط مختلفة، ولا حتى في بداية مُلكه؛ بل ما حدث حدث بعد أن مَلَكَ داود وثبت مُلكه، وبعد أن انتصر الانتصار تلو الآخر كان آخرها منذ وقت قليل قبل أحداث هذين الإصحاحين مباشرة!
وهكذا الحال بالنسبة لنا. فبعد قفزة روحية، أو خدمة ناجحة، أو نُصرة على خطية، أو شهادة واضحة، أومدح من المؤمنين، أو كشف لحق من كلمة الله، أو أي سمة من سمات التقدُّم الروحي؛ بعد كل هذا نحن نصبح أكثر عُرضة للسقوط! فكلما ارتفعت على جبل كان احتمال سقوطك أكبر إن لم تتحذَّر وتحتاط لهذا الخطر. هذا ما حدث مع يشوع والشعب بعد أن انتصروا انتصارًا ساحقًا على أريحا العاتية، انهزموا أمام قرية صغيرة اسمها عاي، وبتتبع القصة في يشوع 6-8 يمكننا أن نخرج بدرس هام: أننا بعد الانتصار يلزمنا أن نرجع أمام الرب باتضاع لننسب الفضل لصاحبه، لأذكِّر نفسي أنني لم أنتصر لقدرتي ولا لتقواي، بل لأن إمكانياته - تبارك اسمه - كانت في صفي عاملة لحسابي بالنعمة. وأنني لو اعتمدت على غير قدرته ونعمته فليس هناك إلا الفشل بعد الانتصار.
وجدير بنا دائمًا أن نتذكَّر التحذير «إِذًا مَنْ يَظُنُّ أَنَّهُ قَائِمٌ، فَلْيَنْظُرْ أَنْ لاَ يَسْقُطَ» (1كو10: 12).
إما في المعركة وإما الدمار
في الوقت الذي ذهب فيه يوآب والجيش إلى المعركة، يقول الكتاب: «وَأَمَّا دَاوُدُ فَأَقَامَ فِي أُورُشَلِيمَ»!! كان من المفترض أن ملك البلاد، وبلاده في حرب، يكون في مُقدمة صفوف جيشه، ولا سيما إن كان هذا الملك كداود مُحارب منذ صباه. لكن داود نسي - أو تناسى - المعركة، وربما استسهلها، فكان ما كان.
ونحن، المؤمنين، ملوك في معركة. ملوك؛ فهذا مقامنا بالنعمة حصّله المسيح لنا بموته على الصليب (رؤ1: 6). ثم إننا في معركة؛ يخبرنا الكتاب أن طرفها الآخر هو الشيطان ومملكته المُنظَّمة (أف6: 12). فهل من الغريب توقُّع أن يحاول جاهدًا إسقاطنا ليشتكي، ويُعيِّر، ويُذل، ويُطفئ شهادتنا! وتكتيكاته كثيرة ومتنوعة، ولعل أهمها وأكثرها استخدامًا أن يجرجرنا لفعل ما يحلو في أعيننا، وهذا هو السقوط بعينه.
لذا علينا أن نصحو ونسهر (1بط5: 8)، أن نأخذ حذرنا ونراقب حياتنا. علينا أن نلبس سلاح الله الكامل، ونحارب بسيف كلمته (أف6: 10-18). لنتخذ أماكننا في صفوف جيش السيد، لنعمل لمجده. لنضع طاقاتنا وكل ما فينا في يدي ذلك القائد العظيم ليعمل بنا ويقودنا سائرين في موكب نصرته مُحصِّلاً لحسابنا النصرة تلو الأخرى.
ولتتذكر يا صديقي أنك إذا لم تكن في الميدان مع شعب الله تحارب، فلا بد أنك تتمشى على السطح مثل داود؛ وما أوخم العواقب!
الكسل هو منبع المرار
«وَكَانَ فِي وَقْتِ الْمَسَاءِ أَنَّ دَاوُدَ قَامَ عَنْ سَرِيرِهِ». في سريره إلى وقت المساء؟!! أعتقد أن كثيرين يفعلون ذلك حرفيًا متى تأتَّت لهم الفرصة! فيتم فيهم القول «اَلْبَابُ يَدُورُ عَلَى صَائِرِهِ، وَالْكَسْلاَنُ عَلَى فِرَاشِهِ», ويا للكسل!! ويا لنتائجه المُرعبة!! ويكفي أن أُحيلك إلى سفر الأمثال لتبحث فيه بنفسك، لترى خسائر هذه الخصلة المُدمرة؛ فتجد الكسلان يفتقر (روحيًا وزمنيًا) ويشتهي (النصرة والنجاح و...) وليس له، ويستعطي (يتمنى أن يساعده أحد في تحقيق أحلامه) ولا يُعطَى، وغير ذلك (اقرأ على سبيل المثال أمثال 6: 6-11؛ 13: 4؛ 19: 15؛ 20: 4؛ 21: 5؛ 26: 14-16؛ ....). وهنا أذكر، بالارتباط بموضوعنا، قول الحكيم: «عَبَرْتُ بِحَقْلِ الْكَسْلاَنِ... فَإِذَا هُوَ قَدْ عَلاَهُ كُلَّهُ الْقَرِيصُ (الشوك)، وَقَدْ غَطَّى الْعَوْسَجُ (شجرة شوكية بلا ثمر) وَجْهَهُ، وَجِدَارُ حِجَارَتِهِ انْهَدَمَ» (أم24: 30-31)؛ هل رأيت الصورة المزرية: أشواك وانهدام ولا ثمر؟ وهل هناك تعبير عن الخطايا التي تحوط الحياة فتدمرها أبلغ من ذلك؟!
قيل قديمًا إن ”ذهن الكسلان معملٌ للشيطان“، وأعتقد أننا نتفق مع القائل. فكم مرة حرمنا الكسل من الوجود في محضر الله أو خدمته أو الدرس في كلمته وقضاء الوقت في الصلاة؟ وكم مرة الكسل وعدم الرغبة في بذل جهد في الأمور الفضلى، قادانا إلى قناة تليفزيونية ما كان ينبغي أن نشاهدها، بثَّتْ في أذهاننا أفكارًا شريرة وقادتنا إلى سقطات مريعة؟ وكم مرة الرخاوة والكسل ذهبا بنا إلى مواقع نجسة على الإنترنت لا تناسب مقامنا؟ وكم من مرة جلسات التراخي التي بلا هدف جعلتنا ”نمسك سيرة الناس“؟ وغير ذلك الكثير من مغبة الكسل المرير. فالكسول يستطيع أن يهدم، أما المجتهد فقط يبني.
انفض غبار الكسل يا صديقي، فنموك الروحي يحتاج إلى اجتهاد وعمل، وتذكر أن «اَلْعَامِلُ بِيَدٍ رَخْوَةٍ يَفْتَقِرُ، أَمَّا يَدُ الْمُجْتَهِدِينَ فَتُغْنِي» (أم10: 4)، وما في قلب الله من ناحيتك هو الغنى الروحي.
وقت الفراغ نتصرَّف كالأشرار
ويا ليته فعل شيئًا حسنًا بعد أن استيقظ في المساء. ليتك رنمت إحدى ترنيماتك الحلوة يا داود، أو اجتهدت أن تتمم شهوتك المعروفة بالوجود في محضر الله، أو صليت من أجل شعبك المحارب، أو قمت لتهتم بأمر من أمور مملكتك، أو لتفتقد غنيمة من غنيماتك! لكنه قام يتمشى على السطح! يا للفراغ القاتل! ويا للاستغلال الخاطئ للوقت! وبالطبع نحن في خطر عندما نسيء استخدام ما يسمونه ”أوقات الفراغ“. بل نحن لسنا بمأمن عندما يكون عندنا من الأصل ما يُسمَّى أوقات فراغ. فكم هي قصيرة الحياة! أقصر مما نعتقد! بخار يضمحل، قصة تنطوي، تُقرَض سريعًا فنطير (يع4: 14؛ مز 90: 9، 10). لذا وجب أن نحسن استغلال كل لحظة فيها.
صديقي الشاب، استفد بوقتك بطريقة سليمة، لأنك إن لم تفعل فالبديل هو الوقوع في الخطإ. لتكن كل لحظة من وقتك بنّاءة لك، روحيًا ونفسيًا وعمليًا واجتماعيًا. استثمر الوقت في أن تعرف الرب أكثر، وتخدمه أكثر. في أن تساعد الناس وتبنيهم. في أن تنمّي قدراتك وإمكانياتك. في أن تكون مفيدًا بكل صورة ـ وإلا فستَضُرّ وتُضَرّ.
عندما تكون الأسطح بلا أسوار
على أن اعتقادي أن الكارثة حلَّتْ لأن بيت داود لم يكن مُتمَّمًا فيه الوصية «إِذَا بَنَيْتَ بَيْتًا جَدِيدًا، فَاعْمَلْ حَائِطًا لِسَطْحِكَ لِئَلاَّ تَجْلِبَ دَمًا عَلَى بَيْتِكَ إِذَا سَقَطَ عَنْهُ سَاقِطٌ» (تث22: 8)، والذي سقط في قصتنا هو داود نفسه، صاحب البيت. لو كان السطح ذا سور ما كانت هناك الفرصة لأن يرى المنظر الذي أوقعه، ولو وُجد السور لما كان هناك اتجاه لعينيه إلا إلى أعلى، إلى السماء، وفي هذا الاتجاه الرفعة لا السقوط.
والسور هنا - باختصار - يتكلَّم عن الانفصال عن شرور العالم الذي نعيش فيه، عن المبادئ المختلفة عن مبادئ يراها مَنْ حولنا طبيعية جدًا. عمليًا، هذا يعني أن تكون طريقة تفكيري مختلفة عن الملايين من الزملاء والأتراب، ليس رغبة في التميُّز فحسب، بل لأني بنيتُ قناعاتي على أساس كلمة الله التي لا يعرفونها وإن عرفوها لا يقدِّرونها وإن قدَّروها فلن يستطيعوا أن يطبقوها؛ أما بالنسبة للمؤمن الحقيقي فقد وُلد بواسطتها، ولا بد أنه يقدِّرها لأنها من الله مصدر حياته، والروح القدس، عاملاً في الطبيعة الجديدة التي نالها، هو قوة تطبيقها.
فيما يتعلق بالتفكير والقرارات، فلم أعد مثل ”باقي الناس“: فإن كانوا هم يعتقدون أن المتعة الوقتية هي المنهج الأمثل لشاب اليوم، فأنا عيني على ما هو أبقى، على ما هو أبدي. وإن كانت كلمات الناس هي الأهم بالنسبة لهم، فرضى الله ومدحه هو ما لا أستطيع أن أعيش أنا بدونه. وإن كانوا يغفلون مبدأ الزرع والحصاد، فأنا لا أشك للحظة أنه دائمًا سارِ المفعول. وإن كان الخنزير يتلذَّذ بالأوحال، فالخروف لا يطيق لطخة دنس على صوفه الأبيض. اقتناعي بكل ما سبق، وعيشتي بناء على هذه القناعة، وتأثير ذلك على قرارتي، يشكِّل سورًا على سطحي، يمنع السقوط، ويسحب القلب إلى فوق، إلى الرفعة والنصرة.
* * * *
أضفنا في حلقتنا هذه لأسباب السقوط أسبابًا. فعرفنا خطورة ما بعد الانتصار، لذا وجب التحذر. ورأينا أننا إما في المعركة وإما الدمار، فلنتخذ مواقعنا السليمة لمجد الله. وعرفنا أن الكسل هو منبع المرار، فلنجتهد فهذا سبيل الرفعة. وعرفنا خطر أننا وقت الفراغ نتصرَّف كالأشرار، فلنحسن استغلال أوقاتنا. وأخيرًا رأينا الخطورة عندما تكون الأسطح بلا أسوار، فلنبنها.
وللدروس من سقطات داود بقية، نستكملها إن أبقانا الرب إلى عدد قادم.