عدد رقم 2 لسنة 2010
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
أربع نظرات إلى سدوم (2)   من سلسلة: أيها الأحداث لا تحبوا العالم

النظرة الثانية: نظرة الرب نفسه (تك 18)

رأينا في العدد السابق نظرة لوط إلى سدوم، وكيف رآها كجنة الرب كأرض مصر، بينما جاء التقرير الإلهي عن أهلها أنهم كانوا «أشرارًا وخطاةً لدى الرب جدًا» (تك13:13).  والآن سنتأمل في نظرة الرب إلى سدوم، وكيف رآها وقد عَظُمَ شرُّها أمامه، الأمر الذي تحقَّق بواسطة زيارة الملاكين لها (تك 19).

***

«قام الرجال وتطلَّعوا نحو سدوم»، وهم عبارة عن ملاكين والرب نفسه في ظهور خاص لا نقرأ عن مثيله، بعد أن انتهت زيارتهم لإبراهيم، «وكان إبراهيم ماشيًا معهم ليُشيِّعهم» (تك16:18).  وبعد ذلك نسمع الحوار الخاص الذي دار بين الرب وإبراهيم كاشفًا قلبه ونواياه لخليله من جهة سدوم.  لقد قصد الرب أن يُعْلِم إبراهيم بما سيفعله، ليس لأجل إبراهيم فقط، بل ليكون ما سيحدث لسدوم درسًا وعبرةً لأولاد إبراهيم من بعده، لكي يوصيهم أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برًا وعدلاً (ع 19)، ويُقدِّروا اعتبارات قداسة الله التي لا تتهاون مع الشَّر، والتي حوَّلت مُدن الدائرة إلى رماد في قضاءٍ شاملٍ مُخيف.  فيتعلَّم الأولاد والأحفاد أن يسيروا زمان غربتهم بخوف، لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلَّم به. 

في عددي 17، 18 عبَّر الرب عن تقديره ومعزَّته لإبراهيم، وفي عددي 20، 21 كشف عن مشاعره ونواياه نحو سدوم. «وقال الرب: إن صراخ سدوم وعمورة قد كثر، وخطيتهم قد عَظُمتْ جدًا. أنزل وأرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إليَّ، وإلا فأعلم».  وهنا أعلن الرب شرَّ سدوم الذي عظُمَ جدًا أمامه، ومع ذلك فقد تمهَّل ولم يوقع القضاء إلى الآن، لا لسبب إلا لأنه طويل الأناة وكثير الرحمة.  ولأن القضاء هو فعله الغريب، فهو يتأنَّى لعله توجد توبة من جانب الإنسان، وهو على استعداد أن يغفر ويرحم مهما كان الشرُّ عظيمًا.  إنه لا يُسَرُّ بموت الشرير، بل يُسَر عندما يرجع ويحيا.  وبالحقيقة قال عنه ميخا النبي: «مَنْ هو إلهٌ مثلك غافرٌ الإثم وصافحٌ عن الذنب» (مي18:7).  لهذا قرَّر أن ينزل ويرى حال المدينة، مُتلمِّسًا بوادر توبة صادقة، ومُعطيًا لهم فرصة أخيرة قبل وقوع القضاء.  وفي هذا نرى أن ديَّان كلَّ الأرض يصنعُ عدلاً، وهو لا يدين إلا بعد أن يثبت تمامًا وبكل وضوح، عناد وإصرار الإنسان على الشر، ورفضه التام للتوبة ولكل معاملات الله معه.  فهو «لا يشاء أن يَهلكَ أناسٌ، بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة» (2بط9:3).

ومن الواضح أن لوطًا نفسه لم يستشعر القضاء الآتي على المدينة، وكانت الأمور تسير بتلقائية. كان جالسًا في باب المدينة يُمارس عمله كمسؤولٍ وقاضٍ، يحكمُ حُكْمًا ويُدير شؤونَ البلاد عندما جاءه الملاكان على غير توقع، فأمسك بهما بإلحاح ليدخلا بيته، أما هما فكانا مُصِرَّين أن يبيتا في الساحة بالنظر للوضع الخاطئ الذي كان يعيش فيه.

كانت زيارة الملاكين لسدوم تتضمَّن ثلاثة أسباب على الأقل:

  1. هي زيارة إستكشافية: لقد حضرا ليتحقَّقا أن شرَّ سدوم هو أمرٌ واقع ومؤكَّد، ولكي يضبطا أهلها مُتلبسين في ذات الفعل.  وعندما دخل الملاكان إلى لوط، تجمَّع رجال المدينة على الباب، من الحدث إلى الشيخ،كل الشعب من أقصاها (تك4:19). ويا له من شرٍّ رهيب صار الجميعُ شركاء فيه من كبيرهم إلى صغيرهم، حيث تجمَّعوا بغرض واحد هو فعل الشَّر مع الرجلين.  خرج لوط لكي يحتوي الموقف قائلاً: «لا تفعلوا شرًّا يا إخوتي» (ع 7)، وحاول أن يسترضيهم ويعرض عليهم ابنتيه بدل الرجلين، ويا للعار! ومع ذلك رفضوا وأصرُّوا على طلبهم، وعاملوا لوطًا باحتقارٍ وعنَّفوه، وقالوا له: «ابعد إلى هناك.  ثم قالوا جاء هذا الإنسان ليتغرَّب وهو يحكم حُكمًا»، وألحُّوا عليه جدًا، وتقدَّموا ليُكَسِّروا الباب (ع 9). ولكن الملاكين مدَّا أيديهما وأدخلا لوطًا إلى البيت وأغلقا الباب، وضربا جميع مَنْ في الخارج بالعَمَى.  ومع ذلك كانوا يبحثون عن الباب لكي يدخلوا ويفعلوا الشر، «فعجزوا أن يجدوا الباب» (تك 11:19).  ومن هنا ندرك مدى شرهم، وكيف اشتعلوا بشهوتهم ونالوا جزاء ضلالهم المُحِقِّ.  كان العَمَى قضاءً مبدئيًا وعربونًا للدمار والحريق الآتي، وأنهم سيُكابدون عقاب نارٍ أبدية.  لكن هل استفادوا من هذه الضربة الأولية؟ كلا. وهذا يُذكِّرنا بقول الرب لشعبه: «على مَ تُضرَبون بعد، تزدادون زيغانًا» (إش5:1).  فالتأديب والقضاء الإلهي لا يقود الإنسان إلى الرجوع والاتضاع والتوبة، بل إلى مزيد من العناد والفساد .

    لقد جاء الملاكان ليُقدِّما تقريرًا إلى الله عن شرِّ المدينة الآثمة، بعد أن صارا هما أنفسهما شاهدين على ذلك. والله عندما يوقع القضاء سيُمسك الإنسان مُتلبِّسًا بخطاياه، وليس عند الله جرائم مُقيَّدة ضد مجهول، وأمامه يستدُّ كلُّ فم، وهذا ما نراه هنا، فيا له من إله مهوب!
  2. هي زيارة قضائية: فالملاكان أبلغا لوطًا أنهما سوف يقلبان مدن الدائرة قائلَين:      «لأننا مُهلكان هذا المكان إذ قد عَظُمَ صُراخُهم أمام الرب، فأرسلنا الربُّ لنُهلِكَه»  (تك13:19).  فهم ملائكته الفاعلون أمره عند سماع صوته.  فإذ بدا شرُّ سدوم واضحًا هكذا، كان عليهم أن يُهلكا المكان فورًا.
  3. هي زيارة خلاصية إنقاذية: حيث وُجِدَ في المدينة لوطٌ البار، ومن المستحيل أن الربَّ يُهلكُ البارَّ مع الأثيم، فيكونُ البارُّ كالأثيم، لهذا أخذ الملاكين وصيةً إلهية بإخراج لوط سالمًا.  وكانا يُعجِّلانه، ولما توانى، أمسك الرجلان بيده وبيد امرأته وبيد ابنتيه، لشفقة الرب عليه، وأخرجاه ووضعاه خارج المدينة (ع 16).   وبالحقيقة «يعلمُ الربُّ أن يُنقذَ الأتقياءَ من التجربة، ويحفظُ الأثمة إلى يوم الدِّين مُعاقبين» (2بط9:2).

وإلى اللقاء في العدد القادم لنرى النظرات الأخيرة على سدوم.

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com