كان الشغل الشاغل في الآونة الأخيرة هو موضوع ظهور أحد القديسين المنتقلين إلى السماء، وبالتحديد العذراء المطوبة مريم أم يسوع. ولأول مرة يُناقَش موضوعٌ مثل هذا على الفضائيات ووسائل الإعلام بشكل مثير للجدل على نطاق واسع. وانقسم الناس جميعًا بين مُؤيِّد وشاجب، بينما لم يُرد البعض أن يحسم الأمر إن كان هناك ظهورٌ أم لا؟ وأخذوا موقف الحياد.
وبكل تأكيد هناك ظهور بشكل ما. ولكن البعض يقول إنها ظاهرة طبيعية، والبعض الآخر يقول إنه عرض بأشعة الليزر، والبعض يقول إن ما يظهر هو مريم العذراء بنفسها، وذهب البعض أن قالوا إن ما يظهر هو الشيطان نفسه، مقتبسين من الكتاب المقدس قدرة الشيطان على الظهور في شكل «ملاك نور» (2كو11: 14). وسؤالنا الآن: هل هذا ظهور حقيقي للعذراء مريم في صورة مرئية؟ وهل يوجد ما يؤيده أو ما يناقضه في الكتاب المقدس؟ وما هي نتيجة مثل هذه الظاهرة؟ ولنا في ذلك عدة أسئلة يطرحها مؤيدو الظهور:
السؤال الأول: أليس هو امتياز أن يرى الشخص ظهورًا لأحد القديسين؟
ينقسم الوجود إلى قسمين رئيسيين، القسم الأول هو العالم الروحي، والثاني هو العالم المادي. والعالم الروحي أو المجال الروحي هو مجال غير منظور، وأما العالم المادي فهو مُدرَك بالحواس. أي أنه ملموس ومرئي ومسموع وله مذاق ورائحة. والإنسان الطبيعي يفهم في المنظور والملموس فقط، ولا يهتم بالجانب الروحي الغير مرئي، أما الإنسان الروحي فيهتم بالجانب الروحي وذلك دون أن يراه.
يقول الرسول بولس: «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله» (1كو2: 14)، ويقول أيضاً: «لأننا بالإيمان نسلك لا بالعيان» (أي رؤية العين) (2كو5: 7). ويُعرِّف الإيمان في رسالة العبرانيين أنه «هو الثقة بما يُرجى، والإيقان بأمور لا تُرى» (عب11: 1). أي أن الإيمان الحقيقي يعتمد في الأساس على عدم الرؤية.
إذًا فالمؤمن لا يجب أن يعتمد على ما يُرَى، بل يُصدِّق ويثق فيما لا يراه. كما يقول الرسول: «غير ناظرين إلى الأشياء التي تُرى، بل إلى التي لا تُرى» (2كو4: 18)، وهذا ما يُمسك به الإيمان. فمن صميم مفهوم الإيمان عدم السعي وراء المنظور. بل وإن التطويب قد أُعطي ليس لمن يَرى بل لمن لا يَرى: «طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو20: 29). فإن سلَّمنا على سبيل الجدل بصحة هذا الظهور، فلا ينبغي أن نتعلَّق به كأحد البركات التي نتكالب على رؤيتها، لأنه «طوبى للذين آمنوا ولم يروا» (يو20: 29). فالكتاب المقدس ينسب البركة لمن لا يَرى وإنما يُصدِّق الإعلان المكتوب ويؤمن به. وهذا الإيمان سيقترن بتغيير أدبي في الحياة يبقى ويزداد على مدى السنين، وهذه هي البركة الحقيقية. ولكنه من الواضح أنه ليس هناك امتياز لمن رأى ظهورًا ما بل على العكس فإن التطويب منسوب لمن لا يرى.
السؤال الثاني: ولكن أليس من الممكن أن يكون هذا الظهور هو أمرٌ مقررٌ من عند الله لتقوية إيمان المسيحيين في الظروف التي يمرُّون بها؟
وهذا سؤال منطقي ولكن، كما رأينا من قبل، فإن الاعتماد على الرؤية بالعين لأجل الإيمان هو أمر منافي لطبيعة الإيمان نفسها، وبالتالي فهو أمر غير مُستحَب وغير مقبول لدى الله. فهل من الممكن أن أُقوِّي إيماني بممارسة أمر غير محبب عند الله ومضاد لفكره؟ هذا سؤال أتركه للقارئ العزيز. ولكن لماذا لا نسمع رأي رب المجد يسوع في هذا الأمر؟ من المؤكد أنه صاحب المرجعية الأخيرة وأن قوله ليس بعده قول، أ ليس كذلك؟
قصَّ الرب يسوع على اليهود، وقت أن كان بالجسد على الأرض قصةً تعليمية، عن غني كان يعيش على الأرض في رغد الحياة ولا يهتم بأمور الله، وعن فقير مُعدَم اسمه لعازر كان يعرف الله. مات لعازر وذهب إلى الفردوس لكي يتعزَّى، وقابل إبراهيم أبا المؤمنين هناك ومكث في حضنه. أما الغني فمات وذهب إلى الجحيم حيث كان يتعذَّب في اللهيب. وعرض الرب حديثًا تم بين الغني وإبراهيم، طلب الغني في آخره أن يقوم لعازر من الأموات ويذهب لتحذير إخوته الذين على الأرض لئلا يلقوا نفس مصيره التعس. فقال الغني لإبراهيم: «إن مضى إليهم (إلى إخوتي) واحد من الأموات يتوبون» (لو16: 30)، فكان رد إبراهيم: «عندهم موسى والأنبياء ... إن كانوا لا يسمعون من موسى والأنبياء (الكتب المقدسة)، ولا إن قام واحدٌ من الأموات يُصدِّقون» (لو16: 31).
إذًا فهناك رأي يروق للإنسان هو أن الناس قد يؤمنون إن رأوا آية أو معجزة مثل ظهور أحد القديسين أو قيامة واحد من الأموات. ولكن من الواضح هنا أن الرب يسوع، قد علَّم ضد هذا الرأي، وأكَّد أنه لا فائدة تُذكر من ظهور القديسين الذين وصلوا إلى السماء، ولا من مشاهدة المعجزات والآيات، فهي لن تقود الناس لكي يؤمنوا. وحتى الذين آمنوا إذ رأوا الآيات التي صنعها يسوع في أورشليم في عيد الفصح، لم يأتمنهم يسوع على نفسه (يو23:2).
لا تأتي لي يا أخي بأمثلة واقعية ضد هذا التعليم المسيحي لكي تقنعني بالظهورات لئلا تنسب الجهل للرب يسوع المسيح معطي هذا التعليم. فالرب يسوع نفى أن يكون الإيمان عن طريق الظهورات والمعجزات بل وأرجع الإيمان إلى الإنصات لصوت الكتاب المقدس الذي هو كلمة الله، فإن «الإيمان بالخبر، والخبر بكلمة الله» (رو17:10).
إذًا يقول الرب يسوع لكل مَنْ يسعى وراء الظهورات والمعجزات: توقَّف عن ذلك وتوجَّه لكلمة الله فإنها وحدها فيها الدواء الشافي لكل مشاكل الإنسان في عدم إيمانه.
السؤال الثالث: ولكن ألا يؤدِّي الظهور لارتباط المسيحيين بالله وبكنيستهم أكثر؟
في الواقع إن مَنْ يحضر هذه الظهورات ويُحلِّل سلوكيات حاضريها ومَنْ يهتمون بها سوف يلمس بكل تأكيد، إن كان مُخْلِصًا وموضوعيًا، أن الحاضرين والمهتمين لا يهتمون سوى بصاحب الظهور. وتُقام التسابيح والتماجيد والتهليلات، وتُقدَّم الصلوات والعبادات والترانيم والعشور والنذور لصاحب الظهور. يسهر الآلاف حتى الصباح منادين ومسبِّحين قديسًا أو قديسة هو أو هي في نهاية الأمر مجرد بشر.
وهنا نسأل سؤلاً منطقيًا لكل مَنْ له ضمير: ما هي العبادة!!؟ وهل تُعَدُّ الصلاة أحد صنوف العبادة أم لا!!؟ هل يُعَدُّ التسبيح عبادة أم لا!!؟ وإجابة الضمير النقي هي بكل تأكيد: نعم إن الصلاة والتسبيح والتمجيد والترنيم عبادة!
وهل من الممكن أن تُقدَّم العبادة لغير لله؟ بكل تأكيد لا. فالكتاب يقول: «للرب إلهك تسجد وإياه وحده تعبد» (مت4: 10). والسؤال البديهي القادم هو: ألا تؤدي هذه الظهورات لتقديم كل صنوف العبادة من صلاة وتسبيح وتمجيد وترنيم للمخلوق دون الخالق؟ نعم هذا ما يحدث. وهل هذا أمرٌ يُسِرُّ الله؟ بكل تأكيد لا، بل إنه يجلب غضبه على مَنْ يقوم به.
إن ما يحدث يؤدي إلى أن يصبح صاحب الظهور هو موضوع انشغال وعبادة المسيحيين، أي أنه يزيد من انفصال الناس عن الله وازدياد تعلقهم بالبشر إلى حد العبادة.
وفي حادثة التجلِّي ظهر المسيح بهيئة خاصة لامعة وممجدة لثلاثة من الرسل، هم بطرس ويعقوب ويوحنا. فيقول الكتاب: «وبعد ستة أيام أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه وصعد بهم إلى جبل عال منفردين. وتغيَّرت هيئته قدَّامهم وأضاء وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور. وإذا موسى وإيليا قد ظهرا لهم يتكلمان معه» (مت17: 3). وقد انبهر بطرس بهذا المنظر وأراد أن يستبقيه، «فجعل بطرس يقول ليسوع: يا رب جيد أن نكون ههنا. فإن شئت نصنع هنا ثلاث مظال. لك واحدة ولموسى واحدة ولإيليا واحدة» (مت17: 4).
لقد حوَّل بطرس نظره قليلاً عن المسيح كالمركز الوحيد، وجعله إلى المسيح مع موسى وإيليا. ولاحظ معي أيها القارئ العزيز أنه لم يرفع نظره عن المسيح كُلية، ولكنه أضاف إليه موسى وإيليا. ويُعلِّق مرقس البشير مشيرًا إلى خطأ بطرس هذا إذ ساوى موسى وإيليا بالمسيح بالقول: «لأنه لم يكن يعلم ما يتكلَّم به إذ كانوا مرتعبين» (مر9: 6). ولم يكن بطرس يدرك أن ما يقوله إهانة للمسيح.
فماذا كانت إجابة السماء؟ كانت الإجابة أن اختفى موسى وإيليا على الفور بمجرد أن بدأ بطرس ينشغل بهما، ويقول البشير: «وفيما هو يتكلَّم إذا سحابةٌ نيِّرةٌ ظللتهم، وصوتٌ من السحابة قائلاً: هذا هو ابني الحبيب الذي به سررت. له اسمعوا» (مت17: 5). فقد رفضت السماء أن يتعلَّق أحد وينشغل بشخص آخر غير المسيح. فإذ رأى الآب بطرس وهو يساوي الابن الوحيد بالبشر، جاء الرد الإلهي قاطعًا.
ويضيف الكتاب قائلاً: «فرفعوا أعينهم ولم يروا أحدًا إلا يسوع وحده» (مت17: 8). فإن الانشغال والعبادة والتعلُّق والإعجاب هو بشخص واحد فقط هو الرب يسوع المسيح لاسواه. وأي قديس حقيقي إن سلَّمنا جدلاً أنه ظهر في شكل مرئي لن يرضى أبدًا أن يتلقَّى التسابيح والترانيم والصلوات والبخور والعبادة بل سوف يختفي على الفور، غيورًا على مجد المسيح. هل تظنون أنه يوجد قديس حقيقي يحب أن يتلقَّى المديح والإكرام ويُرحب بذلك؟ هل يكون بذلك مثالاً يُحتزَى به؟ كلا. وهذا يؤكد أن ما يظهر ليس قديسًا على الإطلاق.
كان كرنيليوس الأممي رجلاً «تقيًا وخائفًا الله مع جميع بيته، يصنع حسنات كثيرة للشعب ويُصلِّي إلى الله في كل حين» (أع10: 2)، وظهر له ملاك من الله آمرًا إياه أن يستدعي بطرس ليسمع منه كلامًا (أع10: 22). وكان كرنيليوس يعلم تمامًا أن بطرس ليس إلهًا ولا حتى ملاكًا بل مجرَّد إنسان، ولكن «لما دخل بطرس استقبله كرنيليوس وسجد واقعًا على قدميه» (أع10: 25). كان كرنيليوس بالطبع يسجد لبطرس سجود الاحترام والتكريم. فكرنيليوس كان يعبد الله ويعرفه ويخافه ويُصلِّي له. ولكن حتى سجود الاحترام والتوقير والتكريم رفض بطرس الرسول أن يقبله إذ اعتبره عبادة لا يصح أن تُقدَّم سوى لله. «فأقامه بطرس قائلاً: قم أنا أيضًا إنسان» (أع10: 26).
كذلك يوحنا الحبيب في سفر الرؤيا رأى ملاكًا في صورة بهية، وكان رَدُّ فعله هو أن خرَّ ساجدًا له. وبكل تأكيد كان الرسول يوحنا يعلم أنه ملاكٌ وليس إلهًا، وبكل تأكيد لم يكن يسجد له سجود العبادة. لكنه من هول الموقف ومن رهبة المنظر قدَّم له سجودًا، فما كان من الملاك إلا أن صحَّح له هذا الأمر وقال: «انظر لا تفعل. أنا عبد معك ومع إخوتك الذين عندهم شهادة يسوع. اسجد للّه» (رؤ19: 10). فكل ملاك من الملائكة القديسين لا يقبل أي إكرام أو سجود أو تسبيح أو عبادة أو صلاة تُقدَّم له. وهذا المثل مع المثل السابق يؤكد سخافة فكرة أن هناك سجودًا للعبادة وسجودًا آخر للإكرام. فالإكرام عن طريق السجود هو سجود للعبادة.
وهذا عكس الظهورات التي نتكلَّم عنها هنا، إذ نرى صاحب الظهور لا يهتم بأن يرفض أن تُقدَّم له كل صنوف العبادة التي لا تليق سوى بالله وحده من ترنيم وصلاة وتسبيح ونذور وبخور وفي بعض الأحيان سجود.
والسؤال الأخير هو: ولكن هناك أناس بسطاء يعجبون بالظهورات وتزيد من تعلقهم بديانتهم، اتركوهم في حالهم فإنهم بسطاء، أليس من الممكن أن يتعامل الله معهم هكذا؟
بالطبع هناك فارق كبير بين البساطة وعدم المعرفة. فالعين البسيطة، كما يقول الكتاب، هي العين التي لا ترى سوى المسيح فقط، ولا تنشغل ببريق هذا العالم (مت6: 19-24). فيكون للإنسان هدفٌ واحد هو المسيح. ولكن ما يتحدث عنه صاحب السؤال هو عدم المعرفة الذي يقول عنه الكتاب المقدس: «هلك شعبي من عدم المعرفة» (هو4: 6). فهل من الممكن أن نترك هؤلاء الذين لا يفهمون ولا يدركون جوهر الأمور الروحية دون أن نشرح لهم الحق؟ أ لسنا مسؤولين أن نُحذِّرهم من الدينونة العتيدة حتى لا يكونوا مخدوعين؟
والرسول بطرس في رسالته الثانية أكَّد أنه شاهَد المسيح على جبل التجلِّي، ولكنه في هذه المرة لم يذكر موسى وإيليا إذ قد تعلَّم الدرس. ونسمعه يقول: «لأننا لم نتبع خرافات مُصنَّعة إذ عرَّفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه، بل قد كنا مُعاينين عظمته (لاحظ أنه لم يقل عظمتهم). لأنه أخذ (وليس أخذوا) من الله الآب كرامةً ومجدًا، إذ أقبل عليه (وليس عليهم) صوتٌ كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه (وليس معهم) في الجبل المقدس» (2بط1: 16- 18). وفي الآية التالية مباشرة يقول: «وعندنا الكلمة النبوية وهي أثبت التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضع مظلم» (2بط1: 19). فهم شاهدوا مجد الرب يسوع كالملك على جبل التجلِّي، وهو ما سيحدث مستقبلاً عندما يأتي في ملكوته، وهذا ما تكلَّمت عنه النبوات. وهكذا فإن الكلمة النبوية قد تثبَّتت بحادثة التجلِّي التي تطابقت معها كنموذج عملي. وبدون الكلمة النبوية تصبح حادثة التجلِّي بلا معنى إذ لا يوجد لها سند كتابي. ويضيف مؤكِّدًا أهمية كلمة الله قائلاً: «التي تفعلون حسنًا إن انتبهتم إليها كما إلى سراج منير في موضوع مظلم» (2بط1: 19). أي أن كلمة الله هي السراج المنير الوحيد، وما في العالم من جهل هو الظلمة بعينها. لهذا يجب أن نستند على كلمة الله، ونمتحن كل شيء في ضوئها. إنها ثابتة لا تتغيَّر عندما تزول السماوات والأرض، وهي أكثر ثباتًا من كل الظهورات حتى لو حدثت.