هي عذراء مغمورة
من بلدة الناصرة التي قيل عنها: «أَمِنَ ٱلنَّاصِرَةِ يُمْكِنُ
أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ صَالِحٌ؟» (يو1: 46)، مخطوبة لرجل نجارٍ اسمه يوسف،
فمَن جهلوا حقيقة المسيح - له المجد - قالوا عنه: «أَلَيْسَ هَذَا ٱبْنَ
ٱلنَّجَّارِ؟» (مت13: 55). كما كانت فقيرة
أيضًا، فعندما قدموا التقدمة عن الطفل يسوع، جاءوا بتقدمة الفقراء! «وَإِنْ لَمْ تَنَلْ يَدُهَا كِفَايَةً لِشَاةٍ
تَأْخُذُ يَمَامَتَيْنِ أَوْ فَرْخَيْ حَمَامٍ» (لا12: 8؛ لو2: 24).
اسمها ”مريم“،
المُشتَق معناه من المُر، ومع ذلك لم يكن هناك أثرًا لأيَّة مرارة في حياتها أو
كلماتها! لم تكن مريم مشهورة بجمالها أو
مالها أو خطيبها، بل كانت مجرد فتاة فقيرة، لم نكن لنسمع عنها قَطّ إن لم يكن الله
قد اختارها لهذه المهمة العظيمة!
وهذا هو الدرس
الأول الذي نتعلمه من حياتها، أن الله يختار أناسًا عاديين للقيام بمهام غير
عادية!
فليس المهم شكل
الإناء أو جماله وأناقته، إنما ما يهمّ الله حقًا هو نظافة الإناء!
«فَانْظُرُوا دَعْوَتَكُمْ أَيُّهَا الْإخْوَةُ،
أَنْ لَيْسَ كَثِيرُونَ حُكَمَاءَ حَسَبَ ٱلْجَسَدِ، لَيْسَ كَثِيرُونَ
أَقْوِيَاءَ، لَيْسَ كَثِيرُونَ شُرَفَاءَ، بَلِ اخْتَارَ اللهُ جُهَّالَ
الْعَالَمِ
لِيُخْزِيَ الْحُكَمَاءَ. وَاخْتَارَ اللهُ ضُعَفَاءَ
الْعَالَمِ
لِيُخْزِيَ الْأَقْوِيَاءَ.
وَاخْتَارَ اللهُ أَدْنِيَاءَ الْعَالَمِ وَالْمُزْدَرَى وَغَيْرَ الْمَوْجُودِ لِيُبْطِلَ
المَوْجُودَ، لِكَيْ لَا يَفْتَخِرَ كُلُّ ذِي جَسَدٍ أَمَامَهُ» (1كو1:
26-29).
وبالرغم من الدور
العظيم الذي اختارها الله لتقوم به، إلا أن ما ذكره الوحي عنها لا يتعدى سوي
عبارات قليلة تكرر ذِكر البعض منها مرتين. وبالتأمل في هذه العبارات القليلة المكَرّرة،
تتضح لنا بعض الصفات التي ميّزت هذه الشخصية الرائعة.
أولها: مُنْعَمُ
عَلَيْهَا،
ووَجَدْتِ
نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ: «فَدَخَلَ إِلَيْهَا
ٱلْمَلَاكُ
وَقَالَ: سَلَامٌ لَكِ أَيَّتُهَا ٱلْمُنْعَمُ
عَلَيْهَا!». وقال أيضًا: «لَا تَخَافِي يَا
مَرْيَمُ، لِأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ»
(لو1: 28، 30).
الأمر الذي يرتبط
ارتباطًا وثيقًا بالصفة الثانية التي تَحلَّت بها مريم، وهي: الاتضاع،
فالله «يُعْطِي
نِعْمَةً لِلْمُتَوَاضِعِينَ» (أم٣: ٣٤)، ويَرْفَعُ الْمُتَّضِعِينَ
(لو1: 52). فها هي تصف نفسها - مرتين
أيضًا - بأنها ”أَمَةُ الرَّبِّ“، فبمجرد ما أخذت البشارة من الملاك، أجابته
فورًا: «هُوَذَا
أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ» - أي
أنا خادمة للسَيِّد طوعًا واختيارًا «لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ» (لو1: 38). وبينما تتساءل أليصابات في تعجبٍ: «فَمِنْ
أَيْنَ لِي هَذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟»، تقول هي: «لِأَنَّهُ
نَظَرَ إِلَى ٱتِّضَاعِ
أَمَتِهِ!»
(لو1: 43، 48).
ويظهر تواضعها
هذا في كونها لم تفتخر، ولم تقتحم، ولم تقترح علي الرب أيّة اقتراحات! فلم تتفاخر - ولا مرة واحدة - بكونها أم يسوع «لِأَنَّهُ
مَنْ يُمَيِّزُكَ؟ وَأَيُّ شَيْءٍ لَكَ
لَمْ تَأْخُذْهُ؟ وَإِنْ كُنْتَ قَدْ
أَخَذْتَ، فَلِمَاذَا تَفْتَخِرُ كَأَنَّكَ لَمْ تَأْخُذْ؟»
(1كو4: 7).
وعندما أرادت أن
تري الرب، لم تقتحم المشهد، بل وقفت خارجًا «فَجَاءَتْ
حِينَئِذٍ إِخْوَتُهُ وَأُمُّهُ وَوَقَفُوا خَارِجًا وَأَرْسَلُوا إِلَيْهِ
يَدْعُونَهُ»
(مر3: 31).
كذلك في عُرس
قانا الجليل عندما لاحظت نفاذ الخمر، لم تقترح على الرب طريقة معينة يتدخل بها،
إنما أخبرته - فقط - أن ليس لهم خمر (في4: 6)، فقال لها نفس ما قاله لتلاميذه
لاحقًا: «لَمْ
تَأْتِ سَاعَتِي بَعْدُ»، «إِنَّ وَقْتِي لَمْ
يَحْضُرْ بَعْدُ». فما كان
منها ومنهم إلا الإذعان له وانتظار توقيتاته، مع أنها لم تكن قد رأت أيّ من آياته
بعد، فهذه كانت بداية الآيات التي صنعها يسوع.
وهنا نراها توجه
الأنظار إليه وحده «فقَالَتْ أُمُّهُ لِلْخُدَّامِ: مَهْمَا قَالَ لَكُمْ فَافْعَلُوهُ»
(يو2: 5)، وهي نفس العبارة التي قالها فرعون عن يوسف - كرمز للمسيح - في وقت
المجاعة: «اذْهَبُوا إِلَى يُوسُفَ، وَٱلَّذِي يَقُولُ لَكُمُ
افْعَلُوا»
(تك41: 55). وهو درس آخر رائع نتعلمه من
حياة المُطوَّبة مريم، أنه في جوعنا وعطشنا وقلة أفراحنا، ليس لنا إلا أن نثبِّت
أعيننا عليه، فهو المصدر الوحيد لشبعنا وارتوائنا وفرحنا.
أما ثالثًا فهي مُطوَّبة
وإن
كان هناك تطويبًا خاصًا بها وحدها: «فَهُوَذَا مُنْذُ الْآنَ جَمِيعُ الْأَجْيَالِ
تُطَوِّبُنِي»
(لو١: ٤٨)، ذلك أنها أم المسيح حسب الجسد، لكننا نستطيع مشاركتها التطويبة الأخرى
التي قالتها لها أليصابات: «فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا
قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ ٱلرَّبِّ!» (لو1: 45).
فلقد تميَّزت
العذراء بإيمانها، والإيمان يُنشئ إيقانًا بأمورٍ لا تُري، الأمر الذي لم يفعله
زكريا الكاهن المتقدم في السن والخبرة. مع
أنه عرف يقينًا عن إسحاق ابن شيخوخة ابراهيم وسارة، ومع ذلك لم يستطع تطبيق ما
عرفه عن الله في حياته الشخصية، فسأل الملاك سؤالاً استنكاريًا ينمّ عن عدم تصديقه:
«فَقَالَ زَكَرِيَّا لِلْمَلَاكِ: كَيْفَ أَعْلَمُ هَذَا، لِأَنِّي أَنَا شَيْخٌ
وَٱمْرَأَتِي مُتَقَدِّمَةٌ فِي أَيَّامِهَا؟» (لو١: ١٨)، أي أعطني علامة! ولقد كان الصمت هو العلامة! «وَهَا أَنْتَ تَكُونُ صَامِتًا وَلَا تَقْدِرُ
أَنْ تَتَكَلَّمَ، إِلَى ٱلْيَوْمِ ٱلَّذِي يَكُونُ فِيهِ هَذَا، لِأَنَّكَ لَمْ
تُصَدِّقْ كَلَامِي ٱلَّذِي سَيَتِمُّ فِي وَقْتِهِ». بينما صَدّقت مريم كلام الله وخصصته لنفسها،
فعرفت بثقة الإيمان أن تجيب: «ليكن (لي أنا) كقولك»
(لو1: 38)، بالرغم من أنه لم يُسمع من قبل عن عذراء تحبل! وأيضًا برغم صغر سنها وقلة خبرتها الروحية، فإنها
استطاعت - من خلال تسبحتها - أن تقول: «آمَنْتُ لِذَلِكَ
تَكَلَّمْتُ»
(مز116: 10).
تري هل نطبّق نحن
ما نعرفه عن الله في حياتنا؟ وماذا عن
كيفية تجاوبنا مع المواعيد التي يكلّمنا بها الله من خلال كلمته؟! «لأَنْ
مَهْمَا كَانَتْ مَوَاعِيدُ اللهِ فَهُوَ فِيهِ النَّعَمْ وَفِيهِ الآمِينُ،
لِمَجْدِ اللهِ، بِوَاسِطَتِنَا» (1كو1: 20).
أما عن الدرس
الأخير الذي يلفت النظر هنا، فهو تدخل الرب ومقاطعته لخدمة زكريا بينما كان يكهن
في نوبته، وكذا مقاطعته لبرنامج يوسف ومريم في ترتيبات زواجهما. تُرى أيّ البرنامجين كان أفضل؟ برنامج الله أم برامجهم؟ فهل نسمح لله أن يقاطع خططنا وبرامجنا، وأن
يتدخل بطريقته الخاصة وتوقيته المحدد في حياة كلٍ منا؟!
وللحديث بقية في عدد آخر بنعمة الله.