”توريا بيت“ عارضة
أزياء وعدَّاءة أسترالية، تبلغ من العمر 31 سنة، جمعتها صداقة حقيقية مع زميل
طفولتها الشرطي ”مايكل هوسكين“ منذ أن كان عمرهما لا يتجاوز السبع سنوات. كانا لا يفترقان أبدًا، وكان كل منهما يعتبر
الآخر توأم روحه، ونصفه الآخر.
وبعد قصة حب وصداقة حقيقية دامت لأكثر من 15 عامًا، قررا
الزواج، ورتبا جميع التفاصيل. ولكن قبل الزفاف بأيام قليلة، وقعت الكارثة، إذ
تعرَّضت ”توريا“ لحاث حريق، شوَّه 80 % من جسدها، وذلك أثناء مشاركتها
في ماراثون للجري في إحدى غابات أستراليا التي اشتعلت فيها النيران فجأة.
كان بقاء ”توريا“ على قيد الحياة معجزة في حد ذاته. وكانت في حاجة ماسة لوجود ”حبيبها“
بجوارها. وهكذا واجه ”مايكل“ تحدٍ
كبير. ولكن سرعان ما حسم قراره، وضحى
بأحلامه وطموحاته، من أجل شريكة عمره، فاستقال من عمله حتى يتفرغ لمرافقة ”توريا“ التي
ظلت محتجزة في المستشفى لمدة 5 أشهر، بين الحياة والموت. وبعد استقرار حالتها الصحية كان معها لحظة
بلحظة، ولمدة 4 سنوات، أجرت خلالها 200 عملية جراحية، لم يتمكنوا من تخفيف الضرر
الذي أحدثته الحروق بها، بل فقدت – وإلى الأبد – ملامحها الجميلة وجسدها المشدود
الممشوق، بل وفقدت أيضًا أربعة من أصابع يدها اليسرى، وآخر من يدها اليمنى.
ولكن كل هذه المعاناة لم تُغيِّر من مشاعر ”مايكل“ تجاه
محبوبته ”توريا“، ولم يُنهي حلم زواجه من محبوبته، لأن بعض الأشياء
المادية لم تعد متوفرة، كما لم يُنهي حلمه تغيِّر شكل وملامح حبيبته. فيوم خروجها من المستشفى، اشترى خاتم ألماس
ليفاجئها به، مُعلنًا على تصميمه على تتويج قصة حبهما بالزواج، بعد تأجيل استمر
لعدة سنوات.
وتقول ”توريا“ إن
مساندة ”مايكل“ منحتها ثقة كبيرة بالنفس، وحوَّلتها من شابة مسكينة مُحبَّطة يائسة
مُشوَّهة، إلى المرأة الأكثر إلهامًا للآخرين في أستراليا. لقد أصبحت ”توريا“ مُتحدثة
تحفيزية تبث الأمل والتفاؤل والبهجة في كل مَن يسمعها، وغزت مؤلفاتها
الأسواق. كما عادت من جديد إلى المشاركة
في الماراثونات. وهي تعيش الآن في سعادة
حقيقية مع حبيبها وطفلهما الأول الذي وضعته بعد 7 سنوات من الحادث.
أحبائي: ما أروع ”الحب الحقيقي“! ”الحب“ ... ما أروع هذه الكلمة! ما أعذب وقعها على الأذن! وما أعظم تأثيرها على النفس! إنها تسمو وترقى بالإنسان إلى أعلى، بعيدًا عن
عالم مشحون بالكراهية والأنانية، بالبغضة والعداء. إلى أي حد هي رائعة، بل ولازمة، لأنه لا توجد
عاطفة تسبي وتُشبع وتُقدّس الحياة أكثر من عاطفة المحبة.
ولكنني لا أعتقد أن هناك كلمة قد كثر تداولها، فأُسيء
استخدامها، وفقدت معناها الحقيقي عند الكثيرين، مثل كلمة ”الحب“، حتى أنها أصبحت
تُطلق على أية نزوة أو شهوة، أو عاطفة أو انفعال. لقد تناولتها قصائد الشعراء، وابتذلتها أغاني
السفهاء، فحوَّلتها من بذل وعطاء، إلى استحواذ واقتناء، فانحطت بمدلولها من أفكار
السماء، إلى معاني سخيفة وحمقاء. ففي معظم
الأغاني والقصائد الشعرية يُوصف الحب بأنه أشواق وآهات، شهوة نهمة، ومشاعر محمومة،
وعاطفة مشبوبة، لم تَنَل كفايتها ولم تشبع قط من المحبوب. فالحب في نظرهم عمل غير إرادي، فيتكلمون عن
”الوقوع في الحب“، ”عدم مقاومة الحب“، بل و”جنون الحب“.
وللأسف إن هذا النوع من الحب أفقد الكلمة مفهومها
الحقيقي، وما هو في الواقع إلا انعكاس بيَّن حالة الإنسان التعسة والبائسة،
وعواطفه وأفكاره المُشوَّشة التي لوثتها الخطية.
إن المتأمل المُدَّقق في نوعية هذا الحب يُدرك أنه ”الأنانية مُجسَّدة“،
فهو يبحث عن وسيلة لإشباع النفس والتمركز حول الذات.
ولذلك يجدر بنا أن نقول إنه في اللغة اليونانية التي
كُتِّب بها العهد الجديد، هناك ثلاث كلمات تُعبِّر عن الحب أو المحبة:
(1) ”أيروس“: وهي المحبة
الحسية الجسدية المرتبطة بالشهوة، وهذه تُوجد في العهد القديم فقط، مثلما أحب
أمنون أخته ثامار (2صموئيل 13: 1). وهذه
المحبة الشهوانية تطلب ما لنفسها فقط.
وهذا النوع من المحبة يقود صاحبه للاضطراب النفسي والارتباك، والضعف الجسدي
والمرض، وإلى الدنس الفكري والجسدي، كما حدث مع أمنون الذي ”أُحْصِرَ لِلسُّقْمِ“ وصار
”ضَعِيفًا هَكَذَا مِنْ صَبَاحٍ إِلَى صَبَاحٍ؟“.
وأيضًا كانت هذه المحبة سببًا في تدمير مستقبل أخته، بل وفي تدمير حياته
هو.
(2) ”فيليو“: وهي المعزَّة أو المودّة أو المحبة المتبادلة؛ محبة
الصديق لصديقه، والتعلُّق وحب الإعجاب بصفات شخص ما. وهذا النوع من الحب لازم لاستمرار العلاقات
الإنسانية والاجتماعية، فبالتأكيد نحن نحب الذين يحبوننا «لَوْ كُنْتُمْ مِنَ الْعَالَمِ لَكَانَ الْعَالَمُ يُحِبُّ خَاصَّتَهُ» (يوحنا15: 19).
(3) ”أجابي“: وهي محبة الله المُضحية لأجلنا دون سبب فينا. وهذا هو أسمى أنواع الحب؛ الحب المُضحي الباذل،
الحب الإلهي، محبة الله للعالم رغم خطاياه «هَكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ» (يوحنا3: 16)، ومحبة المسيح لنا «أَحَبَّ الْمَسِيحُ ... الْكَنِيسَةَ» (أف5: 25)، وأيضًا المحبة التي يجب أن تكون بين
المؤمنين «وَصِيَّةً جَدِيدَةً أَنَا
أُعْطِيكُمْ: أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُمْ بَعْضًا.
كَمَا أَحْبَبْتُكُمْ أَنَا تُحِبُّونَ أَنْتُمْ أَيْضًا بَعْضُكُمْ
بَعْضًا» (يوحنا13: 34). إنه الحب الذي تكلَّم عنه الرب مُعلّمًا به
تلاميذه «لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ
مِنْ هَذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ» (يوحنا15: 13).
هذا هو الحب الحقيقي الذي يبذل ويُضحي من أجل المحبوب. وهذا الحب هو ما أعنيه بالقول إنه لا توجد
عاطفة تسبي وتُشبع وتُقدّس الحياة أكثر من عاطفة المحبة هذه.
وحينما يُكلمنا الكتاب المقدس عن هذه المحبة الباذلة
المُضحية، فهو لا يصفها بأنها ”عاطفة لا نستطيع التملّص منها“، ولكنها عمل إرادي
من العطاء المتدفِّق المستمر؛ فهو تكريس إرادي للمحبوب، كما قال الرب يسوع عن
الذين أحبهم: «لأَجْلِهِمْ أُقَدِّسُ أَنَا ذَاتِي» (يوحنا17: 19). فالحب الحقيقي منبعه الإرادة وليس العاطفة.
وإذا راجعنا وصف الرسول بولس عن المحبة في الأصحاح
الثالث عشر من رسالته الأولى إلى أهل كورنثوس (ع4-8)، فسندرك للتوِّ أنه يتكلَّم
عن نوعية من الحب مركزها الإدراك الواعي الذي يتعامل مع العقل والإرادة.
فالمُحبُّ يقدر أن يتحمل بصبر وبطول أناة، ولا يفقد
أمله، ويُعطي الآخرين فرصة ثانية، وفي نفس
الوقت يحتفظ بعواطف مُشفقة، ويستمر في العطاء بالرغم من الإساءات المتكررة «الْمَحَبَّةُ تَتَأَنَّى وَتَرْفُقُ». ويقدر أن يرى
إكرامًا أسمى يُقدَّم للآخرين، بدون أن يتحرك فيه غيظ أو غيرة «الْمَحَبَّةُ لاَ تَحْسِدُ». وليس مندفعًا
ولا فخورًا «الْمَحَبَّةُ لاَ تَتَفَاخَرُ». وليس معتدًا
بالذات «الْمَحَبَّةُ ... لاَ
تَنْتَفِخُ، وَلاَ تُقَبِّحُ».
والمُحبُّ ليس أنانيًا مُحبًا للذات، لا يتمركز حول
إشباع عواطفه ورغباته، بل رحيمًا كريمًا سخيًا «الْمَحَبَّةُ ... لاَ تَطْلُبُ مَا لِنَفْسِهَا»، بل تطلب ما لغيرها.
ويقدر أن يتحمل الإغاظة والمقاومات، ويلتمس العذر للمُخطئ «الْمَحَبَّةُ ... لاَ تَحْتَدُّ».
والمُحبُّ ينظر إلى تصرف كل إنسان من أفضل وجوهه، ولا
يُفسر صفات وكلمات وأفعال الآخرين تفسيرًا سلبيًا «الْمَحَبَّةُ ... لاَ تَظُنُّ السُّؤَ». ولا يُذيع
مذمة، ويفرح بما هو صالح ومستقيم، ولا يُسرّ مطلقًا بأن يتكلَّم عن خطايا وتقصيرات
الغير «الْمَحَبَّةُ ... لاَ تَفْرَحُ
بِالإِثْمِ بَلْ تَفْرَحُ بِالْحَقِّ». وصبور جدًا «الْمَحَبَّةُ ... تَحْتَمِلُ كُلَّ شَيْءٍ»، «الْمَحَبَّةُ تَسْتُرُ كُلَّ الذُّنُوبِ» (أم10: 12)،
«الْمَحَبَّةَ تَسْتُرُ كَثْرَةً مِنَ الْخَطَايَا» (1بط4: 8).
والمُحبّ لا يرتاب مطلقًا «الْمَحَبَّةُ ... تُصَدِّقُ كُلَّ شَيْءٍ». ودائم السرور
ومتفائل، لأنه يعتمد على قوة خارجه هي قوة الله «الْمَحَبَّةُ ... تَرْجُو كُلَّ شَيْءٍ». ويرضى بكل شيء
منتظرًا تدخُّلات النعمة الإلهية «الْمَحَبَّةُ
... تَصْبِرُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ». ومهما أتى عليه من الظروف فلا يمكن أن ييأس «اَلْمَحَبَّةُ لاَ تَسْقُطُ أَبَدًا».
وهذه المحبة هي العلامة الخارجية لكل مؤمن حقيقي، والقوة
الداخلية لكل علاقة وخدمة مقبولة «لأَنَّ
الْمَحَبَّةَ هِيَ مِنَ اللهِ، وَكُلُّ مَنْ يُحِبُّ فَقَدْ وُلِدَ مِنَ اللهِ
وَيَعْرِفُ اللهَ» (1يو4: 7). وبدون المحبة لسنا شيئًا في نظر الله.