بعد
حادثة شفاء الرجل المُقعد من بطن أمه؛ الذي كان جالسًا يستعطي عند باب الهيكل، تعرَّض
الرسولان بطرس ويوحنا - أثناء شهادتهما في أورشليم - لعاصفة من التهديدات الشديدة،
مِن قِبَل رؤساء الكهنة وشيوخ اليهود (أع4: 22). لكن ماذا كان رد فعل الرسولين؟ هل اكتفيا أن يشهدا في أورشليم؟ هل تسلل الخوف لقلبيهما؟ كلا. بل
ازدادا قوة وثباتًا وشجاعة.
ذات
التهديدات التي استهدف العدو أن يُرعبهما بها، ويُطفئ غيرتهما، استخدمها الرب كي
توقد نارًا مُقدسة لا تطفئها قوة أخرى. لم
يتراجعا في شهادتهما قيد أنملة، لم يتزعزع قلبيهما، بل تزلزلت الأرض بتضرعاتهما. عواصف التهديد دفعت التلاميذ أن يسكبوا قلوبهم
أمام الرب بنفس واحدة. ونحن نتعلَّم دروسًا
عظيمة من هذا الموقف المبارك الذي أخذه الرسل، والتي نحن في حاجة شديدة جدًا أن
ننتبه لها في هذه الأيام على وجه الخصوص. نُخطئ
عندما نظن أن تهديدات العدو تُطفئ الغيرة المقدسة وتقوض الشهادة ولكن ــ بالاستناد
على نعمة الرب ــــ تزيدنا قوة، وتضاعف العمل، فيُستعلن مجد الرب بصورة أوسع
مجالاً، وأروع جمالاً. بنعمة الرب سنتأمل
في عشر بركات خرجت من رحم التهديدات:
(1) مشاركة
إخوتنا بكل شيء لنتحد معًا في رفع التضرعات:
«وَلَمَّا أُطْلِقَا أَتَيَا إِلَى رُفَقَائِهِمَا وَأَخْبَرَاهُمْ
بِكُلِّ مَا قَالَهُ لَهُمَا رُؤَسَاءُ الْكَهَنَةِ وَالشُّيُوخُ. فَلَمَّا سَمِعُوا، رَفَعُوا بِنَفْسٍ
وَاحِدَةٍ صَوْتًا إِلَى اللهِ»(أع4: 23، 24). هنا نرى دعوة لاجتماع لطرح الأزمة والصلاة. هكذا فعل دانيال والفتية قديمًا، وكذلك فعل
بطرس ويوحنا في هذا الموقف. ليتنا نتعلم أن القضية ليست شخصية، فالأمر لا يتعلق
بهذا الكارز أم ذاك المرسل بعينه، ولا يتعلق بك أو بي, بل الأمر يرتبط بالشهادة
للرب في جيلنا، وأن المسؤولية أكبر منا كأفراد، والمقاومة عنيفة وثقيلة، لذلك يجب
أن نُخبر إخوتنا بالضيق الذي نمر به في طريق الخدمة، لكي تتحد قلوبنا في التماس
الرب وقدرته، لنختبر كجماعة تدخله الإلهي.
يُسر الرب أن يرانا مُتحدين بنفس واحدة ومحبة واحدة، حتى لو كلف الرب أن
يرفع حرارة التجربة، إن كان ذلك سيجعل القلوب تنصهر معًا، وتتحد معًا في بوتقة
الصلاة.
(2) نسبح الرب المقتدر
ونعبده بحرارة رغم كل التهديدات:
«رَفَعُوا
بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ صَوْتًا إِلَى اللهِ وَقَالُوا: أَيُّهَا السَّيِّدُ، أَنْتَ
هُوَ الإِلَهُ الصَّانِعُ السَّمَاءَ وَالأَرْضَ وَالْبَحْرَ وَكُلَّ مَا فِيهَا» (أع4: 24). يا له من أمر عجيب وغير مألوف، لكونه عظيم،
ويسمو فوق ما هو طبيعي ومعتاد! لم يفتتحوا
صلواتهم بالصراخ، بل بالتسبيح، لم يبدأوا بالحديث عن رهبة عدوهم، بل عن عظمة
إلههم. تحولت عيونهم عن الملا وتطلعت إلى ساكن العلا. أعلنوا أن الرب هو ”السَّيِّدُ“، وهم يتذكرون
حديثه الأخير، وكيف أعلن لهم - أن له سلطان - قبيل تكليفه إياهم بالإرسالية
العظمى: «دُفِعَ إِلَيَّ كُلُّ
سُلْطَانٍ فِي السَّمَاءِ وَعَلَى الأَرْض….وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ
إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ» (مت28: 18-20). فإن قامت الأرض
وهاج البحر وكل ما فيهم، مَن يستطيع أن يقف ضد سيد الكون المقتدر؟ . يا ليت
صلواتنا تبدأ بالتركيز على عظمة إلهنا، فيأخذ كل شيء حجمه الصحيح، فيتبدد الخوف
ويزداد منسوب الإيمان.
(3) نتذكر
موقف العالم من المسيح كما جاء في النبوات:
«الْقَائِلُ
بِفَمِ دَاوُدَ فَتَاكَ: لِمَاذَا ارْتَجَّتِ الأُمَمُ وَتَفَكَّرَ الشُّعُوبُ
بِالْبَاطِلِ؟ قَامَتْ مُلُوكُ الأَرْضِ، وَاجْتَمَعَ الرُّؤَسَاءُ مَعًا عَلَى
الرَّبِّ وَعَلَى مَسِيحِهِ»(أع4: 25 ،26). الأمر بالنسبة لهم لم يكن مفاجأة خيبت آمالهم، بل كان الضيق
متوقعًا، لأن الرب سبق وأنبأهم في ختام حديث العلية عن موقف العالم منهم. لم يعدنا الرب أن العالم سوف يعقد معاهدة سلام
مع تلاميذ المسيح، لكنه وعدنا أننا نسير في موكب نصرته. نغلب العالم بالإيمان حتى وإن بدا مؤقتًا أنه انتصر،
كما هو ظاهر للعيان. لكن لنثق أن المسيح
غلب العالم، وبحكمة فائقة يستخدم – بسلطانه - نتائج سياسات ومؤامرات العالم
الشريرة، ليحقق بها مسرة الصلاح الإلهي.
(4) نذكر
أن سيدنا نفسه أهين وظلم وتألم كثيرًا ومات:
«لأَنَّهُ بِالْحَقِيقَةِ اجْتَمَعَ عَلَى فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ،
الَّذِي مَسَحْتَهُ، هِيرُودُسُ وَبِيلاَطُسُ الْبُنْطِيُّ مَعَ أُمَمٍ وَشُعُوبِ
إِسْرَائِيل»(أع4: 27). الأمر الذي يبث شجاعة في قلوب رسل المسيح أن
المسيح داس طريق الألم قبلهم، وكان حمل الله الوديع محاطًا بوحوش الأرض. يا له من شرف أن نتبع ذات خطواته، ونُظهر ذات
الوداعة والتسليم الكامل لله الذي يقضي بعدل.
(5) ندرك
أن مشورة الله ستُنجَز باستخدام البشر كآلات:
«لِيَفْعَلُوا كُلَّ مَا سَبَقَتْ فَعَيَّنَتْ يَدُكَ وَمَشُورَتُكَ أَنْ
يَكُونَ» (أع4: 28).
الحق الثمين الذي يُشجع المؤمنين المضطهدين، أن الله لديه خطة عظيمة، ولا
يقوى عليه إنسان، ولا يستطيع احد أن يضيف أو يقلل من جرعة الضيق التي قصدها في هذه
الخطة المُتقنة. كما تألم المسيح ومات حسب
الكتب لتتحقق خطة الله لخلاص البشر. ورغم
قساوة الطريقة التي مات بها، لكن يعلن الرسول بطرس لليهود أن الله هو الذي سمح بأن
يضعوا أياديهم الأثيمة ويصلبوه، فاستخدم الله مؤامرة الأشرار -التي سيدينهم عليها
- ليحقق بها خطته «هَذَا
أَخَذْتُمُوهُ مُسَلَّمًا بِمَشُورَةِ اللهِ الْمَحْتُومَةِ وَعِلْمِهِ
السَّابِقِ، وَبِأَيْدِي أَثَمَةٍ صَلَبْتُمُوهُ وَقَتَلْتُمُوهُ» (أع2: 23).
(6) نستودع نفوسنا للرب وننشر أمامه رسائل التهديدات:
«وَالآنَ يَارَبُّ، انْظُرْ إِلَى تَهْدِيدَاتِهِمْ»(أع4: 29). الرب يرى كل شيء، لكن جيد أن نتعلَّم أن ننشر
رسائل التهديد أمام الرب. كما لو كانوا
يقولون لله: ”أنت هو المعني بالأمر، وليس نحن، إنهم يضطهدون اسمك، لأن رئيس هذا
العالم يبغض ابن الله. كما أنك يارب هو الشخص الوحيد الذي له نرفع دعوانا. أنت ”المحامي المقتدر“ الذي نسلمه كل أوراق
القضية، أنت هو ملاذنا الوحيد الآمن، والصديق المؤتمن“.
(7) نطلب
من الرب أن يمنحنا شجاعة في الشهادة وثبات:
«امْنَحْ عَبِيدَكَ أَنْ يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ بِكُلِّ مُجَاهَرَة»(أع4: 29).ما أعظمها وأعجبها
طلبة! الناس تتوقع أن المسيحيين يلجأون لإلههم كي يحفظهم فقط من الخطر، وينجيهم من
الموت، أو ينصرهم على أعدائهم في تلك الحرب الضروس.هنا نكتشف ما هي رغبة شهود المسيح
الأمناء، أنهم لم يسعوا للانتقام من أعدائهم، أو ابتغوا خراب بيوتهم، بل ترجوا
خلاص نفوسهم.ونظرًا لأن طبيعة الإنسان الهشة تفرض نفسها وتظهر مخاوفها الدفينة،
لذلك طلبوا من الرب معونة خاصة كي لا يتراجعوا أمام التهديدات بل يمنحهم شجاعة
وثبات في الشهادة.
رائع أن تكون رغبتنا لا أن نواجه الناس بأفكارنا وكلامنا ونظرياتنا ...
إلخ. بل كما طلب الرسل «يَتَكَلَّمُوا بِكَلاَمِكَ». الغرض من الشهادة المسيحية أن يسمع كل الناس
كلامه الطيب الذي فيه حياة للناس وهذا الكلام المقصود هو ”خبر الإنجيل“.
(8) نرجو أن يٌكرم المسيح، وأن تُجرى باسمه عجائب وآيات:
«بِمَدِّ يَدِكَ لِلشِّفَاءِ، وَلْتُجْرَ آيَاتٌ وَعَجَائِبُ بِاسْمِ
فَتَاكَ الْقُدُّوسِ يَسُوعَ»(أع4: 30). يا للعجب! أتطلبون الشفاء؟! أيهمكم آلام الآخرين، أم آلامكم؟! أتشفقون على أنفسكم أم الآخرين؟! أي نبل هذا!! هذا هو قلب المسيحي الفائض بالرأفات. إنهم يُشبهون سيدهم الرحيم، الذي لم ينقطع جوده
ولطفه، حتى في مشهد القبض عليه، فامتدت يده الشافية لتُبريء جروح واحد من الذين
جاءوا ليضعوا آياديهم الأثيمة عليه. سُرَّ
الله أن يجيب هذه الطلبة الرقيقة، بطريقة تفوق التصور، مُستخدمًا حتى ظل بطرس
عندما كان يخيم على أحد المرضى الذين أحضروهم إليه فيبرأ (أع5: 15، 16). وظهر للجميع أن يد الله الرحيمة امتدت بقوة
شافية، ليس فقط استجابةً لطلبة هؤلاء الأبطال النبلاء الرحماء، الذين انشغلوا بخير
مضطهديهم ومبغضيهم، وهم في غمرة تجربتهم وضيقهم، بل كان الغرض الأقصى هو إكرام
الاسم الحسن؛ اسم المسيح وتعظيمه.
(10)نعلم
أن المجاهرة والملء بالروح وليدا جهاد الصلوات:
«وَلَمَّا صَلَّوْا تَزَعْزَعَ الْمَكَانُ الَّذِي كَانُوا مُجْتَمِعِينَ
فِيهِ، وَامْتَلأَ الْجَمِيعُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ، وَكَانُوا يَتَكَلَّمُونَ
بِكَلاَمِ اللهِ بِمُجَاهَرَةٍ ... وَبِقُوَّةٍ عَظِيمَةٍ …. وَنِعْمَةٌ عَظِيمَةٌ
كَانَتْ عَلَى جَمِيعِهِمْ»(أع4: 31، 33). ما أعظم تأثير
الصلاة! القوة لا تأتي بالثقة في الذات
واستعراض الإمكانيات،لا وألف لا. القوة في
الشهادة تأتي عندما نأتي ضارعين للرب باتضاع وانكسار، ليس باعترافات كثيرة عن
ضعفنا، لا مطلقًا، بل عندما نفرغ من ذواتنا وننسى ما فينا تمامًا، ونركز أنظارنا
على عظمته، ونضع قلوبنا على اعتبارات مجده، حينئذٍ يأتي الملء من الروح
القدس. الشجاعة في الشهادة هنا ليست حماسة
ثورية، بل غيرة مقدسة، ليس غرضها استعراض القوة، بل غيرة يحركها طاعة الرب،
والمجاهرة بالإنجيل تأتي كنتيجة تلقائية للامتلاء بالروح القدس.
(11)
نشترك بنفس واحدة في تسديد الاحتياجات:
«وَكَانَ
لِجُمْهُورِ الَّذِينَ آمَنُوا قَلْبٌ وَاحِدٌ وَنَفْسٌ وَاحِدَةٌ، وَلَمْ يَكُنْ
أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّ شَيْئًا مِنْ أَمْوَالِهِ لَهُ، بَلْ كَانَ عِنْدَهُمْ كُلُّ
شَيْءٍ مُشْتَرَكًا» (أع4: 32).من بركات الضيق أنه
يُوحد قلوب المتألمين. الرب يستخدم نار
التهديدات ليذيب القلوب لا رعبًا بل حبًا، وتزداد التصاقًا واتحادًا ببعضهم البعض. كل الممتلكات ترخص في عيون أصحابها وتزداد
غلاوة النفوس. حسبوا بالحق أن المودة أهم من المادة وأن أعظم استثمار للمال
والممتلكات هو إنفاقها لتسديد إحتياجات الآخرين.