عدد رقم 3 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
حروب العهد القديم: دينونة أم إبادة جماعية؟  

قد يكون أكثر ما يميز القرنين الماضي والحالي هو أحداث الإبادة العنصرية.  فمن المذابح السريانية والأرمنية في بدايات القرن الماضي، إلى التطهير العنصري الذي تعرّض له اليهود على يد النازية، مرورًا بالقضية الفلسطينية، ووصولاً إلى إبادة المسيحيين والأيزيديين في العراق وسوريا في العقد الحالي.  لا بد لأي متفرج موضوعي على الأخبار أن يشعر بالاشمئزاز والغثيان من هذه الأحداث.  فحياة الإنسان مُقدسة ولا يحق لأي كائن أن يسفك دم كائن آخر، فما بالك إن كان سفك الدم هذا منظمًا وهادفًا إلى إبادة شعب بأكمله؟!

كثيرًا ما يربط البعض بين أحداث الإبادة العرقية هذه وبين ما نقرأه عن إبادة الكنعانيين في العهد القديم.  ويستعمل الكثير من النقاد آيات العهد القديم لاتهام الله بالإرهاب.  فهل يصح القول إن الله، حاشا له، مجرم وعنصري وقاتل، كما يدعون؟!  لا نستطيع الإجابة على هذا السؤال ما لم نحيَ أحداث التاريخ كما جرت، وليس كما يصورها البعض لنا.  لذا دعونا نتعرف أولاً على كنعان وحضارتها إثر عودة اليهود من مصر على يد موسى.

يرد سفر التكوين أصول كنعان إلى حام أبيه، ونوح جده.  جغرافيًا، كوّنت كنعان ما يعرف اليوم بفلسطين والأردن، كما كانت تضاف إليها أحيانًا أجزاء من سوريا ولبنان.  كانت ملتقى حضارات كثيرة، إذ كان موقعها الجغرافي يربط أفريقيا بأوروبا وآسيا.  لم يجتمع الكنعانيون تحت راية أمة أو مملكة واحدة، بل كان لكل مدينة ملكها وجيشها وآلهتها ونظامها السياسي المستقل.  في المقابل كانت حضارة واحدة تربط المدن الكنعانية ببعضها، خاصة فيما يتعلق بعاداتهم وتقاليدهم وعباداتهم.  كان ”إيل“ رئيس آلهة كنعان، واسمه يعني ”الأقوى“ أو ”الرئيس“.  ”إيل“ هو زوج ”عشيرة“ ”السائرة على البحار“، ووالد ”بعل“ إله الرعد، الذي فيما بعد حصل على مكانة أرقى من مكانة والده ”إيل“.  وكانت ”عناة“ زوجة ”بعل“ وشقيقته في آن معًا.  وكانت تعرف بإلهة الحرب والفتن.  إضافة إلى ”إيل وعناة وبعل وعشيرة“، عبد الكنعانيون عشرات الآلهة مثل ”شمش وموت وعشتروت وملكوم ويم وغيرهم“.  لكن لماذا أصدر الله حكمه بالدينونة على كنعان؟  للإجابة على هذا السؤال، لا بد لنا من التوقف عند وجهة النظر التي يقدمها لنا الكتاب المقدس لدراستها والتأمل بها.  يُقدِّم الكتاب تبريرات ثلاثة للحرب على كنعان: تعدد آلهتهم، طقوس الجنس في معابدهم، وطقوس التضحية بالأطفال.

(1) تعدد الآلهة: ”قل لي مَن تعاشر، أقل لك مَن أنت“.  قد تنطبق هذه المقولة على الدين بشكل كبير، فيما لو صغناها بالشكل التالي: ”قل لي مَن هو إلهك، أقل لك مَن أنت“.  نقرأ في سفر التكوين أن الله خلق الإنسان على صورته ومثاله.  الله كائن حي، خالق، مبدع، مُحب، مُضح، معطاء، عامل وحر، وبالتالي، فالإنسان يمتلك مثله هذه الصفات.  للأسف سقط الإنسان وتشوهت شخصيته، ولم يعد يُشبه الله.  ولأن الله «جَعَلَ الأَبَدِيَّةَ فِي قَلْبِهِمِ» (جا3: 11)، تشوهت صورة الله عند الإنسان، فقام باختراع آلهة تشبهه مثل ”إيل” الأب والزوج والرئيس، و”بعل“ أو ”هدد“ إله الرعد و”يم“ إله البحر، و”مت“ إله الموت، وغيرهم.  لا شك أن كنعان سمع من أبيه حام وجده نوح عن إله إسرائيل، لكن من المؤكد أيضًا أنه ضل الطريق، وبدل أن يشبه كنعان إلهه، صارت آلهته تشبهه، فكانت تتزوج وتلد وتتقاتل وتتصارع وتتحالف وتزني وتطلّق وتقتل وتسبي وتشتهي وتجوع وتعطش وتموت أحيانًا.  ولأن الإنسان يتأثر بآلهته، كان الكنعانيون يعملون تمامًا ما تعمله آلهتهم، من قتال وممارسة الجنس والأكل والشرب.

(2) طقوس الجنس في معابد الكنعانيين: لأن الكنعانيين رسموا آلهتهم على صورتهم ومثالهم، كانت هذه الآلهة تتزوج وتلد وتحب وتعشق وتختلف مع بعضها البعض.  وجد الباحثون نقشًا على حجر في أوغاريت السورية يظهر ”إيل“ بصورة الثور الذي يجسد الشدة والقوة. ولأن آلهة الكنعانيين كانوا يتزوجون ويتناسلون مثل البشر، أصبح الكنعانيون يمارسون شعائر الجنس المقدس تحت الأشجار وعلى المرتفعات كما نستدل من سفر إرميا 3: 6 «هَلْ رَأَيْتَ مَا فَعَلَتِ الْعَاصِيَةُ إِسْرَائِيلُ؟  اِنْطَلَقَتْ إِلَى كُلِّ جَبَل عَال، وَإِلَى كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ وَزَنَتْ هُنَاكَ».  ويذكر موقع New World Encyclopedia أن معابد الكنعانيين كانت كناية عن غرفة كبيرة يحيط بها شرفة وفناء واسع.  كان المدخل يحتوي على مذبح حجري يقود إلى القدس الداخلي.  عثر الباحثون خلال التنقيب في المعابد على أوانٍ خزفية للزيت والكحول وبخور ومناضد لتقديم الذبائح وتماثيل لآلهات عاريات.  ولكسب رضى الآلهة وللحصول على الخصوبة كان الكهنة، رجالا ونساء، يمثلون العلاقة الجنسية التي يقوم بها الآلهة مثل إيل وعناة، أو بعل وعشيرة أمه وشقيقته في آن، وينخرطون فيما يسمى ”شعائر الجنس المقدس“، لتحفيز الآلهة على العلاقة الجنسية التي ينتج عنها خصوبة ومطر وخير.  وكان الكاهن يلعب دور ”بعل“ في هذه العلاقات الجنسية، فيما الكاهنة تلعب دور ”عشيرة“.  كانت هذه العلاقات تتم في المعبد، في أجواء مشبعة بالسحر والشعوذة، وتأخذ طابعًا شاذًا يتمثل في علاقات جنسية جماعية وفردية.  ويذكر سفر الملوك الأول 14: 22-24 أن «عَمَلَ يَهُوذَا الشَّرَّ فِي عَيْنَيِ الرَّبِّ وَأَغَارُوهُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ مَا عَمِلَ آبَاؤُهُمْ بِخَطَايَاهُمُ الَّتِي أَخْطَأُوا بِهَا.  وَبَنَوْا هُمْ أَيْضًا لأَنْفُسِهِمْ مُرْتَفَعَاتٍ وَأَنْصَابًا وَسَوَارِيَ عَلَى كُلِّ تَلّ مُرْتَفِعٍ وَتَحْتَ كُلِّ شَجَرَةٍ خَضْرَاءَ.  وَكَانَ أَيْضًا مَأْبُونُونَ فِي الأَرْضِ، فَعَلُوا حَسَبَ كُلِّ أَرْجَاسِ الأُمَمِ الَّذِينَ طَرَدَهُمُ الرَّبُّ مِنْ أَمَامِ بَنِي إِسْرَائِيلَ».  المأبون حسب قاموس المعاني هو المتهم بعيب أو وصمة أو من تُفعَل فيه الفاحشة.

(3) طقوس التضحية بالأطفال: «وَلاَ تُعْطِ مِنْ زَرْعِكَ لِلإِجَازَةِ لِمُولَكَ لِئَلاَّ تُدَنِّسَ اسْمَ إِلهِكَ.  أَنَا الرَّبُّ» (لا18: 21).  نهى الرب شعبه أن يضحوا بأطفالهم لمولك أو أي إله آخر، ليس فقط في سفر اللاويين، إنما أيضًا في  سفر الملوك الثاني وإرميا وحزقيال وإشعياء.  يذكر المؤرخ المسيحي ”هنري هالي“ أن علماء الآثار وجدوا بقايا أطفال في جرار فخارية، تم تقديمهم بشكل تضحيات لبعل.  كانت التضحيات تتم خلال الاحتفالات الدينية التي يتم فيها ممارسة الجنس لتكريم الآلهة، قبل أن يُرمَى الطفل  في النار.  ويذكر موقع الغارديان في عدده الصادر في 21 يناير (كانون الثاني) 2014 أن أعمال التنقيب في مدينة قرطاج الفينيقية (تونس)، كشفت عن مقابر أطفال في جرار خزفية، إلى جانب نقوش تقول: ”شكرًا للآلهة لأنها استجابت لي“.  بعض النقوش أظهرت صورة كاهن يحمل جثة طفل بين ذراعيه، مما يُوحي بأنه يقدم ضحية للإله.  ويذكر المؤرخ الروماني ”ديدوروس“، أيضًا حسب صحيفة الغارديان، أن القرطاجيين كانوا يأتون بأطفالهم ويضعونها بين يدي تمثال الإله ”كرونوس“ المصنوع من برونز.  كانت يدا التمثال مفتوحتين إلى الأسفل، مما يسمح للأطفال بالانزلاق نحو تنور ملتهب في جوف الأرض.  ويذكر أيضًا المؤرخ ”ديدوروس“ أن بعض المواطنين الأغنياء كانوا يتبنون أطفالاً فقراء، ويربونهم ليقدموهم فيما بعد ذبائح بدلاً عن أطفالهم.  كان لاعبو الآلات الموسيقية يطلقون الموسيقى الصادحة أثناء الاحتفالات كيما تغطي على أصوات الأطفال الباكين والمذعورين، كما كان يُمنع على الأمهات النواح والعويل.  وردًا على بعض المشككين في صحة هذه الأخبار نشرت جريدة الديلي ميل البريطانية (Daily Mail) في عددها الصادر بتارخ الاثنين 31 ديسمبر (كانون الأول) 2018 تقريرًا بعنوان ”أخبار المؤرخين اليونانيين عن طقوس التضحية بالأطفال في قرطاجة حقيقية“.

في خلاصة هذا المقال، يَطرح السؤال نفسه: هل كانت حروب العهد القديم تطهيرًا عرقيًا، أم دينونة للكنعانيين على شرورهم؟  يحدد موقع ويكيبيديا التطهير العرقي بما يلي: ”هو الإزالة المُمنهَجة القسرية، لمجموعات إثنية أو عِرقية، من منطقة معينة، وذلك مِن قِبَل مجموعة عرقية أخرى أقوى منها، غالبًا بنيَّة جعل المنطقة متجانسة عرقيًا“.  من الواضح لمن يقرأ الكتاب المقدس بشفافية وموضوعية أن الله لم يدعُ ولو لمرة واحدة لإبادة الكنعانيين لأسباب عرقية أو إثنية.  لا بل، يقول الله لشعبه في سفر التثنية 9: 5: «لَيْسَ لأَجْلِ بِرِّكَ وَعَدَالَةِ قَلْبِكَ تَدْخُلُ لِتَمْتَلِكَ أَرْضَهُمْ، بَلْ لأَجْلِ إِثْمِ أُولئِكَ الشُّعُوبِ يَطْرُدُهُمُ الرَّبُّ إِلهُكَ مِنْ أَمَامِكَ».  كان الله واضحًا أنه لم يسمح بإبادة الكنعانيين لانتمائهم العرقي، إنما لشرورهم التي لم يحيدوا عنها على الرغم من أناته وصبره عليهم لما يزيد عن أربعمائة سنة.  لم تكن دينونة كنعان الأولى في التاريخ كما أنها لن تكون الأخيرة.  فلقد سبق دينونة كنعان طوفان نوح، وإحراق سدوم وعمورة.  كما أن  المسيح أخبرنا عن دينونة أعظم سوف تأتي على الساكنين في الأرض.  هذه الدينونة لن تقتصر على بقعة معينة من العالم، بل سوف تشمل الأرض كلها، إذ يعود رب المجد إلى الأرض ليدين الأحياء والأموات.  يقول الرب في سفر الرؤيا: «وَهَا أَنَا آتِي سَرِيعًا وَأُجْرَتِي مَعِي لأُجَازِيَ كُلَّ وَاحِدٍ كَمَا يَكُونُ عَمَلُهُ.  أَنَا الأَلِفُ وَالْيَاءُ، الْبِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ، الأَوَّلُ وَالآخِرُ.  طُوبَى لِلَّذِينَ يَصْنَعُونَ وَصَايَاهُ لِكَيْ يَكُونَ سُلْطَانُهُمْ عَلَى شَجَرَةِ الْحَيَاةِ، وَيَدْخُلُوا مِنَ الأَبْوَابِ إِلَى الْمَدِينَةِ، لأَنَّ خَارِجًا الْكِلاَبَ وَالسَّحَرَةَ وَالزُّنَاةَ وَالْقَتَلَةَ وَعَبَدَةَ الأَوْثَانِ، وَكُلَّ مَنْ يُحِبُّ وَيَصْنَعُ كَذِبًا».  وتجيب الكنيسة بإيمان ورجاء: «آمِينَ.  تَعَالَ أَيُّهَا الرَّبُّ يَسُوعُ» (رؤ22: 12-15، 20).

توني سماحة

© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com