عدد رقم 3 لسنة 2019
أعداد سابقة سنة:   عدد رقم:
 
    أرسل المقالة لصديق   أضف المقالة للمفضلة Share
مؤثر أم مُتأثر؟  

ما أسهل السير مع التيار، خاصة مع ما يصاحبه من دفء وأمان الشعور بأنك مع الجموع، والاستمتاع بتأييد وتصفيق المحيطين، وما أكثر تكلفة الوقوف والسير ضد التيار، بما يُصاحبه من نظرات الاستغراب والاستهجان والرفض، وأحيانًا التهديد من المناقضين، لكن إذا أردنا أن نُرضي الرب، فالسؤال الأهم بالنسبة لنا، ليس ما هو الأسهل، لكن ما هو الأصح بحسب فكر الرب.  والواقع يظهر والكتاب يُعلِّم أن سير الكثيرين في طريق وتيار معين لا يعني بالضرورة صحة هذا المسار، ولذلك كم نحتاج أن نمتحن كل تيار مؤثر يشكل في حياتنا وقراراتنا، وعلينا أن نكون مستعدين لرفض كل المؤثرات غير المتوافقة مع كلمة الله، مهما كان تيارها جارفًا ومهما كانت صعوبة المواجهة وتكلفتها، ونعيش حياتنا فقط بما يرضي إلهنا وسيدنا، في انفصال صحيح عن القبح المنتشر بسبب التقليد واستسهال المعتاد والمُتَفَق عليه.

ومتى كان الحديث عن حياة متميزة وجميلة، فكالمعتاد دعونا نبحث في شخصية ذاك الذي أعطى الصفات الجميلة جمالها وحلاوتها، عندما عاشها، فأصبحت واقعًا مُعاشًا؛ أقصد شخص المسيح الفذ الفريد الذي استحق وحده أن يُقال عنه: «كُلُّهُ مُشْتَهَيَاتٌ» (نش5: 16).

هل كان المسيح مُقلّدًا لأحد؟  هل يُمكنك أن تضبطه في أي موقف مُستسهلاً العيشة بحسب ثقافة المجتمع دون قناعة كاملة منه؟  كم مرة تصرف من منطلق رغبته في إرضاء أصدقائه أو حتى أعدائه؟  كم مرة انحنى تحت ضغط الظروف مهما كانت؟  وللتبسيط ولتوضيح الصورة دعونا نتكلَّم عن بعض أوجه جماله في هذا الأمر من خلال بعض النقاط:

(1)   تأثير المجتمع:

إن مجتمعاتنا تؤثر فينا بشدة.  فلكل مجتمع ثقافته وأفكاره وتقاليده التي تفرض نفسها على كل أفراد المجتمع، من كبيره إلى صغيره.  ولقد عاش المسيح كإنسان في مجتمع له تقاليده، بل لقد اصطبغت تقاليد مجتمعه بمسحة روحية، أضافت المزيد من القدسية والإلزام على الجميع بضرورة اتباعها.  ولقد خضع كل أبناء جيله لهذه التقاليد، بل لقد اعتبروها واحدة من أهم مظاهر الروحانية أن يتمسك المرء بتقليد الآباء والشيوخ، ولقد توارثوها وعلموها بعضهم لبعض، دون مراجعة أو مطابقة مع كلمة الله، فخرج مجتمع كامل متقبل لهذه التعاليم، فالناس يعيشون بها ويحكمون على الآخرين من خلالها.  في مثل هذا المجتمع ظهر المسيح، لكن هذا الشخص الفريد عاش حرًا من هذه التقاليد، غيرَ متأثرٍ بها، لم يُلزم نفسه بها، ولم يخلط بينها وبين طاعة وصايا الله، بل إنه في كثير من المواقف قصد ألا يلتزم بها ويكسرها، لكي يُذكر سامعيه وقتها بأن الفارق كبير جدًا بين تقليد الشيوخ ووصية الله، بل ليصدمهم ويُنبههم بأن تقليد الشيوخ هذا الذي يقدسونه كانوا يكسرون به وصية الله، ولقد كلفته مواقفه هذه الكثير من النقد والتوبيخ.

(2)   تأثير الناس:

كثيرون ساروا في طريق إرضاء الناس ولا سيما في مرحلة الشباب، كثيرون استمدوا قبولهم وقيمتهم من نظرات الإعجاب والرضا في عيون من حولهم.  كثيرون يرتعبون من مجرد تخيل احتمال غضب أو عدم إعجاب المحيطين بهم، فهناك من عاش أسيرًا لرضا الكبار والمتقدمين، فقالوا كلامهم وتصرفوا تصرفاتهم طمعًا في مدحهم وثقتهم.  وآخرون عاشوا عبيدًا لرأي أقرانهم فيما يسمونه ضغط الأقران، وبسبب هذا الضغط كم من كلمات سفيهة انتشرت، وتصرفات قبيحة أصبحت عادات، وملابس غريبة صارت أساسًا في الموضة!  أما المسيح فلم نتعلَّمه هكذا.  لقد رفض ضغط الرغبة في إرضاء الفريسيين والكهنة قادة زمانه الروحيين، باتباع منهجهم وطريقتهم في تعاليمه وتعامله مع السبت واختلاطه بالعشارين والخطاة.  لقد انتقدوه على الكثير من تصرفاته، وهو كان يُمكنه ببساطة أن يتفادى انتقادهم بأن يعيش تحت تأثير آرائهم لكنه – له المجد – عاش  حرًا من مخاوف عدم رضاهم عنه، بل لم يخشَ تهديدهم أكثر من مرة بمحاولات قتله، فالناس ورأيهم وتهديدهم لم يكن لهم أقل تأثير على منهجه وحياته وتعليمه وكلماته، فلقد ذهب إلى أشد الأماكن تهديدًا، مُسلمًا نفسه فقط لمشيئة الله.

(3)   تأثير الظروف:

الجميع يتغير بفعل الظروف، والكثيرون يُرددون أنهم اضطروا لتصرفات معينة تحت تأثير ظروف معينة، ولولا هذه الظروف، لما فعلوا هذه الأفعال، والحقيقة إن الظروف المعاكسة هي الكاشف الأدق لحقيقة الإنسان، فالإنسان بدون اختبار بالوقوع تحت تأثير الضغوط، لا يُمكنه أن يعرف حقيقة نفسه.  فالبعض ينهار تحت تأثير الحرمان والاحتياج.  والبعض ينهار تحت ضغط الإغراء أو التهديد.  وآخرون ينهارون بسبب الفشل والإحباط.  وهناك من يتغير بسبب أفعال الناس وظلمهم وكرههم.  أما المسيح – له المجد – وقد اختبر كل هذه المؤثرات والضغوط، عاش حرًا منها تمامًا، غير متأثرٍ بها، مُحافظًا على استمرار سيره بمنتهى الثبات، في طريق تتميم مشيئة الله في حياته.

سرُ تفرده: كيف عاش حرًا من هذه المؤثرات؟

إن حياة التفرد الحقيقي وعدم التأثر التي عاشها المسيح يمكن أن نُرجعها لسببين على الأقل:

أولاً: حالة الوعي والصحو الدائم الذي جعله يمتحن كل شيء، والمصحوب بذهن نقي ممتلئ بفهم صحيح لكلمة الله، يُميّز الحسن ويتمسك به.  هناك احتياج مُلح في أيامنا هذه لليقظة لامتحان كل المؤثرات التي تفرض نفسها على حياتنا، لتُوضَع تحت امتحان كلمة الله.

ثانيًا: حالة دائمة من القوة الروحية والأدبية الحقيقية، للوقوف ضد التيار، بل والسير في الاتجاه المضاد، بحسب ما تُعلّمه كلمة الله وتحدده مشيئته الخاصة لكل موقف.  هذه القوة التي تُمكن المرء من الاستغناء عن رضا الناس، وتحمُّل غضبهم بل وتحمُّل أقسى الظروف مع استمرارية العيشة في رضا الله.

وكلا الأمرين أعتقد لا يمكن الوصول إليهما إلا من خلال الشركة الدائمة والحقيقية مع الله.  ففي محضره أنتبه وأمتحن كل شيء.  ولست أعرف مكانًا آخر يُمكنني فيه أن أُميز الأمور بشكل صحيح.  وهناك أيضًا أنال المعونة والتشديد للسير بحسب كلمته.

كم كان ومازال مؤثرًا!

من الجانب الآخر، لم يكن شخص المسيح فقط غير متأثر بما حوله من تقاليد المجتمع وأراء الناس وضغط الظروف، لكنه كم كان مؤثرًا!  فبالرغم من الحياة القصيرة التي عاشها (فقط ثلاثة وثلاثين عامًا وأشهر قليلة)، وبالرغم من قصر فترة خدمته العلنية (ثلاث سنين وثلاثة شهور)، وصغر مساحة الأرض التي خدم فيها (لم يخرج خارج حدود إسرائيل في خدمته)، وبالرغم من عدم استخدامه لأدوات ووسائل تسهل انتشار وسعة التأثير (لم يكتب كتابًا، ولم يرفع سيفًا)، إلا أنه ترك أثرًا عميقًا جدًا في الكثيرين ممن تقابل معهم، فتغيرت حياتهم تمامًا من عمق الخطية والنجاسة، إلى حياة القداسة والطُهر، بل إنهم وبسبب قوة التأثير الذي عمله فيهم، كانوا هم شخصيًا مُؤثرين فيمن حولهم، فانتقل تأثيره للألوف، بل للملايين حول العالم.  والعجيب أنه على الرغم من نهاية حياته منذ ألفي عام تقريبًا، إلا أنه مازال يحمل أقوى تأثير على قلوب الناس وعقولهم، فتتغير حياتهم بسبب كلماته وحياته وموته.

ونحن مدعوون أن نتعلمه ونعيشه، فنكون أحرارًا من كل مؤثرات سلبية تفرض نفسها علينا بسبب المجتمع  بأفكاره، والناس بآرائهم، والضغوط  بتنوعها.  بل إننا مدعوون لنحمل تأثيره، بأن نعيش حياته، ونقول كلماته، فيراه الناس فينا، فيتغيرون.  وما أجمل وأمجد مثل هذه الحياة التي شرفنا الرب بدعوتنا لنعيشها في تبعيته!


© جميع حقوق الطبع والنشر محفوظة - كنائس الأخوة بجمهورية مصر العربية
للإقتراحات والآراء بخصوص موقعنا على الأنترنت راسلنا على webmaster@rshabab.com